إذكاءُ الثورة العِلميَّة العربيَّة

البروفيسور إدغار شويري

إذكاءُ الثورة العِلميَّة العربيَّة

البروفيسور إدغار شويري

مدير برنامج الهندسة الفيزيائية في جامعة برينستون

ورئيس الأكاديمية اللبنانية للعلوم

هل يمكن للعالم العربي أن يصبح مساهما ً فعالا ً في تقدم العلوم كما كان الحال منذ عدة قرون؟ هل هو بحاجة إلى ذلك؟ وإذا كان الردُ إيجابياً فما هو الطريق الأفضل للوصول إلى ذلك؟

قبل الإجابة على هذه الأسئلة، أَستهلُّ كلامي بإفشاءِ سِرٍّ أَمامكم يتَّصلُ بآليَّةٍ هي مَدارُ النجاحِ العظيم لمشاريع البحث العِلميِّ في النظام الجامعيِّ في الولايات المتَّحدة؛ هذا النظامِ الذي يُصدِر من المنشورات، ويُنتِجُ من الاكتشافات والاختراعات وجوائزِ نوبل فوق ما يُصدِرُه أَو يُنتِجه أَيُّ نظامٍ آخَر في العالَم. أَمَّا تلك الآليَّة، فقَلَّما هي معروفةٌ في العالَم، وتكادُ لا تُقدَرُ فيه حقَّ قَدْرِها. لذلك، يَحسُنُ بنا أَن ندعوها "سرًّا". وقد أُطلِق عليها اسمٌ غيرُ مُستَساغٍ هو "عِلاوةُ العَقد" contract overhead.

ترجعُ قصَّةُ "عِلاوةُ العقد" إلى أَواخر الثلاثينيَّات من القرن الماضي، إلى رجلٍ يُدعى فانِّيفر بوش؛ وهو رجلٌ لا يمتُّ بصِلةٍ إلى آل بوش السياسيِّين. كان بوش هذا أُستاذَ الهندسة الكهربائيَّة في جامعة MIT، وإليه يعودُ الفضلُ، اليومَ، في وَصْفِه نظامَ رَبْطِ المعلومات بعضِها ببعض؛ وهو نظامٌ أَلهَمَ [العلماءَ] استنباطَ اللغة الإلكترونيَّة البالغةَ المرونة التي جَعَلت من "شبكة الإنترنت العالَميَّة" أَمرًا ممكِنًا. على أَنَّ علاقتَه بموضوعنا، أَعني تنشيطَ البحث العِلميِّ العربيِّ، لا تندرجُ في سياق إسهامِه غيرِ المقصود في نشوء ظاهرة الإنترنِت المُذهِلة، بل في إصرارِه الدؤوب على تغييرِ أُسلوبِ البحث العِلميِّ الذي كان مُتَّبَعًا آنذاك في الولايات المتَّحدة. فقد أَدرك، قُبَيل نشوب الحرب العالَميَّةِ الثانية، أَنَّ جهودًا عقليَّةً كبيرةً تُبذَلُ في المجال الأَكاديميِّ لا تلقى الدَّعمَ الكافي أَو أَنَّها غيرُ منظَّمةٍ تنظيمًا مُجدِيًا تُفيد منه الأُمَّةُ والبشريَّةُ جمعاء. كما أَدركَ أَنَّ المؤسَّساتِ الأَكاديميَّةَ تَفْتقِرُ إلى الحوافز القويَّة لِرأْبِ الصَّدْع.

في 12 حزيران 1940، حاول فانِّيفر بوش أَن يتجنَّبَ مقاومةَ موظَّفي الحكومة، فشخصَ إلى المكتب البيضاويِّ [في البيت الأَبيض]، وسلَّمَ إلى الرئيس فرانكلين روزفلت ورقةً واحدة عرضَ فيها خطَّةً أَساسيَّة لتطوير الدَّعْم الرسميِّ للبحث العِلميِّ في المجال الأَكاديميّ. فوافق روزفلت عليها في غضون عشر دقائق. وكان ذلك الباعثَ الأَكبر على إطلاق العهد الذهبيِّ للبحث العِلميِّ الأَميركيّ. وما هي إلاَّ أَشهرٌ قليلة حتَّى آتَت الخُطَّةُ ثمرةً أُولى من ثَمَراتِها التي لا تُحصى، فاستُجيدَتْ تكنولوجيا الرادار، فأَسهمتْ في فوز الحُلفاء في الحرب.

ولقد قال أَلفرد لوميس فيما بعد (وهو بَحَّاثةٌ بارز وأَحدُ مُطوِّري الرادار): "من الرجال الذين لو قَضَوا في صيف 1940 لَكان موتُهم أَفجَعَ نكبةٍ تقعُ على أَميركا، الرئيسُ [روزفلت] في المَقامِ الأَوَّل، والدكتور بوش في المَقامِ الثاني أَو الثالث."

على أَنَّ خطَّةَ الدكتور بوش لم تُؤتِ أُكُلَها فعلاً إلاَّ في أَزمنة السِّلم. فقد أَدَّتْ إلى ازديادٍ مُطَّرِدٍ لأشَدِّ الجهودِ الفكريَّة في التاريخ قوَّةً وتنوُّعًا وفعَّاليَّة. وهي ما زالت تجتذبُ إلى الجامعات الأَميركيَّة شُبَّانًا أَلْمَعِيِّين من مختلف أَرجاء العالَم.

أَمَّا "عِلاوةُ العَقْد" التي أَشرتُ إليها آنفًا، فقد كانت عنصرًا رئيساً من عناصرِ خُطَّةِ الدكتور بوش. و"العِلاوة" نوعٌ من الضريبة تفرضُه الجامعةُ نفسُها على الدولة (بإزاءِ الضريبة التي تفرضُها الدولةُ على الجامعة)، وذلك عن كلِّ عَقدٍ بَحثيٍّ. فمِن كلِّ دولارٍ للتمويل البَحْثيِّ أَكسبُه، اليومَ، في سبيل اختباراتي، من خلال المنافسات المدعومةِ مِن قِبَلِ الوكالات المُمَوِّلة، تقتطعُ جامعة برنستون، حيث أَعمل، 54 سِنْتًا لنفسها. وهذا، كما يبدو، أَشبَهُ بضريبةٍ باهظة على الباحث أَن يدفعها من عَقده. ومع ذلك، فإنَّ "عِلاوةَ العَقد" التي تشجِّعُ الجامعة على الانقطاع إلى البحث العِلميِّ وتُتيحُ لها الحفاظَ على رسالة التعليم وتسهيلَ البحث العِلميِّ، كما تقدِّم المِنَح الماليَّة للبحث والتعليم في مجال العلوم الإنسانيَّة، وترفعُ أُجورَ مُستخدَميها إلى مُستوياتٍ تنافسُ الأُجورَ في القطاع التجاريِّ-أَقول: إنَّ "عِلاوةَ العَقد" قد أَثبَتَتْ أَنَّها أَحدُ "الأَسرار" التي جعلَت الجامعاتِ ومؤسَّساتِ البحث الأَميركيَّةَ مراكزَ استقطابٍ للعقول الفتيَّة من مختلف أَرجاء العالَم. والغالبُ أَن يستقرَّ هؤلاء الطلاَّب في الولايات المتَّحدة الأَميركيَّة بعد تخرُّجِهم، فيكتسبوا جنسيَّتَها، ويُصبحوا الأَدمغةَ التي تُقوِّي هَيمَنَة الغرب المتواصلة في مجال التقدُّم العِلميِّ. في القِسم الذي أَعمل فيه، بجامعة برنستون، 55 أُستاذًا جامعيًّا وباحثًا عِلميًّا، 37 منهم أَجانب بالولادة. وهي نسبةٌ نموذجيَّةٌ نجدُها في معظَمِ مؤسَّسات البحث العِلميِّ في الولايات المتَّحدة.

وإنَّه لَيَبدو مُسْتَهْجَنًا أَن أَستهلَّ خطابي بقصَّةٍ تنطوي على نصيحةٍ (أَو توصية) تخالفُ المُتوَقَّع، مَفادُها أَنَّه من أَجل تعزيز البحث العِلميِّ، لا بدَّ من أَن تقتطعَ المؤسَّسات 54 بالمئة من المال الموقوفِ على البحث العِلميِّ، والممنوح لكلِّ عالِمِ أَبحاثٍ مكافِحٍ في العالَم العربيِّ. إنَّ نصيحةً كتلك لا تخلو، في حدِّ ذاتها، من حُمْقٍ وخَطَر. والحقَّ أَنَّ "عِلاوةَ العَقد" ليستْ إلاَّ عنصرًا رئيسًا واحدًا من صيغةٍ معقَّدة أَثبَتَتْ جدواها الفائقةَ في ازدهار البحوث العِلميَّة – صيغةٍ تستحقُّ أَن ننقلَها عن الغرب مع شيءٍ من التعديل.

سأُحاول، ههنا، إلقاءَ نظرةٍ إجماليَّةٍ على أَبرَزِ وجوه هذه الصيغة، واقتراحَ بضعةِ تَصويباتٍ مُسْتَوحاةٍ من الدروس المُستَفادة في خلال عدَّةِ عقود، منذ ذلك اليوم المشهود في حزيران عام 1940.

ولا ريبَ في أَنَّ خطَّة البروفسور بوش لم تنشأْ من فراغ، إذ إنَّ أُسُسَها مَركوزةٌ في ثقافةٍ عِلميَّةٍ تنامَتْ في أُوروبا سحابةَ ثلاثة قرون. فالثورة العِلميَّة الأُولى التي بدأَتْ مع اكتشافات كِبْلر وغاليليه في أَوائل القرن السابع عشر، وبلغَتْ أَوجَها مع إصدار نيوتن كتابَه الشهير "المبادئ الرياضيَّة للفلسفة الطبيعيَّة" عام 1687، رسَّخَتْ في الغرب أُسُسَ ثقافةٍ من التقدُّم العِلميِّ، ثقافةٍ بدا أَنَّها غيرُ قابلةٍ للنقض. هذه الثقافة، مع تطوُّرِها السريع في القرن العشرين، بوَّأَتِ الغربَ، في مجال الاكتشاف العِلميِّ والابتكار التكنولوجيِّ، مرتبةً عاليةً لمَّا يَزَلْ يَنعمُ بها. أَمَّا في الشرق، فثمَّة دُوَلٌ قليلة، أَبرَزُها روسيا واليابان وأَحدَثُها كوريا الجنوبيَّة وطايوان والصين، تبنَّتْ كثيرًا من وجوه تلك الثقافة، وأَصبحَتْ من الدُّوَل المُسهِمة إسهامًا كبيرًا في الإنتاج العالَميِّ، الفكريِّ والمادِّيِّ، عِلمًا وتكنولوجيا.

[يشتملُ مفهومُ "العِلم"، كما أَستخدمُه في سياق هذا الخطاب، على العلوم الطبيعيَّة (علوم الفيزياء وعلوم الحياة). كما يشتملُ على الرياضيَّات، والهندسة، وعِلم الكومبيوتر. ذلك بأَنَّ المناهجَ الأَساسيَّة المُتَّبَعة في هذه الميادين وفي تطويرها هي، على مستوى البحث، متماثلةٌ جدًّا في الجوهر - هذا إذا لم تكنْ واحدة].

بفضلِ ما تتمتَّع به بعض الدول العربية وخاصةً دُوَلُ الخليج العربيِّ، في هذه الحقبة من تاريخها، من ازدهارٍ واستقرارٍ وغنى طاقاتٍ بشريَّةٍ ومادِّيَّة، بالإضافة إلى تساهُلها الثقافيِّ وانخراطها في الشأْنِ العالَميِّ، فهي المؤهَّلةُ، خصوصًا، لِمَدِّ الثورة العِلميَّة في العالَم العربيِّ بالوَقود، وبَعْثِها وقيادتِها، هذا فضلاً عن مساهمة الدول التي لا تمتلك ثروات طبيعية ضخمة بتوفير طاقاتٍ فكريةٍ كبيرة. ولمَّا كانت المبادَراتُ العِلميَّةُ اليومَ عالَميَّةً البُعْد، في جوهرها، فإنِّي أُؤثِر أَن أَتصوَّرَ مثلَ تلك الثورة العِلميَّة العربيَّة لا تصوُّرًا ذا مضامينَ قوميَّةٍ أَو إقليميَّة، لكنْ تصوُّرًا يهدفُ إلى رفعِ مستوى البحث العِلميِّ في العالَم العربيِّ ودَفْعِ إنتاجه قُدُمًا، كما يهدفُ إلى دَمْجِه كلِّيًّا بالبحث في المُتَّحَدِ العِلميِّ العالَميّ.

ولا يغربُ عن بالي أَبدًا أَنَّ في العالَم العربيِّ عدَّةَ مؤسَّساتٍ ومنظَّماتٍ وأَفرادٍ بعيدِي النَّظَر يبذلون الجهود المُضنِية لبلوغ ذلك الهدف. وما عليَّ ههنا أَن أُعيد النظر في جهودهم الجريئة، ولا أَن أَعِظَهم كيف يكيِّفون أَساليبَ عملهم بدِقَّة أَفضل. فأَنا، قبل كلِّ شيء، عالِمٌ يزاول البحث التطبيقيَّ، ولستُ خبيرًا بكيفيَّة تدبير الأُمور. وكيف دار الأَمر، فإنَّه عليَّ أَن أُدليَ ببضعِ أَفكارٍ بنَّاءة استنبطتُها من تجاربي الخاصَّة باحثًا عِلميًّا، وفي مأْملي أَن تكون ذات جدوى عند مناقشة المشكلة.

أَودُّ، أَوَّلاً، أَن أَعرض بإيجاز الحوافِزَ على الشُّروعِ في المُهمَّة الجريئة، المُضنِية، العاليةِ الكُلفة؛ مهمَّةِ إنشاءِ مشروعٍ عِلميٍّ عالَميِّ المستوى في العالَم العربيّ. وفي هذا السياق، قد يُطرَح سؤالان مشروعان: "لماذا لا تُستخدَمُ ثرواتُ العالَم العربيِّ البشريَّة والمادِّيَّة في ما سبقَ أَن برَعَ العربُ فيه، أَعني التجارة والتمويل والإنسانيَّات؟ أَلا يمكنُنا الاعتماد على الغرب والشرق الأَقصى لنَجْنِيَ الثمراتِ العِلميَّة التي تعودُ علينا أَخيرًا بالخير، وذلك بفضل الاقتصادِ العالَميِّ الواحد؟" عن هذه السؤالَين المشروعَين أُجيبُ بسؤالَين مشروعَين آخرَين: "أَفي وِسْع العالَم العربيِّ أَلاَّ يُنفِق جزءًا غيرَ قليل من ثروته المادِّيَّة لكي يُتيحَ لأَبنائه وبناتِه النُّجباء المساهمةَ في بعض أَشَدِّ الاكتشافات إثارةً ومَردودًا في أَيَّامنا هذه؟ هل يمكنُ أَن يُعَدَّ العربُ شُركاءَ أَسوياءَ كاملي الشراكة مع الذين يُخطِّطون اقتصادَ العالَم وأَمنَه، إذا اكتفَوا (أَعني العرب) بأَن يظلُّوا مُستهلِكي عِلْمٍ وتكنولوجيا، لا مُنتِجي اكتشافٍ واختراع؟"

لقد أَسهَمَت الحضارتان العربيَّة والإسلاميَّة، تاريخيًّا، إسهامًا كبيرًا في علوم الطبيعة والحياة والرياضيَّات والهيئة (الفلك). فمن الثابت عند مؤرِّخي العِلم أَنَّ الفضلَ في ابتكار الفكر التجريبيِّ وصيانتِه يعودُ أَوَّلاً إلى علماء العرب والإسلام في القرن الثاني عشر. أَمَّا اليومَ، فمن المؤسِف أَنَّ الوضع مختلفٌ كثيرًا. إنَّ عددَ ما يُنشَر اليوم في المجلاَّت العالَميَّة من أَبحاثٍ عِلميَّة أَصيلةٍ بأَقلام علماء من العالَم العربيِّ هو أَقَلُّ من 0.1% من عدد الأَبحاث الصادرة بأَقلام علماءَ في الغرب. لا يتجاوزُ عددُ براءات الاختراع الممنوحة، ما بين عامَيْ 1980 و2000، لأَشخاصٍ من البلاد العربيَّة 370 براءةً فقط، في حين أَنَّ ثمَّة 1600 براءةٍ ممنوحةٍ، في خلال المدَّة نفسها، في كوريا الجنوبيَّة التي يبلغُ عددُ سكَّانها عُشْرَ عددِ سكَّان العالَم العربيّ.

ومن الوقائع الثابتة أَنَّ نسبةً قليلةً من العُلماء ذوي الأُصول العربيَّة يعملون في الغرب، لكنَّ إنجازاتِهم العِلميَّة تفوقُ كثيرًا، بمعدَّلِها، إنجازاتِ زملائهم في العالَم العربيِّ؛ الأَمر الذي يُفيدُ أَنَّ المشكلةَ مشكلةُ فُرَصٍ ووسائل، لا مشكلةُ قُدُراتٍ ومؤهِّلات. والسؤال الرئيس المطروح أَمامنا: كيف السبيل إلى إتاحة الوسائل والفُرَص من أَجل أَن يزدهرَ البحثُ العِلميُّ في العالَم العربيِّ؟

بدلاً من أَن أَقبعَ في الماضي ومشكلاتِه، سأَصرف الاهتمام إلى اقتراحِ حلولٍ مَبنيَّةٍ على تقويمٍ لِما أَصابَه المَسعى العِلميُّ الحديث في الغرب من فَلاح، وما نالَه من إخفاقٍ عارض. وسأَعرض خُطَّةً إجماليَّةً لإيقاد جُذوة الثورة العِلميَّة العربيَّة، غرضُها اقتراحُ أَدوارٍ واضحةٍ دقيقةٍ متضافرةٍ تقومُ بها الدولةُ والمصانعُ والمؤسَّساتُ التربويَّة ووسائلُ الإعلام لِتعزيزِ ثقافةِ البحث العِلميِّ الحيِّ المُثمِر العالَميِّ الأَبعاد، في العالَم العربيّ.

أَوَّلاً وقبل كلِّ شيء، لا بدَّ للجامعات العربيَّة الرائدة ومؤسَّساتِ التعليم العالي من أَن تَمرَّ بتغييرٍ جذريٍّ شبيهٍ بما أَحدثَتْه خُطَّةُ فانِّيفر بوش في الولايات المتَّحدة؛ وهو تغييرٌ تستطيعُ بواسطته أَن تصبح مؤسَّساتٍ تمنح درجةَ الدكتوراه، كما يستطيع البحث العِلميُّ أَن يُصبحَ مُقوِّمًا رئيسيًّا من مُقوِّمات رسالتها – مقوِّمًا يجب أَن يَستوي هو والتعليم على قَدَم المساواة.

ومن أَجل أَن تُنجِزَ الجامعاتُ هذه الخطوة، فتَجتَذِبَ إليها المواهبَ العِلميَّة اللامعة، عليها أَن تتبنَّى نظامَ التثبيت الذي يُمنَحُ بواسطته الأَساتذةُ الجامعيُّون عَقْدَ استخدامٍ مضمونٍ طويلِ الأَمد، وذلك بعد أَن يُثبِتوا لِنُظَرائهم قدرتَهم على القيام بإسهاماتٍ عِلميَّةٍ مهمَّة. ومن الضروريِّ أَيضًا أَن يكونَ التدرُّجُ والتثبيتُ مَقرونَين بإنجازاتِهم وبراعتِهم في البحث، لا في التعليم فقط، وأَن تُضاهيَ رواتبُهم رواتبَ القطاع العامّ. وعندما يُنْعَمُ على الباحث بالتثبيت والتدرُّج، فلا بدَّ من أَن تُعتَمَدَ معاييرُ مضبوطةٌ لتقديرِ حصيلةِ بحثِه، من حيثُ الحجمُ والأَهمِّيَّةُ والتأْثير. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ تعيينَ الأَساتذة والباحثين والعمداء، وحتَّى الرؤساء أَيضًا، يجبُ أَن يحصلَ من خلال هيئاتِ بحثٍ متعاقِبةٍ مؤلَّفةٍ من الزملاء، لا من موظَّفي الحكومة.

وبالرغم من أَنِّي لستُ من أَنصار إشراف الدولةِ الشديد على التربية وتنظيمِها، فإنِّي من المؤمنين بأَنَّ نظامَ التقديرِ الأَكاديميِّ، الذي يُحاكِمُ الجامعاتِ وبرامجَ تعليمِها العالي ويُصنِّفُها وفقًا لمقاييسَ عالَميَّةٍ رفيعة، قد يكون له أَثرٌ كبير في رَفْعِ مَنْزِلةِ المعاهد الأُولى وإبرازِ شأْنِها وقُدرتِها على اجتذاب المواهب العالَميَّة إلى هيئاتِها الطلاَّبيَّة وكلِّيِّاتِ الأبحاثِ فيها. ومن المُسْتَحْسَنِ، في اعتقادي، أَن تُستَخدَم، في سبيل ذلك الغَرَض، الخَدَماتُ التي تُؤدِّيها مجالسُ التَّزْكِية الأَميركيَّة أَو الأُوروبيَّة المؤسَّسة تأْسيسًا سليمًا.

وعلى الدولة أَن تشجِّعَ الجامعات ومؤسَّساتِ البحث فتسمحُ لها بأَن تَجبِيَ رسومًا إضافيَّةً على عقودِ الأَبحاث – على غِرارِ ما ثَبَتَ أَنَّه حاسِمٌ في نجاح البحثِ العِلميِّ في الجامعات الأَميركيَّة، كما سبقَ لي القول في مُستَهَلِّ هذا الخطاب.

ولا ريبَ في أَنَّ للحكومات أَدوارًا مهمَّةً عليها القيامُ بها. على أَنَّ دَعْمَها للبحث العِلميِّ وتقريرَها للمِنَح والعقود يجبُ أَلاَّ يقوما على سياساتٍ داخليَّةٍ وإقليميَّة، أَو بحسب الإتْنِيات أَو الأَعراق أَو التوزيع السكَّانيِّ، بل على المباريات القائمةِ على الجدارة أَو الكفاءة. ثمَّ إنَّ تعيينَ المباريات والتحكُّمَ بعقود البحث يجبُ أَن يُعهَدَ بهما إلى منظَّمات العِلمِ الوطنيَّةٍ، الخاصَّة والرسميَّة معًا. وخيرُ مثالٍ على ذلك "المؤسَّسة العربيَّة للعلوم والتكنولوجيا" التي أُنشِئتْ حديثًا في الإمارات العربيَّة المتَّحدة.

أَمَّا اختيار الفائزين في المباريات فيجبُ أَن تقومَ به لجانٌ مهمَّتُها النَّظَرُ في الخُطَطِ المعروضة، وتكون مؤلَّفةً من نُظراءَ لهم يشتغلون في العِلم ومن خُبَراء، لا من سياسيِّين أَو مُوظَّفين حكوميِّين. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ إنشاءَ مراكزَ رسميَّةٍ لتمويل الأَبحاث، وإنشاءَ المختَبَرات والمعاهد التفكيريَّة think-tanks يجب أَن يكونا في مقدَّمة الإنفاقِ القوميِّ. وبحسب الأُمَم المتَّحدة، ليس هناك دولةٌ عربيِّةٌ تُنفقُ، اليومَ، على البحث العِلميِّ، أَكثرَ من 0.2% من مجموعِ إنتاجِها القوميِّ. وعلى خلافِ ذلك، تُنفِقُ الولاياتُ المتَّحدةُ ما يزيدُ عن عشرةِ أَضعافِ تلك النسبةِ الضئيلة.

وتستطيع الحكوماتُ، أَيضًا، أَن تَرفُدَ المشاريعَ العِلميَّة بأَن تقدِّم للشركات والمؤسَّسات والأَفراد، الذين اختاروا تمويلَ البحث العِلميِّ، تخفيضًا كبيرًا في الضرائب فضلاً عن الإعانات الماليِّة؛ وبأَن تستحدثَ نظامًا صارمًا لإعطاءِ براءات الاختراع، نظامًا فعَّالاً مُؤيَّدًا بقوانينَ قابلةٍ للتنفيذ، هدفُها حمايةُ الحقوق الفكريَّة؛ وبأَن تَخْلَعَ المكافآت ودرجاتِ الشَّرَف على عُلماءِ البحثِ المُبرِّزين.

ومن عناصر الصِّيغة التي أَثبَتَتْ جدواها في تصحيح مَسارِ التقدُّمِ العِلميِّ تصحيحًا دائمًا، سواءٌ في الغرب أَو في روسيا أَو في الشرقِ الأَقصى، الدَّورُ الذي تقومُ به الأَكاديميَّاتُ العِلميَّةُ الوطنيَّة في شُرَعِها الداعية إلى تأْدية الخدمات الاجتماعيَّة القيِّمة، وذلك باسْتِقدامِها لِجانًا من الخُبراء البارعين في جميعِ ميادينِ العِلم والتكنولوجيا. هؤلاء الخبراءُ يخدمون الشأْنَ العامَّ بلا مقابل، فيطرحون القضايا الوطنيَّة الخطيرة، وينصحون الدولةَ والمجتمعَ بأَوْلَوِيَّات البحث. والحقَّ أَنَّ إنشاءَ أَكاديميَّاتٍ عِلميَّةٍ وطنيَّةٍ في العالَم العربيِّ قد تأَخَّر كثيرًا.

وإذا أَخذنا في الحِسبانِ مَحدوديَّةَ الموارد، حتَّى في أَغنى الدُّوَل، فقد وَجَبَ تقديمُ تمويلِ الأَبحاث وتحديثُه الدائم على كلِّ ما عَداه. وعلى سبيل المثال، ففي كثيرٍ من مشكلاتِ البحث في مجال العلوم التطبيقيَّة ذاتِ الفوائد المباشَرة للصناعة، على الدولة أَن تَضْطَلِعَ بِدَورِ مَدِّ مؤسَّساتِ البحث العِلميِّ بالتمويل الأَساسيِّ، ثمَّ الحُكمِ على أَدائها بالاستناد إلى قدرتِها على استخدامِ نتائجِها الأَوَّليَّة في ضمانِ التمويل التصنيعيِّ وتحويلِ التكنولوجيا إلى صناعة. ومع ذلك، فثمَّة عددٌ من مُشكلات البحث العِلميِّ التي تَهمُّ خيرَ المجموع، لكنَّها قليلةُ المَرْدودِ الماليِّ، فلا تَسترعي اهتمامَ القِطاع الصناعيِّ. وخيرُ مثالٍ على ذلك البحثُ العِلميُّ في مجال العقاقير. ففي الولايات المتَّحدة، تستغرقُ شركةُ الأَدوية، في العادة، عشر سنين لتبحثَ في عقَّارٍ ما، وتَختبِرَه، وتطوِّرَه، حتَّى إذا وافقَتْ على جدواه الدولةُ، لم تَسمَحْ للشركةِ باستغلالِه إلاَّ زُهاءَ سبعِ سنواتٍ فقط تَبطُلُ بعدها الرُّخصةُ بُطلانًا مُبْرَمًا. وبسببِ هذه القيود المفروضة، يُهمَلُ في الغالب البحثُ في العقاقير وتحسينُها، ولا سيَّما عقاقيرُ الأَمراض الخَطِرة غيرِ الشائعة نسبيًّا. ولا بدَّ لمجالات البحثِ هذه من أَن تنالَ من الدولةِ العنايةَ الأُولى في التمويل، كما من المؤسَّسات الخاصَّة وصانِعي الإحسان.

وعلينا، أَيضًا، أَن نأْخذ العِبرةَ من فشلِ تعريب التعليم العِلميِّ في بعض الدول العربية، حيث يُقصى الطلاَّبُ عن تحصيل العِلم باللغة الإنكليزيَّة، فيُصبِحون عاجزين عجزًا خطيرًا عن الاشتراك في المباحثاتِ العِلميَّة الدُّوَليِّة الضروريَّة. فمنذ أَواسط القرن العشرين، أَصبَحَت اللغةُ الإنكليزيَّة لغةَ التخاطُبِ العِلميِّ في العالَم؛ وليس في الأَمر ضَرَر. وعليه، فلا يجوزُ تفسيرُ هذا الواقعِ بأَنَّه نتيجةٌ للسياسة الإمبرياليَّة عند جورج بوش، بل نتيجةٌ للاتِّجاه البَنَّاء عند فانِّيفر بوش. إنَّ ما يحصِّلُه، اليومَ، طُلاَّبُ الدراسات العُليا الصينيُّون، في الولايات المتَّحدة، من النُّقاط في امتحانِ فَهْمِ اللغة الإنكليزيَّة يفوقُ، في الغالب، ما يُحصِّلُه الأَميركيَّون أَنفسُهم.

أَمَّا على الصعيد الثقافيِّ، فإنَّ مُهمَّاتٍ كثيرةً يمكنُ لوسائل الإعلام القيامُ بها لكي تُحسِّنَ صورةَ العالِم، وتُبيِّنَ أَنَّ العملَ في مجال العلوم يمكن أَن يعودَ عليه بفوائدَ جَمَّة. والحقيقة أَنَّ أَقلَّ من واحدٍ بين كلِّ عشرين طالبًا جامعيًّا عربيًّا يختصُّ، اليومَ، في فروعٍ عِلميَّة؛ ذلك لأَنَّ الفرصةَ الوحيدةَ المتاحة، بعد التخرُّجِ في الاختصاصِ العِلميِّ، هي التدريس في المدارس الابتدائيَّة. إنَّ وسائلَ الإعلامِ في العالَم العربيِّ، وبخاصَّةٍ التلفزيون، أُسوةً بأَضرابِها في الولايات المتَّحدة، تَصبُّ اهتمامَها، في الأَكثر، على قِطاع الترفيه ومشاهيرِه. قليلون جدًّا في العالَم العربيِّ يعرفون أَسماءَ علماءَ عربٍ لامعين. ففي مجال اختصاصي، أَي في علم الفضاء وتِكْنولوجياه، علماءُ مُبرِّزون - أَمثال شارل عشِّي وفاروق الباز ومهى باشور عبد الله وجورج حلو ومصطفى شاهين – يمكنُ أَن يكونوا مُثُلاً عُليا يستلهِمُها العُلماءُ الفِتيان، لكنَّهم، بالرغم من شُهرتِهم العالميَّة الواسعة، يظلُّون، واقعيًّا، مجهولين في العالَم العربيِّ.

من العوائق التي اعترَضَت التقدُّمَ العِلميَّ في أُوروبا، قبل عصر التنوير، ما يعودُ إلى التفسيرِ المُتصلِّب للأَسفار الدينيَّة التي اتُّخِذَتْ وسيلةً لِرَفْض العِلم بحجَّةِ أَنَّه يهدِّدُ الإيمانَ الدينيَّ، كما هي الحالُ في قضيَّة اضطهاد غاليلِيه الشهيرة. ومن حُسن الحظِّ أَنَّ الإسلام، تاريخيًّا وفي ذاتِه، ذو نزعةٍ قويَّة إلى طلب العِلم ونِشْدان الحقيقة. وهو في مأْمنٍ من الشعور بأَنَّه مُهدَّدٌ من قِبَل التقدُّم العِلميِّ والتكنولوجيِّ الذي يهدفُ آخرَ الأَمر إلى تحسين شروط الحياة، واجتثاثِ أُصولِ المرضِ والأَلم، وفَهْمِ ظواهرِ الطبيعة.

أَخيرًا، وليس آخِرًا، ثمَّةَ طريقةٌ لزيادة عدد العُلماء والمهندسين الممارسين في العالَم العربيِّ زيادةً آليَّة تفوق الضعف، أَلا وهي رَفْعُ العوائق الاجتماعيَّة عن النساء لكي يُواصِلن اختصاصهنَّ في تلك الحقول. وقد سبقَ أَنَّ نسبةَ المتخرِّجات في لبنان في العلم والهندسة تفوقُ بـ48% نسبةَ المتخرِّجين، وهي النسبة نفسُها في الولايات المتَّحدة. أَمَّا في دولة الإمارات المتَّحدة والكويت وقطَر وعُمان، فإنَّ النِّسَبَ أَرفَعُ أَيضًا. والواقع أَنَّ عددَ الإناث اللواتي يدرسن الصحَّة العامَّة في لبنان والكيمياء في العراق والصَّيدلة في سوريا، وذلك في السنوات الجامعيَّة التي تسبق التخرُّج، يفوقُ عدد الذكور، ونِسَبَهنَّ تتخطَّى كثيرًا نِسَبهنَّ في أُوروبَّا والولايات المتَّحدة. إنَّ الأَنظمة التربويَّة في تلك البلدان، وما تستوعبُه من عدد الفتيات، يمكن أَن تُتَّخَذ أَمثلةً لكثيرٍ من بلدان العالَم النامي. المشكلة تكمنُ في الفُرَص المُتاحة للنساء بعد تخرُّجهنَّ؛ ذلك بأَنَّ العوامل الثقافيَّة-الاجتماعيَّة لم تزلْ تحدُّ حدًّا صارمًا من مجالات اختصاصِهنَّ وتقدُّمِهنَّ فيها. فإذا كان نصفُ القوَّةِ العاملة والطاقةِ المُفكِّرة محظورًا عليه القيامُ بعملِه، فسيبقى العالَمُ العربيُّ دائمًا متخلِّفًا في تلك الحقول الخطيرة، كما في سواها من الحقول.

وخَشيةَ أَن أُخلِّف في نفوسِكم شعورًا بأَنَّ مَسارَ التقدُّم العِلميِّ في الولايات المتَّحدة، خلالَ عشرة عقودٍ تفصلُ فانِّيفر بوش عن جورج بوش، خالٍ من العُيوب، يَحسنُ بي أَن أُعدِّدَ بعضَ عَثَراتِه التي هي، في رأْيي، غيرُ جديرةٍ بأَن تُقلَّد. منها التَّعويلُ الشديد على البحث في المضمار العسكريِّ؛ وهو بحثٌ يُهدَرُ فيه المال، ولا مُبرِّرَ له في عصر المنافسة الاقتصاديَّة. ومنها النَّزعةُ الجديدة إلى شِدَّةِ التحَرُّزِ والتكتُّمِ في مجالات البحث التكنولوجيّ. ومنها، أَخيرًا، التعقيد الجديد لإجراءات حصول الطلاَّب الأَجانب على تأْشيراتٍ للمجيء إلى الولايات المتَّحدة. هذه الخطوةُ الأَخيرة غيرُ المُوفَّقة قد تؤدِّي إلى وَقْفِ تدفُّقِ الأَدمغة الذي مَدَّ المشروعَ العِلميَّ الأَميركيَّ بالحيويَّة.

حينَ كنتُ صبيًّا ناشئًا في لبنان، إبَّانَ عهد المركبة الفضائيَّة "أَبولو"، كنتُ أُحلمُ بالسفر إلى الولايات المتَّحدة للدراسة والإكباب على البحث في علم الفضاء وتكنولوجياه. وقد حالفَني الحظُّ، فتحقَّقَ حُلمي الغريب. فهل من الغرابة أَن أَحلم بأَن أَشهدَ يومًا تعتزمُ فيه فتاةٌ أَميركيَّة شبَّتْ في مينيسوتا أَن تأْتيَ إلى جامعةٍ من الجامعات العالَميَّة الرائدة، في الجزيرة العربيَّة، لدراسة عِلم الفلك في الأَرض التي نشأَ فيها عَلمُ الفلك؟

ففي سبيل الازدهار والسلام، آملُ أَن يكون بمَقدورنا أَن نعملَ جميعُنا بِجدٍّ لنحقِّقَ هذا الحُلم.

ترجمة " طوني شعشع ".