عبرة أين نحن منها

عبرة أين نحن منها

م.نجدت الأصفري

[email protected]

في الأسبوع الماضي ملأت الشاشات الصغيرة الأرضية منها والفضائية حفلات تكريم لمن لا يزال على قيد الحياة من رجالات الحرب العالمية الأولى فكانوا ثلاثة جميعهم تجاوزوا في العمر المئة عام وأكبرهم كان 115 عاما

ظهرت ساحة الحفل مليئة بباقات المحتفلين بثياب زاهية بألوان براقة موشاة بالذهب والقصب وأعتمروا قبعات جميلة مزينة بريش الطواويس تبعث البهجة والفرحة الغامرة بوجوه الحاضرين على أنغام الآلات الموسيقية النحاسية تسحب أناتها من عمق الزمن البعيد ، وتدق الطبول حرقتها بذبذبات عالية وعميقة تجرها من غابر الزمن السحيق

أما المحتفى بهم الثلاثة من قبل رئيس الوزراء البريطاني ج. براون فكانوا عن الاحتفال بغائبين الفكر حاضري الجسد يجلسون على كراسي العجزة التي تتحرك بقوة الدفع من الشخص الذي أوكل بخدمة  كل منهم ، تظهر جلساتهم وتقاسيم وجوههم ونظرات أعينهم أنهم لا يحسون بما يجري حولهم ، لقد فعل العمر بهم فعله وهدت الشيخوخة قدرتهم وتركتهم كتلة هامدة ليس فيها من الحياة إلا  شهيق وزفير ببطء وصعوبة

كان أكبرهم قد أحضر من ولاية فرجينيا الأمريكية ليشارك في الاحتفال الذي يعبر عن شكر الدولة والشعب البريطاني بالتكريم والإعتراف ببطولتهم وجهدهم الذين أثمرا تحرير بريطانيا من أنياب الحرب الضروس

تأملت بإمعان شديد تلك الوجوه الشاحبة والأنفاس المتهدجة والشفاه المتهدلة المشلولة والجلد المتجعد كأنه حراشف السحالي أو الديناصورات المنقرضة والأجفان المغمضة والنظرات التائهة كأنهم في عالم آخر غير عالمنا ودنيا غير دنيانا 

تجمع الناس في ساحة العرض ينظرون باكبار واجلال لأولئك النفر الذين ساهموا بعودة الحرية لبلدهم بعدما دمرها الغزاة وأبادوا جموعا من الأبرياء في وطيس حرب لا هوادة فيها ولا رحمة تسعرها أحقاد وتوقد تحتها عداوة ، وكل من المتحاربين يظن أنه على حق وقد أرسله رب السماوات والأرض ليقضي على خصمه ويريح البشرية من شروره بينما يحمل عدوه نفس الأفكار ويتكيء على نفس المبررات للخلاص من خصمه وعدوه ، وتشتعل الحروب وتجري الدماء شلالات وتزمجر النيران تحرق الأخضر واليابس وتبتلع الجثث والأبدان ويذهب الصالح بالطالح وتندثر الحضارة ويعود المجتمع القهقرى ليبدأ من بقي على قيد الحياة برحلة التطوير والبناء من جديد

وقفت مشدوها أمام مسرح الحياة وهي تسري مسرعة في طريقها غير عابئة بالذين يتساقطون وقودا لنار أشعلوها بينهم وكل يبرر فعلته بأنها الدفاع المشروع أمام تحدي الطرف الآخر  لكن الحياة تسير في مداراتها المرسومة فتشرق شمسها وتغيب في أوقاتها وتهطل الأمطار في مواسمها وتغرد الطيور في رحاب سمائها ألحانا تحمد فيها قدرا لم يجعلها من وحوش البشر  لا يهدأ لهم بال إلا بقضاء بعضهم على بعض بينما لم يستطع أحد منهم أن يغير ناموس الطبيعة الخالدة

انقسم البشر بين طموح لحد جنون العظمة يظن أن الطبيعة لم تخلق مثله ولم تلد النساء قرينه، أو خامل لا يعرف من الحياة سوى العيش كاللبلاب والفطريات يسرق غذاءه من غيره ويتنقل بين سرير لينام ومائدة ليأكل وزوجة لينجب

تصورت كيف احتضنت الكرة الأرضية البائسة أناسا سيطر عليهم وهم الغرور فأرادوا أن يغيروا ناموس الطبيعة ويخضعونها لأهوائهم فدفعتهم إلى حتفهم ضاحكة عليهم ساخرة من سخافتهم فأين : ستالين ولينيين، وموسوليني ، وهتلر ، وهولاكو وجنكيز خان ، والعبيديين والحشاشين والصليبيين.... الحبل طويل لا تنتهي سوالفه وقد رماهم التاريخ في مزابله ملاحقين باللعنات وسوء المآل

في المقابل تذكرت رجالا عظاما عاشوا هادئين مطمئنين، اقتنعوا بالحياة راضين بما وهبتهم وسعوا في تطوير ما ورثوه فزادوا في الحضارة سلالم ودرجات رفعت البشر إلى مستويات أفضل مما  كان فوصلوا الحاضر الجديد بالماضي التليد وورثوا الأجيال خلفهم مستوى أفضل وأكرم فكتبهم التاريخ في صفحات ناصعة وسجلهم في تاريخ خالد ما بقيت الحياة كأمثال ابن الهيثم ، والفارابي ، وأبن سينا ، وأبن رشد ، وأبن خلدون ،وأرخميدس ، وأفلاطون ، ولا فوازيه ، وأنشتاين ...وغيرهم كثير كثير ، لاتزال ظلال علمهم وارفة يستظل البشر بظلها ويتنعمون بخيرها ، وتدين البشرية لهم بما تعيشه من حضارة وسعادة ورفاه

في هذا السياق لا يزال بعض المعوقين في فكرهم وسلوكهم ولم يعتبروا بمن نفق قبلهم فلا يزالون يجربون ما أخفق به من سبقهم من الموتورين والمارقين وذاق شعبهم على أيديهم ضنك ومرارة الحياة ، فلا يزال لدينا منهم أنموذجا صارخا بالتخلف والعنجهية الحمقاء يصارعون الطبيعة ليغيروها وهي تمد لهم من الغرور مدا حتى إذا أخذتهم لم تفلتهم وقد ابتليّ شعبي المسكين بسلالة من هؤلاء المرضى يظنون أنهم سيلوون عنق التاريخ ليخلدهم ويذلوا الشعب ليخضع لهم وتناسوا سنن الحياة التي لا ترحم عقورا ، ولا تلين لمغرور

أين من صاح باسمه المنافقون ، وطبل له المطبلون ورقص له المزعبرون وقال له القائلون (إلى الأبد يا حافر الأسد) فهاهو في قعر حفرة يغط في سوء فعله وعمله ، تلاحقه لعنات الذين ظلمهم وقتل أحبابهم وفرق شملهم بيده ويد أسرته وجلاوزته

كذلك الذين ورثوه فهم يسيرون على دربه يعميهم الغرور ويدفعهم الشرور لارتكاب كل سيء محظور ، وهو إلى نفس المصير يسير لأن الكرسي لا يدوم والسلطان سيزول وليس في الحياة خلود ، فهنيئا له بلعنات الأمهات ، والزوجات ، ويتائم الأولاد ، وتبعثر الأهل والأحباب على يديه ، فلا الكرسي يدوم ، ولا المنصب ينفع ، ولا القدر يرحم كل من ظلم والقدر له بالمرصاد