أزمة أميركا الأخلاقية وانعكاساتها الاقتصادية
د. علاء الدين شماع
الأزمة المالية التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية حالياً , مرتبطة بشكل مباشر مع فشل حربها على العراق , و هي أزمة عامة لم توفر جانباً من صعد الحياة الأميركية إلا طاولتها , سياسية كانت, اقتصادية , أو اجتماعية(أزمة أخلاقية) .
ذلك أن الخداع الذي تعرض له الأميركيون لم يكن أوله مع الالتفاف على بوادر الأزمة المالية الحالية والتي ظهرت أولى تباشيرها مع أزمة الرهون العقارية منذ عام و نيف , و التي كان من الممكن تفاديها لولا الاعتماد المفرط على إمكانية أن يصحح السوق نفسه , إنما ملامح التأزم تعود إلى الأيام الأولى من غزو العراق و بالذات من خلال ما ُبذل فيها من تضليل إعلامي كبير لتبرير الحملة العسكرية الأميركية عليه, و ليس من قبيل المصادفة أن يكون مبلغ تكلفة الحروب الأميركية على الإرهاب ( حسب التوصيف الأميركي) حتى اليوم يقارب مبلغ 700مليار دولار استحوذت الحرب على العراق جزئه الأكبر , وهو ذات المبلغ الذي يطالب به بوش في خطته الإنقاذية لسد عجز السيولة النقدية في أسواق المال و المصارف, وهي خطة مهما اتخذت لها من مفاهيم اصطلاحية في الإعلام الأميركي من مثل " الاستحواذ" أو اقتناء الأسهم سعياً وراء التخفيف من آثارها, فان تأثيرها على المزاج الاستهلاكي الأميركي بات واضحا للعيان , إذ أنها خطة تأميمية في النهاية , وهي على قدر تدخل الدولة في ضبط حركة رأس المال و الأسواق ,حتى باتت خطة تطرح صورة الرأسمالية و النظام الرأسمالي على حقيقته مهما ُأدخلت تحت باب الأزمات العابرة , على أساس أنه لا بدائل عن الرأسمالية , وأن أميركا ستخرج معافاة بعدها.
و في حقيقة الأمر , أن ما نشهده الآن هو بداية نهاية عهد , وما ستخلفه الأزمة المالية الحالية من فاتحة لكساد في الأسواق العالمية و من آثار مهولة و تبعات على الاقتصاديات المنخرطة في دوامتها ,و التي أصبحت محدودة المناورة و بالتالي أخذت بدورها تراكم خسائرها يومياً , إلى حد بات معه التبرير,في أن سقوط النموذج الأميركي للرأسمالية لا يعني سقوط الأيديولوجية الرأسمالية في العالم , تبريراً غير ذي جدوى. والرئيس الفرنسي ساركوزي عندما يطالب بإصلاح النظام الرأسمالي العالمي من خلال توصيته بجعل الرأسمالية أكثر أخلاقية خدمة للتنمية الاقتصادية و قوى الإنتاج و إسقاط مبدأ " المضاربة" , يلامس الحقيقة في نصفها الظاهر للعيان , و يخفي الحقيقة المرة كاملة والمتمثلة من تهيبه في الإشارة إلى فشل النظام المعرفي و الأيديولوجي الذي يقف وراء الفكر الرأسمالي عامة.
لم يعد الأمر يتم بهذا التعقيد و الغموض , ذلك أن واحداً من أشد أوجه الأزمة الحالية هو" اللا توطين" لرأس المال المحلي في مشاريع تنموية, وهو ما أنتج سياسة مالية كوزموبوليتانية ساعدت على , و يسرت أمر عولمة الإرهاب الذي تديره مراكز المال العالمية , من خلال تنشيط أسواق السلاح و تمويل الحروب و المضاربة بالسلع الغذائية الإستراتيجية, والتي يقف على رأسها أسواق المال الأميركية في استقطابها لرأس المال الجبان,مما أتاح وفراً مالياً, أنتج تغولاً و جبروتاً ماكرو _عولمي رافقه في قفزاته المتسارعة فكر رأسمالي نيو- ليبرالي , يحتكر الحقيقة الوجودية على مثاله , ويلخصها قولبة قسرية في غصب الصيرورة التاريخية ,من خلال إعلان موتها و نهايتها عند أقدامه . فكان لابد للتأريخ من أن ُ يبين الأمر و يزيل اللبس و الغموض و أن ينتفض و يتم دورته جبراً , ويلقن المارقين درساً لن ينسوه ,من خلال قاعدته الشهيرة" إنما الأيام دول ".
إن من ينظر إلى الأزمة المالية الحالية التي تعصف بالولايات المتحدة الأميركية , رأس هرم النظام الرأسمالي , على أنها أزمة اقتصادية و حسب , أو بمعنى آخر , على أنها أزمة مصارف خسرت مئات المليارات من الدولارات , إنما يجافي منطق التاريخ في إكمال حلقاته ضمن شروطه الخاصة .إن ما تمر به أميركا إنما هي أزمة وجودية ذات أبعاد فلسفية –أيديولوجية تمس صلب النظام الرأسمالي في أبعاده السياسية و الاقتصادية و الأخلاقية كما أسلفنا .
على أن الجانب الأخلاقي المأزوم من الشخصية الأميركية على عمومها و الذي يلازمها إلى الآن, يعود إلى أوائل العهد الاحلالي في القارة الجديدة , و الذي قام على الإبادة الجماعية للسكان الأصليين من الهنود الحمر وسكان جزر هاواي و المكسيكيين , ولعله في تحميل الادارات الأميركية برؤسائها المتتابعين على قيادة الامبريالية العالمية ,الحيف و الظلم اللذين أصابا العالم بسببها , فيه الكثير من التجني , و نحن نتكلم عن منحى عام يسم الأخلاق الأميركية , ولا نفرق بين الإدارات الحاكمة و الجمهور , و إلا ماذا عن تيار المحافظين الجدد ؟ و كأنهم أشخاص تحت الطلب و عند الحاجة , أو كأنهم لا يمثلون تياراً عارماً بين مثقفي أميركا! .
على أن مبادئ الحكم التي رافقت القيادات الأميركية منذ فترة الحرب الباردة على الأخص والى الآن من "مبدأ نيكسون" إلى " مبدأ كارتر" إلى مبدأ " بوش الأب" و الذي التزم بوش الابن بحذافيره , تراوح كلها بين كيفية الانفراد في قيادة العالم , أي بين "ضبط إيقاعه" على وقع المصالح الأميركية تارة و " الفوضى الخلاقة" في رسم حدود جديدة للعالم على حجم تلك المصالح تارة أخرى, و هي مبادئ سمتها الأساس, البحث الدائم عن عدو , إذ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي و انتهاء مرحلة الحرب الباردة أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الكونفوشيوسية و الإسلام عدواً لها.
إن البحث الأميركي الدائم عن عدو ينم عن أزمة ثقة في بعدها الأخلاقي و انعكاس ذلك في التعامل بين الأمم من خلال ممارسة القهر و التسلط , مهما أخذت من مظاهر و لبوسات التأزيم و التي تجسدت أخيراً في شكلها الاقتصادي الفاضح, و هي في أساسها تعبير صادق عن فقدان الثقة بالآخر, ثم أليست في أسبابها أنها أزمة ثقة نخرت نظام الائتمان العالمي فهزت في امتداداتها أسواق المال العالمية ؟.
و لنا أن نقدر , نحن العرب ,كم نيسر لأميركا أمرها في حروبها التي تشنها ضدنا,بعد أن أعلنتها علينا, وذلك من خلال دعم دورة المال في أسواقها عن طريق ضخ أموال البترول في مصارفها , تلك الحروب التي تشن على الإسلام و لا تستثني في طريقها الفكر العروبي, و هذا ما تجسد صراحة في حرب العراق و تدميره ورده زمن الجاهلية الأولى وهو الذي جمع على أرضه أحدى أزهى الخلافات العربية الإسلامية , وكان منبعاً خصباً للفكر القومي العربي في الزمن الحديث.
لكن العراق يثأر اليوم من جلاديه و على طريقته الخاصة .