المقامات والأحوال والشطح 1
المقامات والأحوال والشطح
ومصطلحاتها عند المتصوفة (1)
م. الطيب بيتي العلوي
مغربي مقيم بفرنسا
باحث في الانثروبولوجيا الدينية والثقافية بباريس
[email protected]
الصراع المذهبي بين البصرة والكوفة
"..يغم ما فعل القوم من الرموز،..فانهم فعلواذلك غيرة على طريق أهل الله عز وجل أن
يظهرها لغيرهم ،فيفهموها على خلاف الصواب، فيفتنوا انفسهم ،أو يفتنوا غيرهم.."....أبوالقاسم
عبد الكريم القشيرى المتوفى عام751 للهجرة
مقدمة توضيحية
من
المتعارف عليه في علم المصطلحات ،أن المصطلح لا يسمى كذلك ،الا اذا كان له مفهوم
عرفي يدركه أبناء العلم أوالقبيل الواحد،فاذا لم يكن للمصطلح مدلول مشترك في ادراكه
وتصور أبناء الطائفة الخاصة ،أو العلم الواحد، فانه لايرقى الى مستوى المصطلح،.،و
قد أشكل الأمر على بعض الباحثين في التصوف(سواء بمنظور علم الاجتماع أو الفقه
والدراسات الشرعية والإسلامية) لما لاحظوه من بعض اختلاف، أو تفاوت بصدد المصطلح
عند القوم ،هذا الاشكال الذي يعزى الى اختلافات تتصل بالقدر والنوع، أي بالكم
والكيف عندهم ،لكون المصطلحات الصوفيةهي من أكثر المصطلحات اللغوية تعقيدا،
باعتبارها تمثل نماذج لمفاهيم تكون فريدة في الاشتراك اللفظي، حيث يتحمل المصطلح
الصوفي الواحد مجموعة من الدلالات، أو المعاني التي تتمايز أو تتباين مع امكان
التلاقي والتداخل فيما بينها، تبعا للأحوال والمقامات،لا بسبب اختلاف المتصوفة في
فهم المصطلح ،وانما بسبب اختلاف تفاوت الحظوظ أو الأقدار والأنواع التي يصيبها كل
منهم بحسب مقامه واسعداداته، وترقيه الروحي..
والصحيح، ان تنوع دلالة المصطلح أو تغيرها وتبدلها –في التصوف-انما تكون بحسب تغير
المقام ،أو المنزلة، أو بتعبير اللغويين، بحسب تغير السياق،وليس بحسب تغير الأفراد
كما يظن البعض ،والا لكان تعدد المصطلحات بتعدد الأفراد المتصوفة ،وهذا ما لا يمكن
ضبطه وحصره، أما المقامات والأحوال ،فمحصورة ومعروفة يسلك (برفع الواو)في كل منها
كل الأفراد من المتصوفة الذين تنطبق عليهم خصوصيات المقام أو الحال أو الشطح،ولهذا،
فقد قام كبار المتصوفة أمثال ابن عربي، والشعراني ،وزروق، وابن عجيبة التطواني،وعبد
العزير الدباغ ،والكاشاني ،والغزالي ، بتحديد مفاهيمهم ومصطلحاتهم ومنهم من وضع
قاموس له بغية الدقة مثل ابن عربي وابن عجيبة والكاشاني
ومن
باب التدقيق أقول،بأن مصطلحات القوم تتنوع مدلولات كل واحد منها ،بحسب المقامات
والمنازل،أو السياقات المتنوعة والتي هي من التعدد والثراء، بحيث تعد ظاهرة ينفرد
بها المصطلح الصوفي وحده، وهو ما لا يحدث في مصطلحات العلوم أو الفنون الأخرى الا
نادرا،مما يعدها البعض من عيوب المصطلح العلمي ، اذا المفترض في أي علم من العلوم
،أن يكون لكل مصطلح مدلول واحد، أو بعبارة أوضح،أن يستخدم في الدلالة على حقيقة
واحدة متعارف عليها بين العلماء.،
وهذه الخصوصية الصوفية تشكل صعوبة كبيرة لمن ليس له ثقافة صوفية واسعة ،باعتبار
تعدد المصطلح الصوفي وتنوعه بحسب المقامات، أو ما يمكن أن نسميه في الدرس الدلالي
بالسياقات المبتعدة شيئا فشئا عن المدول اللغوي العام، وقد تنقطع جزئيا في سياقات
أخرى بينما قد توغل في الرمز في نوع سياقي آخر...
ولما كان التصوف -كما حاولت توضيحه في فصول سابقة -،هو"سلوك له اطاره النظري
والتجريبي،"فان فهم مصطلحاته تعين جيدا في التعرف اليه،.وقد انتبه الى هذا الجانب
،أولئك القدامى الذين اشتغلوا في التأليف والكتابة عن التصوف،.فنجد كتاب "اللمع"
للسراج الطوسي، هواحدى أهم المصادر الأم في تاريخ التصوف، والشارح للألفاظ الخاصة
الجارية في كلام القوم، يليه عبد الكريم القشيري في "رسالته" المشهورة، ثم "التعرف
لمذهب التصوف " للكلاباذي مرورا بالهجويري، فالغزالي ،فالسهروردي،الى أن يصل
المصطلح الى نوع من الثبات التي دونته معاجم خاصة بهم ،مع ابن عربي والكاشاني
السمرقندي، الى ان يستقر المصطلح نهائيا كمصطلح من المصطلحات العلمية والفنية
للحضارة الاسلامية مع الجرجاني، والتهانوي ،وابن عجيبة التطواني، مماقد يساعد
الدارس الآتي من حقول معرفية أدبية تعبيرية أخرىمرتبطة بالتصوف مثل الادب 'بشكليه
الشعري والنثري) ،،و الفلسفة ،،وعلم الاجتماع و علم النفس لكي يتيسر له فهم ("أعماق
التصوف وسيكولوجية المتصوفة" على جميع المستويات الدينية الروحية او
–النفسية-الاجتماعية او الابداعية الفنية الصرفة..
ولا
بد من التنويه هنا بما للاستشراق وبعض المستشرقين من أفضال في اعادة تحقيق معاجم
التصوف فأول تحقيق في هذا المجال ،هو ذلك التحقيق الذي رعته "الجمعية الاسيوية "في
البنغال عام 1845م، وأعده "ألويس سبرنغر التيرولي" بعنوان "اصطلاحات الصوفية "
لعبد الرزاق الكاشاني –القاشاني- السمرقندي واي اعاد تحقيقه بمصر عام 1992 الدكتور
عبد العال شاهين.
وسلسلة المخطوطات بالعربية والفارسية والتركية الخاصة بالمكتبية القيصرية
بفيينا-بالنمسا- أو المكتبة الوطنية بباريس و نيويورك ،وهناك مخطوطات أخرى
بالمكتبة العامة لجامعة الملك سعود بالرياض،
أما
أكثرالمعاجم الأجنبية في التصوف ومصطلحاته توثيقا ووثوقا فهو المعجم الذي وضعه شيخ
المستشرقين الفرانكوفونيين "لوي ماسينيون"
الكوفة والبصرة (أوالصراع المذهبي بين الفقه والتصوف)
اذا
كانت بغداد "عين العراق ونسيمهاالذي هو أرق من كل نسيم " كما وصفها
أحدالفضلاء في (معجم البلدان)فقد فرشت في الماضي الزاهر مجالسها وطرقها ،وساحاتها
للمسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والبوذي والمجوسي ،وكلهم تجادلوا، وتناوشوافي
صراع فكري ثري لم ترق فيه دماء رغم أخطاء معطم خلفائها في حق بعض مفكريها، وبقيت
أرضها تضم فسيفساء من الأديان والمذاهب والأقوام تعايشت فيما بينها..
وفتحت مند نشأتها ،مجالسها لأكبر تجمع بشري للزهاد الورعين الصادقين والصابرين على
أذى الناس والحكام(لم يعرف له مثيل في أية حضارة أخرى، فالحضارت القوية تفرزدوما
متمرديها ) في رقعة كانت تصخب بالثراء الفاحش وكل ما يلزم ،وما لايلزم من أسباب رغد
العيش ومن كل شىء سببا،فأداروا ظهورهم لها وكان بامكانهم الايفعلوا ذلك (وكم أبكي
ابن السماك والفضيل بن عياض هارون الشيد في مجلسه رافضين هباته !!!!)
ومنحت الأمة امام أهل السلف والعلم والتقوى والزهد ابن حنبل، وأئمة التصوف الأوائل
الذين تذكر أسماؤهم في أركان الدنيا وبكل لغات اليابسة،مثل الجنيد، ورويم ،
والخراز، وحاتم الأصم ،والحافي والكيلاني، ومئات غيرهم ممن ملأوا الأنام وشغلوا
الناس، ناهيك عن فحول الشعراء ،وأئمة الفكر والفلسفة والفلك والرياضيات والعلوم
الطبيعية في بلاط الرشيد الذين كانوا قناصلته الى العالم ، حيث لم يجتمع في بلاط
ملك من ملوك الافرنج مثلهم عددا ومكانة وقيمة..
وفيها أسس البغداديون مدرستهم في الاعتزال التي عرفت بجودة متكلميها، وذكاءقائليها
،وواضعيها،
الا
أن البصرة والكوفة تفردتا بخصيتين أساسييتين ،وان التقيتا في كونهما بنيتا في
فترتين متقاربتين في الزمن من طرف الفاروق عمررضي الله عنه
البصرة
أما
البصرة، فقد ازدهرت فيها الحركة الصوفية المبكرة ،وعرف عنها النظرفي سرالعبادات
وأحوال القلوب والمقامات ،وافتخرت بالحسن البصري ورابعة العدوية ،ومدرسة علم النجوم
،روادها ابن سيرين والجبائي ومدرسة اللغة والأدب ،ورائدها الخليل الفراهيدي ومعقل
علم الكلام بلا منازع
فانها وقد بزتها الكوفة في مضمار علوم الظاهر ،فقدآلت على نفسها أن تسلك اتجاهين
معاكسين لاتجاه الكوفة، فوطنت نفسها على أن تكون معقل"متمردي هذه الأمة "الفكري" من
المعتزلة والمتصوفة، فتغرق في "عقلنة المتكلمين" وحواراتهم في أزقتها،وسبقت بذلك
عواصم غربية مثل فيينا وباريس حيث شيد المعتزلة فيها كيانهم الفكري، على مقالات
تيارين معروفين هما نفاة القدر ومثبتوه(أو التيار القدري والتيار الجبري) حيث نشأ
الصراع بينهما على أشده(ونعرف علاقة الفكر"الشيع-معتزلي " ودعمه للتصوف ، في منهجية
جدله والتقعيد لنظرياته ،عندما اختط أهل البصرة لأنفسهم، الولع بتتبع آثار العبادات
في النفس ،وأعطت رجالا أ سماهم المحاسبي والقشيري "بأرباب القلوب"،وأطلقوا على
معارضيهم من الفقهاء بعلماء الرسوم وأحيانا –لسفه بعضهم وهنات خلقية (برفع
العين)أطلقوا على الفقهاء اصطلاح علماء القشور-سقوطا في الشطط والسجال العقيم..
الكوفة
وكان من الغريب أن توجد في الكوفة القريبة منها حركة الفقه، فهي مدينة أنصار أمير
المؤمنين علي وعبد الله بن مسعود، وناهيك بابن أبي طالب وابن مسعود من صحابين
جلالين، وفقيهي هذه الأمة ،وكان لابن مسعود مصحفا دونه بيده وجمعه وتوثيقه ، فتعصب
له الكوفيون حتى ظهور المصحف العثماني
وتجمع بالكوفة فحول الفقهاء من شيوخ أبي حنيفة وهم بالعشرات ولم يكن لهم نظير
بالبصرة، فآلت على نفسها نصرة علي وعلوم الظاهرمعا، ولم تزل تتداولها الهزاهز حتى
أذاقهاالحجاج عذاب الهون نحوا من عشرين عاما، ولم تذق طعم الطمأنينة بعد ذلك ، وذاك
قدرها مع الصرة وبغداد الى يومنا هذا..وذاك ثمن التمرد والثورة ضد الطغيان..
وخصت الكوفة نفسها بعلوم أحكام الفقه الظاهر، ودراسة الشعائر الدينية ،وتوسيع دائرة
الالتزام بالنصوص ،احتماء من جور بني أمية، وطغيان بني العباس وسرفهم، فذاع صيتها
في كل مايرتبط بالعلوم الفقهية والشرعية،
فأخذ المتصوفة انطلاقا من البصرة، في ابتداع طرق غير مطروقة ولا مأمونة، معاكسة
للتيارالكوفي، فتكلموا في الأحوال والمقامات والشطح ،وأشاروا الى القبض والبسط
والخوف والرجاء وغير ذلك من مصطلحات باعدت بينهم وبين أهل الفتيا بالكوفة، بحيث
تآمر الكثير من الفقهاء ضد المتصوفة، لما أشكل عليهم أمرهم ومن لغز مصطلحاتهم،
فناصبوهم عداء مريرا أدى بالكثير من الطرفين الى نتائج كارثية –وخاصة من المتصوفة
من اعدام وتنكيل ،فتحولوا بسبب جهل بعض الفقهاء الى ضحايا،.مما زاد من اقبال العامة
عليهم، فتطورأمرهم الى فرق وطرق منظمة، وأخذ صيتهم يعلوا بسبب تأثيرهم ونفوذهم على
العوام والنخب المتمردة ،(كما هو الشأن الآن في معظم الأقطار الاسلامية) فاختصوا
فيما بعد باحترام بعض خلفاء بني العباس من العصر العباسي الثاني،مع ضعف واستهثار
معظمهم، ثم علا صيتهم في فترة المماليك ، واكتسبوا المزيد من الشعبية في الحروب
الصليبية ،مما زاد من حنق الفقهاء عليهم
ثم
بدأت مرحلة الصراع اللااخلاقي، الذي أظهره الكثير من الفقهاء (لأسباب سياسية أكثر
منها فقهية كما هو الشأن الآن )حيث بدأوا في المبالغات في نقل أقاويل الشطحات
وتضخيمها (ومازال الشأن كذلك مما استخلصته مع حوار لي مع بعض ألأقطاب المحسوبة على
السلفية على قناة تلفزيونية) لاظهارهم بمظهر الملاحدة والمارقين عن الدين..
ولقد سجل لنا التاريخ مواقف المتصوفة العالية وأخلاقهم السامية ،حتى نهاية القرن
الخامس الهجري ،حتى قال فيهم أحد أعمدة السلفية الكبار "ابن القيم ،في كتابه مدارج
السالكين ما يلي"...واجتمعت كلمة الناطقين في العلم –يقصد التصوف- على أن التصوف هو
الخلق...،وأنه علم مبني على الارادة ،فهي اساسه ومجمع بنائه، وهو يشتمل على تفاصيل
،حكام الارادة، وهي حركة القلب ،ولهذا سمي بعلم الباطن......"
ويمكننا القول على أن المرحلة التي استمرت من بداية التصوف حتى القرن الخامس
الهجري ،أطلق عليها "بالمرحلة الأولى" التي كان الغالب الأعم على التصوف فيها، هو
تفضيل المجاهدات العملية على الجانب النظري لقول "الامير ابراهين بن ادهم البلخي'161للهجرة)
المتصوف المعروف"أطلبوا العلم من أجل العمل" والذي قال عنه الثقاة من العلماء أنه
كان أفقه عصره"،ومعروف الكرخي(المتوفى عام 200للهجرة) وأبو سليمان الداراني،
وآخرون من الذين ذكرهم صاحب الطبقات "السلمي" ومعظهم جمعوا ما بين الزهد والتصوف
والفقه، وان كانت قوال بعضهم في المقامات والأحوال لا تعبر في مجملها عن مذهب صوفي
واضح المعالم ،بل كانت أقولهم مثلها مثل أقوال الفقهاء الورعين فجاء كلامهم على
مضامين تنطوي على تمام الزهد في الدنيا، وطلب الآخرة، ومقاومة الشهوات ،ومغالبة
حطام الدنيا وزيفها ، والترهيب والخلوة والجلوة والعزلة والطاعة والصدق والمجاهدة
والمعرفة والمحبة التي تحولت فيما بعد الى علم خاص اسمه "علم الأحوال والمقامات"
وفي
الدور الثاني للتصوف، أي بعد القرن الخامس الهجري، انتقل الى مرحلة دقيقة، عندما
بدأ يتناول أحكام الدين من حيث آثارها في القلوب، وتحليل النفس لتصفيتها، فكان من
الضروري أن يتكلموا عن ترقيهم الروحي، عن طريق مصطلحات"اسمها المقامات والأحوال"
لكي يصل المريد الى حال"الجذب "أو "الكشف" فسموا أنفسهم بأصحاب المكاشفات، وأصحاب"
المعرفة الذوقية" فتحدد في هذه الفترة عند المتصوفة والفقهاء مصلحي "العالم" و
"العارف"، لكون العالم هو الذي ينشد المعرفة عن طريق النظر العقلي، ويتخذ الأسلوب
المنطقي وسيلة لتحصيلها ،أما العارف، فهو الطالب ،و الساعي الى"
المعرفةالكبرى"بأعمال القلبأ وفضلا ومنة من الله –كما يقولون-و بممارسة الرياضات
الروحية ،بخلاف متصوفي الدور الأول الذين كانوا لايطلبون سوى الجنة.،.بينا تحول
متصوفة الدورالثاني الى نشدان القرب والانس بالله ومحبته ومشاهدته وتجليه، وطلب
السعادة الذاتية، تلك السعادة التي يحصل عليها بالمعرفة الذوقية بالقلب ،والوصول
الى لذة روحية غامرة ،وهي لذة مسيطرة تغشى نفس الطالب و مريدي المعرفة لدى متصوفي
ما بعد الغزالي، ...................
للبحث صلة