من ذكريات رمضان
خالص جلبي
لفت نظري كلمة مدارسة القرآن؟ جاء في السيرة أن جبريل كان يتدارس القرآن مع نبي الرحمة كل سنة مرة، وفي عامه الأخير كرر الموضوع مرتين؟!.. فما السر خلفها؟
أستطيع أن أتصور تلك المتعة العقلية والروحية لرجل نزل عليه القرآن وهو يتذوق كل آية ووقت نزولها والظروف التي أحاطت بنزولها.
في يوم سأل نبي الرحمة ص أن يقرأ عليه صحابي القرآن فتعجب وقرأ حتى وصل إلى آية فطلب منه التوقف لأنه لم يعد بإمكانه حبس دموعه، فأطلق الاثنان الدمع، وهما يتأملان الآية وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟
إنها ليست كلمات بل مسئولية مخيفة ؟؟
وفي سورة الأنفال هناك ذكر للنعاس وهم يستقبلون المعركة؟ إذ يغشيكم النعاس أمة منه؟ فكنت أقول الإنسان في جو المعارك وعلى غاية من التوتر فكيف ينام المرء؟
حتى شرح لي أخي رياض، أنه ذاق هذا المعنى من ظروف التوتر والنعاس فيه، وكيف استرخى هو يستقبل الخطب الملهم؟ وكانت من أيام القامشلي المملوءة نصبا وعذاب؟ فأوحت لي بفكرة أن كل آية أو مجموعة آيات لها ظروف نفسية نزلت فيها، ولذا فأكثر الناس استيعابا لآيات الرحمن، هم الذين يدخلون الظروف النفسية التي نزلت فيها آيات الذكر الحكيم..
وأنا حين كان يموت عزيز لأحد ما كنت أشعر بحزنه العميق حتى ذقته؛ فأصبحت أنظر الموضوع من زاوية مختلفة.
والقرآن له في نفسي طعم عجيب، لأنني حفظته في ظروف نفسية متباينة، على مدار ثماني سنوات، اتسمت المرحلة الأخيرة فيها بالفهم المعمق أو محاولته، وأسال ربي أن يكوني شفيعي يوم الحساب.
ولذا فأنا أذكر مثلا سورة يونس التي كانت آخر سورة حفظتها من محكم التنزيل، على ظهر بيتي صديقي (حسان جلمبو) في حي الشعلان من دمشق ، فأكملت بها حفظ الكتاب، فكلما مررت بهذه السورة تذكرت الرجل فهو من أخذني في سيارته لإحضار زوجتي في عرسها، وهو من نقلت جثته رميما إلى زوجته من تدمر وما أدراك ما تدمر؟ فسلام عليه حين ولد وحين مات وحين يبعث من مرقده..
أما سورة البقرة فكانت عجيبة، لأنها لم تكن السورة الأولى في الحفظ، ولم يكن مشروعي الحفظ، وكنت أكررها لمن حولي، وما زلت أتذكر الأستاذ أويس الرقاوي بجبهته العريضة وشخصيته الجميلة وثقافته المميزة عن ابن خلدون مع (سيكارته التي يلفها في الحديث؟) وهو يسألني عن أطول آية في القرآن؟ فكنت أقرأها له وهي آية التداين؟
إنها أيام جميلة عذبة، ولا أدري ماذا فعلت به الأيام؟
وأجمل أيام رمضان كانت لنا في مسجد سوق مدحت باشا، وهو السوق الموازي لسوق الحميدية في دمشق، وذكرني بتلك الليالي الخالدات الأستاذ التونسي الغنوش، حيث كان يدرس عندنا في الجامعة ويأتي فيصلي خلفي. وكنت فيهم يومها إماما..
وكانت صلاتنا طويلة تمتد أكثر من ثلاث ساعات، فلا يحضرها إلا من استعد لوقفة ممضة بصبر وتحمل ومتعة؟ وأجمل ما فيها كان استعراض معاني الآيات وأسباب نزولها.. فكنا نستريح بين الركعات فنعلق على بعض الآيات ونتدارسها.. وهو ما ذكرني بمدارسة النبي مع جبريل..
وأنا حاليا أفعل نفس الشيء؛ فأقرأ ما فتح الله علي، وأشرح لزوجتي بعض المعاني التي تمر فتشكل عليها؟
واليوم سألتني عن آية النسيء زيادة في الكفر؟ فوضحت لها كيف كانت روح الحرب في الجاهلية، يجعلهم يلعبون في الأشهر الحرم؟ فإن طابت لهم الحرب؟! أرجأوا الأشهر الحرم، فلعبوا بالقانون المتفق عليه، فجاء القرآن واعتبر أن هذا كفرا، بل يجب أن تبقى الأشهر الحرم ثابتة فلا يتقاتل فيها الناس؟
ولعل الحج يحمل الترميز العميق، لتوسيع أمد الأشهر الحرم، فتمتد لكل السنة، وتنقلب الكرة الأرضية كلها إلى كعبة كبيرة، بدون سفك دم، وهو الاعتراض الذي قدمته الملائكة عن معنى خلق آدم ليسفك الدم؟ فقال الرب إني أعلم ما لا تعلمون..
وأنا شخصيا أقف مذهولا أحيانا من إدراك الملائكة هذا الفصل القبيح من تاريخ الإنسان؟ وهل سيأتي وقت لا يسفك فيه الدم الحرام؟
قبل أيام طار السفير التشيكي مثل ديك الحبش في الجو من تفجيرات فندق ماريوت في باكستان في رمضان، وقبل سنوات قتل البشر في المسجد في رمضان في السودان. وفي 8 ـ 8 ـ 08 وهو وقت يذكر بـ 9 – 11 ، 2001 حين استباح الروس جورجيا فسقط الناس بالضرب مثل الذباب..
وأحيانا أتأمل القط الجميل (شوقي الصالح) عندي في البيت، وهو اسم لقبته إياه، وحين أطعمه بدلال أفكر فيه، أنه لو قتل لن يسأل عنه أحد من خالة وأم؟ ولن تحقق الشرطة في الجريمة؟ ولكن كم من الناس يقتل في الأرض كل ساعة؟ ويموتون بأتفه من قط ويعسوب ونملة ونحلة..
إن قصص القرآن جميلة ممتعة فيها تحريض لا ينتهي للمخيلة عن المعنى الوجودي للإنسان وقصص الرحمن..