الجرف الصامد: أداة عسكرية بأهداف سياسية

الجرف الصامد:

أداة عسكرية بأهداف سياسية

فادي الحسيني

نبدأ مقالنا اليوم بالترحم على شهداء فلسطين.....عملية عسكرية إسرائيلية جديدة على قطاع غزة، وكأن الله قد كتب على سكان القطاع المحاصر إختبار بعد إختبار، وثواب من عند الله وصمود حتى ولو كان بغير إختيار. في كل مرة كانت تضرب إسرائيل قطاع غزة كانت ترمي لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية أو لربما كانت تأتي ضمن إستراتيجية أكبر وأبعد من الحرب نفسها. ومن هنا وجب البحث في أسباب وأهداف هذه الحرب، وخاصة أن العديد من ملامحها أصبحت مختلطة عند الكثيرين بعد أن أخذتهم صيحات وعويل الحرب بعيداً.

جاءت هذه الحرب بظروف دولية وإقليمية وداخلية مختلفة عن سابقاتها، وشكل كل ظرف من هذه الظروف أثراً ودوراً في تحديد شكل هذه الحرب، وبالتالي ما ستؤول عليه. دولياً، بدا تغيراًواضحاً في معالم خارطة السياسة الدولية، فتصاعد الدور الروسي أصبح أمر لا يمكن التغاضي عنه، وتراجع النفوذ الأمريكي أصبح أمر لا يدعو للشك، وتعثر الأوروبيين وإرتباكهم أيضاً أصبح أمر معلوم وخاصة بعد واقعة القرم التي أكدت بعد أحداث سوريا ظهور القوة الجديدة/ القديمة الروسية على الساحة الدولية. الصين راجعت مواقفها ودورها، فبعد أن كانت في الصف الأول ولاعب رئيس مع روسيا في الأزمة السورية، إرتأت التراجع للخطوط الخلفية، وإكتفت بتصويت يعكس مصالحها بمجلس الأمن بعيداً عن أي أضواء أو تصريحات.

أما إقليمياً، فجاءت الحرب مع إستمرار أحداث وتبعات الربيع العربي، وسقوط الإخوان المسلمين إكراهاً في مصر وطواعية في تونس، وفي ظل تأزم الأزمة السورية أكثر فأكثر، وتفاقم الأمور في العراق واليمن وليبيا، واستقرار الأمور إلى حد ما في إيران بعد سلسلة من المحادثات وإجراءات بناء الثقة. التطورات في المنطقة العربية سريعة لدرجة أنها أربكت أكثر الخبراء دراية وعلماً بقاطني هذه المنطقة. أما في إسرائيل، فإئتلاف حكومي متهالك، وأزمة سياسية كبيرة دفعت الكثير من المسؤولين الإسرائيليين إلى إنتقاد نيتنياهو وحكومته والمطالبة بإقالتها. فلسطينياً، جاءت الحرب هذه بعد وقت وجيز من المصالحة الوطنية الفلسطينية التي طال إنتظارها، وتوقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وحادثة مقتل ثلاثة مستوطنين وجريمة قتل مواطن فلسطيني بدم بارد.

إسرائيل لم تستطع أن تكظم غيظها من إتفاق المصالحة الفلسطينية، وأصبحت تهدد ووتوعد لدرجة أن أقرب حلفاءها طالبوها بالتروي وإعطاء الفرصة لحكومة الوحدة الوطنية. وكانت إسرائيل قد خيرت السلطة الفلسطينية مراراً وتكراراً في السابق بأن تختار بين المصالحة مع حماس أو السلام مع إسرائيل، إلى أن قرر الفرقاء طي صفحة الإنقسام، فتعمقت جراح صانع القرار الإسرائيلي أكثر وخاصة بعد الموقف الدولي المبارك لحكومة الوحدة، الذي إعتبر صادماً في إسرائيل، وخاصة الموقف الأمريكي.

جاء هذا التطور مع تراجع في شعبية إسرائيل دولياً وبشكل غير مسبوق، وشهدت علاقات إسرائيل الدبلوماسية فتوراً لم تشهده من قبل، فبدأ قادة إسرائيل إتهام السلطة بعزلها دولياً، في محاولة لإستدرار عطف من تبقى من داعميها من المجتمع الدولي، ولكن دون جدوى. نعم، إستطاع الفلسطينيون خلال السنوات الأخيرة من ترتيب أوضاعهم الدولية، وبات المجتمع اليوم أقرب للرواية الفلسطينية من الرواية الإسرائيلية، وإنتقل الحديث عن مقاطعة مؤسسات ومنتجات وبضائع إسرائيل ومستوطناتها من مستوى الشارع إلى المستوى الرسمي، فأخذت العديد من الدول مواقف صارمة حيال ذلك.

إذا ما أخذت جميع هذه المعطيات في الإعتبار، وبالتوازي مع الأزمة الداخلية في إسرائيل، والتي جعلت رئيس حكومة إسرائيل في أرق يومي، نجد أن البحث عن مخرج للأزمة الداخلية والخارجية أصبح أمراً حتمي وغير قابل للنقاش. وعند الحديث عن الجبهة الداخلية، نجد أن تماسك جبهة إسرائيل الداخلية- وهي الجبهة الهشة بطبيعتها- تعتمد على الشعور بالخوف والتهديد الخارجي. ومن هنا، فافتعال أزمة خارجية لم يكن أمراً جديداً أو تفكيراً مستحدثاً على صانع القرار الإسرائيلي، ولكن أين تكون الوجهة هذه المرة؟

رغم وجود تأييد شعبي كبير في إسرائيل لسياسة حكومتها المناهضة لإيران، إلا أن إستطلاعات الرأي أظهرت فتوراً حيال أي هجوم على إيران، أضف لذك علم صانع القرار الإسرائيلي بخطورة إتخاذ قرار الهجوم على إيران دون وجود ضمانات أمريكية وغربية. إذاً، الخيار الإيراني سقط، فماذا عن خيار الجبهة الشمالية؟  وعلى الرغم من حجم الأرق الذي يسببه حزب الله لقادة إسرائيل، إلاً أن إسرائيل تعي حجم الإمكانيات العسكرية واللوجيتسية التي يتمتع بها حزب الله، وتدرك أن ما إستنزف من قدرات الحزب في الأزمة السورية ليس كثيراً لتأمن مفاجأت الحزب وضرباته. إذاً، الجبهة الشمالية باتت مغامرة غير محسوبة، فماذا عن الخيار الفلسطيني؟

إن صحت الرواية التي تقول بأن إسرائيل هي من إفتعل قصة مقتل المستوطنين الثلاثة أم لم تصح، فإن إسرائيل كانت معنية بتصعيد الموقف اليوم أكثر من أي وقت مضى، ووجدت من الطرف الفلسطيني الحلقة الأضعف لتحقيق مخططاتها، وخاصة إذا أخذت الظروف الإقليمية المناسبة وإنشغال الجميع بأحوالهم المضطربة. نعم، إتهمت إسرائيل حماس وعدد من عناصرها بقتل المستوطنين الثلاثة، إلا أن مستوطني الإحتلال لم يمهلوا حكومتهم الوقت لتنفيذ ما تصبو إليه بحادثة قتل المستوطنين الثلاثة، فانطلقت ذئاب الحقد، بعد أن غذى نيتيناهو وليبرمان التطرف في قلوبهم أكثر وأكثر، لتتصيد أية فريسة فلسطينية وكانت الضحية هذه المرة طفل في السادسة عشرة من عمره.

نقلت إسرائيل المعركة إلى قطاع غزة، وهو ما كانت تصبو إليه من البداية، أي بمعنى إقحام حركة حماس رسمياً في مواجهة مع إسرائيل، ليس هدفها بطبيعة الحال إنهاء حماس. وقد يلحظ المتابع تسلسل العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة، فبعد أن كانت تضرب الأراضي الزراعية الخالية، أصبحت كل بقعة في قطاع غزة هدفاً للصواريخ الإسرائيلية. المواجهة المطلوبة- والتي لم تكشف إسرائيل عن أهدافها علناً- تهدف أن تستدرج حركة حماس والفصائل المقاومة لرد الفعل، وإطلاق المزيد من الصواريخ على البلدات الإسرائيلية.

إسرائيل، وهي تعلم تمام العلم محدودية حجم الخسائر البشرية والمادية المتوقعة من صواريخ المقاومة الفلسطينية، وحدت جبهتها الداخلية من جديد، على الرغم من بعض الإنتقادات هنا وهناك، ولم يعد أي حديث في الشارع الإسرائيلي إلا عن حركة حماس  والفصائل المقاومة والخطر القادم من قطاع غزة. لم تتوقف المكاسب الإسرائيلية من هجومها على غزة عند هذا الحد، فبعملية الجرف الصامد، أرادات إسرائيل أن تظهر للعالم بأن الفلسطينيين لم يتغيروا، بل هم ذاتهم الفلسطينيين الذي يقتلون ويقصفون الإسرائيليين "المدنيين". وبكل صاروخ ينطلق من قطاع غزة على المدن المحتلة داخل إسرائيل، كلما إقتربت إسرائيل أكثر من تحقيق أهدافها غير المعلنة.

تغيرت النبرة الأمريكية حيال الفلسطينيين، وعادت لنبرتها القديمة وإتهام حركة حماس بالإرهاب وأحقية إسرائيل بالدفاع عن نفسها. دولاً أخرى إتخذت نفس الموقف- مثل فرنسا- وحتى أن الأمم المتحدة باتت منذ جديد أقرب للموقف الإسرائيلي منه للموقف الفلسطيني. حجم المكاسب التي جنتها إسرائيل من هذه الحرب لم يتوقف هنا أيضاً، فبالحديث عن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أزعجت إسرائيل، نجد أن أيه برامج وأهداف لحكومة الوحدة كانت تتعلق بالتحضير للانتخابات وتجسيد الوحدة الوطنية ذهبت أدراج الرياح، حيث تغيرت الأولويات التي فرضتها أحكام الأمر الواقع. إسرائيل راهنت أيضاً-كما راهنت دوماً- على تباين المواقف السياسية للفرقاء الفلسطينيين حيال سبل التعامل مع هكذا عدوان، وهو الأمر الذي قد يعني إنتكاسة جديدة للوحدة الفلسطينية والعودة للانقسام. 

المكسب الجديد من الجرف الصامد هو إستنزاف قدرات الفصائل المقاومة رويداً رويداً، وهي تعلم أن مخزون السلاح في قطاع غزة أصبح محدوداً مع تضييق الخناق والحصار وتفجير الأنفاق بين قطاع غزة ومصر. ومن هنا، فالنتيجة الأقرب بعد هذا العدوان أن تقبل إسرئيل بوقف لإطلاق النار، وأن تصادق على هدنة تحاول بقدر الإمكان من خلالها إضعاف وتحييد قدرات حماس والفصائل المقاومة في قطاع غزة للدرجة التي تستطيع أن تسوقها في شارعها الداخلي، ولكن مع إبقاء حماس قوية بما يكفي أيضاً (عسكرياً وشعبياً) للمحافظة على فرص الإنقسام الفلسطيني.   

ولكن، الأمر الذي لم يكن في حسبان صانع القرار الإسرائيلي هو إنتفاضة الضفة الغربية وهبة فلسطينيي الداخل لينصروا إخوتهم في قطاع غزة. إسرائيل بطبيعة الحال مستمرة في مخططاتها، إلا أن إستمرار هذا الحراك في الضفة الغربية والداخل المحتل سيربك المخطط الإسرائيلي، وسيضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية أكثر فأكثر.

ومن هنا، فإن وحدة الشعب الفلسطيني هي معيار نجاحة، وسلاحه الأقوى أما كل التحديات، فما حدث في قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس المحتلة، والداخل الفلسطيني أكبر دليل أن كل ما حاولت إسرائيل أن تفعله عبر هذه السنين سقط صريعاً أمام صخرة الإنتماء.

فبأي عقل بشري يمكن أن تتخيل أن يحدث هذا، قسمت إسرائيل سكان البلاد جغرافيا، وفصلتهم عن بعضهم ثقافياً، وخلقت لكل بقعة من بقاعها واقع مجتمعي وإقتصادي وسياسي مختلف، ولكن حين وُضع الإنتماء عن المحك، إنتفض الجميع بلا إستثناء، ليقولوا نعم، فلسطين تحيا...تعيش....فلسطين باقية وأبداً لن تموت، لأنك يا فلسطين...الإستثناء.