إستراتيجية التغيير والإصلاح لدى الفرد 2

سلسلة مقالات بعنوان

إستراتيجية التغيير والإصلاح لدى الفرد

المقال الثاني

هيثم البوسعيدي

سلطنة عمان - مسقط

مفهوم التغيير والإصلاح هو شعار كل إنسان طامح للانتقال من رحلة السقوط إلى مرحلة النهوض والرفعة فالتغيير والإصلاح هو فطرة من عند الله عز وجل زرعها في النفس الإنسانية منذ بدء الخليقة ، إذ انه يشمل إصلاح النفوس والتربية على الأخلاق الحميدة وغرس الصفات الراقية وإيقاظ عواطف النبل والكرامة حتى تمتزج الفضائل بالروح وتسري مسرى الدم في العروق فعند ذلك تنطبع تلك الفضائل بالنفس فلا تستطيع التحلل منها في أي لحظة مهما كانت المغريات..

 يمكن تعريف مفهوم التغيير والإصلاح بأنه هو سلامة وصحة بدنية، وعقلية، واجتماعية، وعاطفية، ونفسية، واقتصادية، وتعليمية تتوفر لدى الإنسان المتميز ، ولكن ليس كل الناس تتوفر لديهم نفس المستوى من السلامة والصحة في العقل والجسد الروح والتعامل الاجتماعي مما ينتج عنه سلوكيات متباينة هذا بدوره يؤدي إلى خلق الصراعات داخل الإنسان بين مكوناته الرئيسية.

 وكذلك فإن الإصلاح هو الرجوع عن ما يدمر جودة حياتنا بحيث لا يقتصر هذا الإصلاح على العادات المتبعة وإنما تمتد لتشمل العادات التي ستتبع فيما بعد وتتطلب التطوير مثل الغذاء، النشاط الرياضي، التعلم، فكل عنصر من هذه العناصر تنعكس سواء بالسلب والإيجاب على سلامتنا وصحتنا.

 إذا فأن مفهوم التغيير والإصلاح يكون انتقال من غلبة الشهوة وغفلة الروح وإتباع أنماط حياتية مضرة إلى المحاسبة النفسية على كل الأفعال الصادرة من خلال تفحص وتصفح دقيق لما يصدر من الفرد سواء أكان مذموما أو محمودا مع رغبة قوية نحو الإصلاح لتثمر في النهاية إلى ترجمة فورية على نحو أفعال وسلوكيات وخطط وحالة شعورية جديدة.

أما إذا أردنا البحث عن نماذج رائعة ينطق عليها مفهوم الإصلاح والتغيير فهي موجودة بكثرة في حياتنا وما علينا فقد إلا أن ننظر إلى من حولنا وسوف نجد النماذج الطيبة والرائعة . فقد نتعامل مع شخص دمث الأخلاق والابتسامة ترتسم في محياه دائما فيتولد الإعجاب لدينا بهذا الشخص تلقائيا وتنشأ الأسئلة في دواخلنا كيف نكون خلوقين مثل هذا الرجل ؟ وكيف نجعل الابتسامة مزروعة في و وجوهنا للأبد مثله على الرغم من كل الظروف ؟ وكيف أختار هذا الشخص هذا الأسلوب والصفة الرائعة ؟ مجرد لحظة تأمل في هذا الشخص تبين إن هذه الأخلاق والفضائل لم تنشأ من فراغ لدى هذا الشخص بل جاءت بعد جهد شاق مع رغبة أكيدة بالإصلاح والتغيير وتطبيق حقيقي لمفاهيم الصلاح وبناء الشخصية المتميزة.

 أما الصراع بين الانحراف والصلاح هو صراع ابدي يستمر في الإنسان منذ ولادته طالما هناك نزعات ودوافع للانحراف كما إن هناك نزعات ودوافع للإصلاح في النفس البشرية حتى يتحقق احد المفهومين فأما يعيش الإنسان سعيد أو يعيش شقي. فمثلا وسوسة الشطان وسعيه نحو أخراج آدم عليه السلام من الجنة هو مثال على نداءات ونوازع النفس التي تقصد إبعاد الإنسان عن طريق الهداية والصلاح والوصول به إلى درجات الانحراف ، لذا فالمنوط من الإنسان دائما مجاهدة تلك النوازع وتقوية دوافع الخير وتنقيح النفس وتزكيتها من الأخطاء ؛لان قضية ظهور علامات الصلاح والانحراف في السلوك الإنساني ترتبط ارتباط وثيق بالإنسان نفسه فهو المسئول عن صنع تاريخه وتحديد وجهته في هذه الحياة وكيف يعيش ويحيا.

الإصلاح والتغيير ينبع في شخصية الإنسان من ثلاث مكونات رئيسية في العقل والنفس والجسد :

العقل : وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون (آية 35 – سورة العنكبوت) غريزة العقل هي التي يصفها علماء النفس وعلماء الأخلاق بالقوة والحضرة الملائكية ، والعقل كما عرفه احد السلف انه فَهمْ ، وإدراك ، وحسن تصرف ، واتساق في الكلام كما إن العقل يؤدي وظائف متعددة مثل التفكير ، الجدل ، الذكاء والانفعال العاطفي ، أما العقل السليم هو من يقود صاحبه إلى أن يتوافق قوله مع عمله وهو المرشد نحو اختيار النافع مع ترك الضار وهو الدليل نحو كيفية التعامل مع الناس واستخلاص العبر الصحيحة من الحوادث يقول العالم رينيه ديكارت : (لا يكفي أن يكون لك عقل جيد، المهم هو أن تستخدمه بشكل حسن) المثال الآتي يوضح كيف إن تحكيم العقل يلعب دور في رقي الإنسان وتقبله للحقائق العلمية فنحن مثلا لم نرى الجاذبية ولا الكهرباء وكذلك أعظم العلماء لا يمكنهم أن يعرفوا ماهية الجاذبية والكهرباء إلا إننا نؤمن بهما ، ولا مفر من الإيمان بهما ، لأننا نرى مظاهر وجودهما في كل مكان ومن حولنا ولقد توصلنا إلى اكتشاف القوانين التي تحكم سريانهما ، إذا إن عدم رؤية الشيء ليس دليلاً على عدم وجوده .. بل أصبح الآن من حقائق العلم أننا لا نرى كل ما يحيط بنا ، وهناك ما يقع في مجالنا البصري و لكن لا نستطيع رؤيته. ولقد تخلص العقل البشرى حاليا من إنكار وجود كل ما لا يراه ، وأصبح الإنسان يؤمن بأن الوجود ومستوياته أكبر من كل ما يسمع وما يرى وما يحس وهذا بفضل حكمة استخدام العقل مصدر الإدراك والتمييز والمعرفة.

النفس : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها ) آية 7 – سورة الإسراء ،قد نرى البعض من الأبوة يعاملون أبنائهم بقسوة شديدة وقد نرى أيضا بعض المدراء الفاشلين يعاملون موظفيهم بقسوة واستهزاء واحتقار.كل هذه القسوة والمعاملة السيئة انعكاس لما يدور في نفس الإنسان ، لذا فأن النفس تحمل بين طياتها نوازع وقوى متصارعة منذ بدء تكوين الفرد وعبر مراحل حياته وهذا الصراع الذي يحكم النفس بكل تناقضاتها ربما يودي إلى زيادة فعل الخير فتكون النفس المطمئنة وان انتصر الشر سميت بالنفس الأمارة بالسوء ، والنفس هي التي تقود كل حملات تحقيق اللذة وإشباع الرغبات ومن تلك الرغبات العدوان والعنفوان وان اختلفت أشكاله ومسارات فعله كذلك النفس هي مركز العواطف والأحاسيس والمشاعر فهي اخطر منطقة لدى

شخصية الإنسان فهي مصدر سعادته أو شقائه بأمكانها أن توجه الإنسان نحو أسعادة وكذلك بأمكانها أن تنحرف بالإنسان وتنزلق به في هاوية الشقاء والفساد والانحراف ومن هنا ندرك قيمة المقولة الشهيرة لسقراط: "اعرف نفسك". كما إِنّ النَّفْسَ البشرية تَسْتَكِينُ وَتَتَعوَّدُ على ما تم تعويدها وترويضها عليه كما يقول الشاعر قديما :

صبرت عَنْ اللَّذّات حتّى تولّت * وألزمت نفسي هجرها فاسْتَمَرّتِ

وكانت عَلَى الأيام نفسي عزيزةً * فلما رأت عزمي عَلَى الذلّ ذلّتِ

وَمَا النَّفْسُ إِلاَّ حيثُ يجعلها الفتى * فإن طمِعَتْ تاقتْ وإلاّ تسلَّتِ

الجسد : معنى إصلاح الجسد هو العناية الدائمة بالجسد أو وجود حالة سلامة في بدن الإنسان ، والإصلاح النابع من الجسم يتطلب طاقة جسمية فمثلا عندما تريد أن تعمل لساعات أطول لرفع الإنتاجية يستلزم هذا الأمر اهتمام بنوعية الغذاء وتوزيع ساعات الراحة والنوم بشكل صحيح وممارسة الرياضة بشكل منتظم ، كذلك فأن الجسد فهو انعكاس لما هو موجود في العقل والنفس فكلما كان الجسد سليما وصاحيا كلما استطاع ترجمة ما يريده العقل والنفس إلى أفعال وسلوكيات.

                 

 إذا فليس هناك قيمة لعملية التغيير والإصلاح في حياة الإنسان إذا لم تهتم بتنمية ورقابة وتوجيه المكونات الرئيسية الثلاث للإنسان عقله ونفسه وجسده نحو الاتجاه السليم.

 عملية التغيير والإصلاح هي كالموج البعض تصدى لهذا الموج بدون استعداد وتخطيط فكان ضحية والبعض استخدم أساليب وطرق فذة مكنته من ركوب الموجة والاستفادة من قوة الموج فأصبح التغيير والإصلاح شعاره الدائم في الحياة.

 كذلك كل منا ينشد التغيير وكل منا مر بعملية تغيير وإصلاح لجوانب حياته والتغيير يحدث بشكل دائم فهذه سنة الله في خلقه كما ذكرنا حيث انه يشمل الأسرة والمسكن والأولاد والبيئة المحيطة ، لكن هذا التغيير تغيير ظرفي أو التغيير المفاجي أو التغيير الإجباري أو التغيير حسب الظروف الذي يأتي فجأة في حياة الإنسان فيغير الإنسان من حال إلى حال أكان أسوأ أو أحسن على سبيل المثال الحصول على أموال طائلة من بيع عقار يمكن الفرد من توفير قدر عالي من الحياة الكريمة له ولأسرته ، لكن هذا هو تغيير مادي فقط لم يشمل الروح والنفس والسلوكيات والتعامل مع الناس .

 إذا التغيير والإصلاح المنشود هو الصادر بأمر من الذات الإنسانية وليس من البيئة المحيطة هذا الإصلاح هو الذي يأهل الإنسان لاكتساب مهارات ووسائل لإدارة التغيير مما يجعله صلبا في مواجهة ظروف وضغوطات الحياة المستقبلية ، وهو الذي يحدث طفرة معنوية وايجابية في حياة الإنسان تتمثل في السلوك الحسن والتخطيط الجيد للحياة وإما الوصول إلى التغيير والإصلاح لا يحدث في يوم أو ليلة بل يتم عبر مراحل متعددة وهي كالتالي :

الرغبة : هو وجود حاجة ملحة في إحداث التغيير في حياة الإنسان ، وهي تعني انتباه القلب وصحوة الضمير واستيقاظ الإنسان من الغفلة والضياع ملتفتا إلى نفسه وكل من حوله ، كما إن الرغبة نقطة مهمة في عملية اتخاذ المبادرة وسلوك طريق التغيير والارتقاء بالروح.

الصراع النفسي : الذي ينشأ بين قبول الرغبة نحو التغيير من ناحية ومرحلة المقاومة والرفض من ناحية لهذه الرغبة الناشئة وذلك لحماية النفس من الوقوع في دائرة الارتباك والتشتت كذلك تحدث هذه المرحلة لمقاومة خسائر التغيير .ويتمثل الرفض والمقاومة في صور التشبث بالعادة والشكوى ولوم الآخرين كما إن هذا الصراع الدائر يأخذ فترة زمنية غير محددة ينشأ عنه في النهاية إما انتصار الرغبة أو بقاء الحال على ما هو عليه.

الوعي : كلمة تعبر عن حالة عقلية يكون فيها العقل في حالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي وفهم لما يحدث حوله ويتم ذلك عن طريق منافذ الوعي وهي الحواس الخمس ، كذلك الوعي بالتغيير يأتي بعد إدراك المرء الكامل ان سلوكه الحالي وأسلوب حياته الخاطئ يسبب له الكثير من السلبيات والمساوئ وهو ما نسميه بالاقتناع برغبة التغيير او الاعتراف الصريح بارتكاب السلبيات والأخطاء . على سبيل المثال مواصلة الموظف للدراسة قد تؤهله للحصول على فرصة وظيفية مميزة في المستقبل القريب لأنه أدرك في المقابل كيفية تأثير المؤهل الدراسي على زملائه وتفوقهم في الحصول على مناصب جيدة بعد استكمالهم للدراسة الجامعية.

 الإحساس بالمسئولية : ما ذكرناه سابقا يقود إلى الإحساس بالمسئولية وتبدأ هذه المسئولية من مرحلة الوعي فما يليها ، وتمتد إلى أي مكان نعيش أو نعمل ، والإحساس بالمسئولية هو شعور بالالتزام تجاه صحتنا الجسمانية - المادية- الشعورية -العقلية - النفسية، ومسئولية تجاه تطوير وتعليم أنفسنا واكتسابنا الخبرات. ومسئولية تجاه المستقبل الذي ننتظره وكذلك المسئولية تكون تجاه من يعتمدون علينا وهم: الأسرة – الأهل – الأصدقاء - المجتمع – العمل – الوطن ، وايضا الإحساس بالمسؤولية يعلم الإنسان كثير من القيم ويزرع فيه الكثير من المبادئ مثل : المشاركة الايجابية في المجتمع ، التواصل والاندماج ، الاحترام المتبادل ، التضحية والعطاء.

الإرادة أو العزيمة : تشكل الإرادة بالنسبة لعملية بناء النفس قطب الرحى، الإرادة طاقة هائلة كامنة تولد مع الإنسان، فأما أن تتفجر وتقود صاحبها إلى النجاح أو تكون خافتة فتموت مع مرور الزمن فالشخص الذي لا يستطيع التحكم بإرادته ويقوي عزيمته لن يفلح في رفع الموانع من طريقه على سبيل المثال احد الأشخاص يغفل دائما عن صلاة الفجر ويؤدي الصلاة في أوقات متأخرة عن وقتها ولكن في قرارة نفسه يحمل تأنيب ضمير مستمر لهذا لإهمال والغفلة وكذلك لديه رغبة في التغيير، لكن هذا العزم يحتاج إلى التوكل على الله واتخاذ القرار الحازم بعدم النوم عن الصلاة في وقتها.اتخاذ القرار الحاسم مهم جدا في هذه المرحلة فهو يعني الالتزام نحو هدف التغيير دون تسويف او تأجيل وهذا الالتزام يشمل أولا التفكير والتأمل ثانيا جمع المعلومات من اجل تخيل العواقب السيئة ومقارنتها بالعواقب الايجابية لهذا القرار ثالثا الشروع في تطبيق برنامج التغيير. إذا معادلة الإرادة تتكون من إيمان شديد بالفكرة + أمل كبير .

الشروع في التطبيق: هذه النقطة تتطلب اجتهاد وصبر وتنظيم كفء وبرنامج فعال مع إيمان شديد بحصول الفرج لان الدرب طويل والطريق وعر ملئ بالعثرات ، وهذا الإصلاح والتغيير لن يتحقق إلا إذا ترافق مع الهمة العالية والحماسة والنشاط الدائم قال احد العلماء إمرسون":"ما من شيء عظيم تم إنجازه بدون الحماسة".فالحماسة والهمة العالية هي الصفة السحرية فهي تتغلب على العقبات وتقضي على عوامل التردد وتؤدي إلى إنجاز الأمور. كل هذا يجعل من تطبيق مفهوم التغيير والإصلاح على الواقع العملي ليس بالأمر السهل فالكلام شي والتطبيق والممارسة شي آخر بحاجة كما ذكرنا آنفا إلى إرادة ومعاناة قد يتهاوى ويتساقط معها كثير من الطامحين والمدعين.

الاستمرارية أو الثبات: لا تتوقع النجاح من أول لحظة فمشوار الإلف ميل كما يقال يبدأ بخطوة وتوقع بأن الفشل سوف يعترض طريقك بل حتى اليأس والإحساس بالضعف ولكن السؤال كيف يمكننا أن نبقى دائماً مع مبدأ الصلاح ولا نحيد عنه إلى الفساد أو الانحراف في صغيرة أو كبيرة؟ وبعبارة أوضح، فعندما يعرف الإنسان الفضائل والسلوكيات الحسنة ويمارس تطبيقها ويعرف في المقابل الأخطاء ويبتعد عنها هنا يدرك كيفية السيطرة على النفس والسلوك والمحافظة على الغرائز بحيث لا يعود الناس إلى السلوكيات الخاطئة ومتابعة هوى الذات ؟وذلك يكون بالتكرار وتكثيف البرامج والخطط الفاعلة والعمل الدائم واكتساب الخبرات من الآخرين ستؤدي بالنهاية إلى تكيف الإنسان مع هذا التغيير والتزامه بمبادئ الإصلاح .