دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية 15
دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية:
الحركة والشخصيات
(15)
الحلقة الأخيرة
أ.د/
جابر قميحة(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط، والمغالاة).
***************************
1 ـ الرفاعي شبارة
كان طالبًا معنا في مدرسة المنزلة الثانوية واكتفى بهذه المرحلة، فلم يلتحق بالجامعة، وامتهن تجارة الأخشاب فيما بعد، ووفقه الله في هذه التجارة إلى أن لقي ربه من عامين.
***
كان الرفاعي طُلَعَة.. يقرأ كثيرًا، وكان خطيبًا جيدًا، وكان الدعاة الكبار، كالشيخ كامل الخريبي، يحرصون أحيانًا على أن نصحبهم ـ أنا والرفاعي ـ في زيارتهم لشعب الأقاليم إذا ما احتفلت بالمناسبات الإسلامية، كالمولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، وذكرى غزوة بدر، وطبعًا نراعى أن تكون كلماتنا موجزة، كتمهيد وتوطئة لحديث الداعية الكبير.
كما كان الرفاعي يشترك معنا في قيادة المظاهرات الوطنية بالمنزلة.
***
وكان الرفاعي جريئًا ذكيًا حاضر البديهة.. وأذكر في هذا السياق واقعة خلاصتها: أننا كنا
ـ بعد العشاء من يوم جمعة ـ في اجتماع أسره. وذلك في حجرة من الدور الأرضي من منزل "آل شبارة" وكان للحجرة نافذتان على الشارع مباشرة. وكل منهما مصنوعة من الخشب بلا عيدان حديدية.
وترتفع عن الأرض قرابة متر ونصف، وبينما كنا مستغرقين في شرح قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39). وفجأة هب الرفاعي واقفا وأشار بأن نلتزم الصوت، وغادرنا قرابة دقيقة واحدة، وجاء وفي يده حنفية قديمة.. وجعل الحنفية في يده على شكل مسدس، وفتح النافذة فجأه وصاح في غضب:
ـ أفرغ المسدس الوقتي في رأسك يا ابن (...)؟
وجاء الرد في صوت مرتعش.
ـ ابعد سلاحك يا رفاعي.. أنا زي والدك.
ـ اخرس .. والدي يتجسس على الناس يا ابن ...؟
ـ أعمل إيه يا رفاعي؟ دا أكل عيش.. على كل حال.. أنا لن أكرر ذلك أبدًا.
وانصرف الرجل وأغلق الرفاعي النافذة.. وأخذنا نضحك وهو يعرض علينا المسدس , أقصد "الحنفية القديمة".
وخلاصة ما حدث أن رجل المباحث عبد العزيز طلب منه رؤساؤه أن يكتب تقريرًا عن نشاط قسم الطلبة بشعبة المنزلة، فألصق أذنه في النافذة الخشبية طمعًا في أن يلتقط كلمات يكتبها في تقريره، فأذهلته المفاجأة، ومن شدة رعبه اعتقد أن "الحنفية القديمة" مسدس.
والواقعة ـ كما هو واضح ـ تدل على الجرأة من ناحية، كما تدل على سرعة البديهة من ناحية أخرى.
***
وعاش الرفاعي طيلة حياته صريحًا، جريئًا، في الحق, وجرأته قد تبلغ حد الإسراف، والمغالاة أحيانًا . ومن عجب أن أوضع أنا موضع المسئولية عن بعض تصرفاته الحادة , من ذلك أن الحاج مختار شبارة "والد الرفاعي" أقام أمام بيته سرادقًا احتفالاً بذكرى ميلاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حضره كثير من أهل المنزلة، وخصوصًا الشباب.
وبعد مضي قرابة ساعة تمتع الحضور فيها بالاستماع للقرآن الكريم، والتواشيح، وفجأة وفي سرعة البرق أسرع الرفاعي إلى الميكروفون، وأخذ يتحدث عن العدل في الإسلام، وكيف كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عادلا مع أصحابه، وكذلك أصحاب الديانات الأخرى، وبصوت أعلى وحماسة فائقة واصل الرفاعي كلامه ـ بغير المتوقع ـ.." ولكننا في وقتنا الحاضر نجد الظلم والفساد والفجور، نرى كل ذلك متمثلاً في ملكنا الفاجر الفاسد فاروق بن نازلي شر خلق الله " .
فنهض الحاضرون جميعًا ـ ما عدا بعض شباب الإخوان ـ وغادروا السرادق على عجل خوفًا من أن يراهم رجال المباحث في السرادق ويتعرضوا للمسئولية، ثم جاءني الحاج مختار متغير الوجه وبادرني قائلاً:
ـ كده برضه يا جابر؟! أنت عاوز تودي الواد وتودينا كلنا في داهية؟ فأقسمت بأغلظ الإيمان أنني لا أعلم أن الرفاعي، سيتكلم، ومن ثم .. ومن باب أولى لا أعلم ماذا سيقول.
***
أما الموقف الثاني، فخلاصته: أن "مدرسا أول" بالمنزلة الإعدادية (وهو من بلد غير المنزلة) هذا المدرس تعود في المساء أن يجلس أمام مسكنه، أو يمشي في الشارع الذي يقع فيه مسكنه "يعاكس" الفتيات والنساء.
كلمه أحد جيرانه أن يكف عن أعمال المراهقين هذه فنهره، وقال:
ـأنا حر أعمل اللي أنا عايزه.
ـ لكن اللي بتعمله ده غلط.
ـ غلط.. صح ما لكشي دعوة.. يا متخلف.
ـ بس أنا خايف عليك من أهل الحتة.
ـ لا.. متخافش.. الراجل فيهم يتعرض لي.
شكاه بعض جيرانه لناظر مدرسته، فلم يهتم، ولم يأخذ الشكوى مأخذ الجد.
علم الرفاعي بما حدث، فترصد للرجل ذات مساء، ووجه إلى وجهه دفعات من اللكمات غيرت معالم وجهه تمامًا، وظهر كأنه يضع على وجهه قناعًا كالذي يضعه جنود العصور الوسطى.
وبعدها طلب الرجل نقله من المنزلة فحققت مديرية التربية والتعليم رغبته بعد أسبوعين من طلبه، ولكن أغرب ما في هذه المأساة أن الرجل وجه الاتهام إليّ، مدعيا أنني الذي ضربته بنفسي دون الاستعانة بغيري.
سأله المحقق وكيف عرفت أنه هو، مع أن الدنيا كانت ظلامًا؟
ـ عرفته من طوله يا بيه.
ـ لكن الطوال كتير, مش هو بس اللي طويل.
وعلى مدى ساعتين كان التحقيق معي وحفظت القضية لعدم توافر الأدلة.
***
قلت للأخ الرفاعي ضاحكًا.. مبسوط يا عم؟ تشتم الملك، وتلقَي المسئولية عليّ!! وتضرب الرجل.. والقصاص يكون مني أنا.. وتمثلت بقول الشاعر الجاهلي:
لم أكن من جناتها علم اللـ
ـه، وإني بحرها اليوم صالي
رحمك الله يا رفاعي، وحشرك مع النبيين والصديقين، والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
***
الشيخ سيد الضويني:
حافظ القرآن وقارنه..كنا نقدمه ليستهل بصوته الجميل حفلاتنا واجتماعاتنا.. فلاح أصيل.. وإن شئت فقل إنه خبير زراعي.. في التربة.. والري.. وأنسب المحاصيل وأنواع التقاوي.. استفتاه أحدهم في ثلاثة أفدنة ينوي شراءها فكان جوابه:
ـ خللي بالك الارض "مالحة" شوية , يعني لازم تزرعها أول زرعة "مشيط" وثاني زرعة "برسيم". وعلل الشيخ سيد ذلك بأن المشيط يمتص أملاح الأرض.. والبرسيم بعد ذلك يكمل المهمة.. يعني بيغسل التربة، ويطريها.
والشيخ سيد خبير كذلك بأعمال "المعجنة" وأسرارها. والمعجنة حفرة مربعة بطول عشرة أمتار. أما العمق فقرابة متر ونصف، وينقل للحفرة تربة نظيفة خالية من الشوائب. ويوضع معها نسبة من التبن، وينزل أحدهم إلى الحفرة ليقوم بعجن هذا الخليط.. ولا بد أن يراعى النسبة المطلوبة من التربة، والتبن والماء.
وبعد ذلك تفرغ الحفرة من محتوياتها في قالب في حجم "الطوب الأحمر" وتعرض في الشمس حتى تجف، وترص لتصنع ما يسمى بالقمينة، ويوقد عليها من عينين فيها، فينضج "الطوب اللبِن" بعد عدة ساعات ليتحول إلى "طوب أحمر" معد للبناء.
إنها معلومة قدمها لنا الشيخ سيد "خبير الأرض" . والشيخ سيد يملك كنزًا من الحكايا والأحداث الواقعية الطريفة جدًّا؛ لذلك كنا نحب الجلوس إليه.
ومن الوقائع الطريفة التي قصها أن الشاب "فلان" صعد إلى أحد سطوح المنازل، ومعه "قفة" ليسرق بعض الدجاج.. فصاح الدجاج مما أيقظ أهل البيت، وأمسكوا "بحرامي الفراخ" وسلموه للشرطة.. وأشار أحدهم على ضابط الشرطة باستدعاء والده لتأديبه؛ لأنه معروف بصلاحه وتقواه.
وحضر الأب، وحكي الضابط ما حدث، فنهض الأب كالوحش الكاسر، يريد أن يفتك بابنه.. ومنعه الضابط بعد جهد جهيد. وهدأ من روعه.
ووجه الأب كلامه لابنه بعد ذلك.
ـ كده يا ابن (...) تفضحنا في البلد. لما أنت عايز تسرق فراخ بالليل من غير ما تكاكي رش علي الفراخ شوية ميه.
فذهل الضابط وكل من في حجرته.
سألت الشيخ سيد:
ـ ما معنى هذا.
ـ معناه أن الأب "حرامي فراخ" أصيل , واعتراضه ـ لا على جريمة ابنه - ولكن على الطريقة الخطأ. والدجاج إذا رششته بالماء ليلاً.. لا يصيح أبدًا.. خبرة!!
ويتحدث عن "رياض فطير" لص المنزلة المشهور.. وهو يُرجَع إليه عند كل سرقة لرد المسروق مع أخذ "الحلوان" أي المقابل، سواء أكان هو السارق أم غيره. ونسمع من الشيخ سيد الواقعة الآتية:
ـ كان السيد المناوي صاحب دكان كبير لتجارة "المنيفاتورة" أي الأقمشة، وذات صباح فتح دكانه فوجد سقف الدكان منقوبًا، وعن طريق هذه الفتحة سرق خمسة أثواب من الصوف.
واستدعى عم السيد حرامي المنزلة رياض فطير، ووعده بمبلغ كبير إذا أحضر المسروقات.. قال رياض: يا عم سيد أنا شخصيًا لم أقم بهذه العملية.. لأنها عملية عيالي.. واللي عملها معندوش شرف. أنا الحمد لله يا عم سيد حرامي شريف. حرامي راجل. حرامي نظيف.. أسرق بكسر الأبواب أو فتحها، لا عن طريق ثغرة في السقف أو في الحيطان.
***
والشيخ سيد مع أنه يكبرنا بقرابة عشر سنين، كان حريصًا على أن يشاركنا في كل رحلاتنا، وزياراتنا الدعوية لشعب الأقاليم.
وكنا نتيمن به، ونحب الجلوس والاستماع إليه يرحمه الله.
***
عبد الحميد الزهرة:
بدأ حياته عاملاً نقاشًا، ثم وسع الله عليه رزقه فأصبح مقاولاً، يحبه الناس ويقدرونه لتقواه وأمانته في العمل.
وكان عبد الحميد ممن حببني في الدعوة والشعبة. ومن تقدير لي أنه كان يعاملني كرجل لا كشبل من أشبال الإخوان، وكان يصحبني في رحلات الجوالة، واشترك في عروضها التي يقدمها في القرى المجاورة.
وقد ذكرت في حلقة سابقة أن الإخوان قاموا بمظاهرة ضخمة في المنصورة في يوم جمعة سنة 1947م، حضرها إخوان من كل شعب الدقهلية، فمن المنزلة حضر عبدالحميد الزهرة، ومحمد حسن عساسة، وكاتب هذه السطور.
كانت المظاهرة لتأييد محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء، وهو يعرض القضية المصرية أمام مجلس الأمن، بعد أن خذله النحاس باشا ـ كما ذكرت ـ في فصل سابق. وكان قائد المظاهرة الشيخ مصطفى العالم ـ رحمه الله ـ.
وبعد أن انتهينا من المظاهرة ـ وكان اليوم حارًا جدًّا ـ قلت لأمير الركب:
ـ أعتقد أنك ستغدينا عند الحاج محمود.
(ومطعمه مشهور متخصص في تقديم طواجن اللحم).
فقال الأخ عبد الحميد:
يا جابر.. أنت عارف أن الشعبة هي التي تتحمل كل نفقات السفرية، واحنا علينا أن نشيل الدعوة.. مش الدعوة هي اللي تشيلنا.
ـ يعني إيه..
ـ يعني حترسي على الفول المدمس، والطعمية. وكان درسًا تلقيته من الأخ عبد الحميد في عبارته العفوية الرائعة "احنا علينا أن نشيل الدعوة.. مش الدعوة هي اللي تشيلنا".
***
وتطوع عبد الحميد للجهاد في فلسطين ضمن كتائب الإخوان، وأصيبت قدمه برصاصة.. وعاد إلى مصر، ثم المنزلة. وحكى ـ على استحياء وبمصداقية كاملة ـ ما قام به، وسبب إصابته.
وبهذه المناسبة أذكر موقف (فتحي. ط)، وهو عضو في أحد الأحزاب. تطوع من أجل فلسطين ـ أو هكذا قال ـ وغاب عن المنزلة قرابة شهرين، ثم عاد بغترة وعقال، وأخذ يروي قصة الملاحم التي قام بها في فلسطين، وعدد اليهود الذين لقوا مصرعهم على يديه.
سأله واحد من أهل المنزلة:
ـ فلماذا عدت يا فتحي، ولم يتمسك بك الجيش، أو كتائب المتطوعين؟
ـ أنا راجع هربان... لأن هناك فلسطينية ... ملكة جمال ... من أسرة كبيرة جدًّا أحبتني، وتعلقت بي، وحرص أبوها وأسرتها على أن أتزوجها، ولكني بصراحة لم أجد في نفسي استعدادًا لأن أبقى في فلسطين مع زوجتي هذه، أو أصحبها إلى مصر... ظروفي لا تسمح، هذا هو السر في أني تركت فلسطين وعدت مرة أخرى.
سأله أحدهم: إيه هي أنواع السلاح اللي أنت ادربت عليها يا فتحي؟
ـ أسلحه كثيرة، أنا حقول إيه ولا إيه، كان هناك أسلحة أشكال وألوان، المهم موش السلاح، ولكن المهم هي الإيد اللي بتشيل السلاح، وأنا والحمد لله شهد لي الكل بالقوة اللي مافيش زيها.
وكان الناس يستدعون فتحي للتسلية بمثل هذه الحكايات الخرافية التي يقصها.
وهذا النموذج يوضح الفرق الشاسع بين متطوع الإخوان عبد الحميد الزهرة، وأمثال "فتحي. ط". إن الفرق بينهما هو كالفرق بين السماء والأرض. واعتذر للأخ عبد الحميد عن هذه الموازنة. وهذا يذكرني بقول الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدرُهُ
إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
***
إن في رحاب الدعوة الإخوانية عشرات، بل مئات يستحقون أن أكتب عنهم، ولكن المساحة المتاحة لا تسمح بأكثر مما كتبت، فلنتركهم لصفحات التاريخ الذي سجل، ويسجل أسماءهم بحروف من نور.