هل سقط فكر الحركة القومية العربية ..؟
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
لا يختلف العقلاء من المخلصين عند تشريح ظاهرة القومية العربية حول معرفة عوامل إخفاقها وأسباب تراجعها ، وهل الدعوات التي نسمعها اليوم ، والتي تدعوا للعودة إلى الفكر القومي ، ووحدة الحركة القومية ستجد صدى لها ؟ وهل الأمة العربية التي تعيش تحت مناخ سياسي يختلف كثيرا عن تلك المناخات التي عاشت القومية العربية في أوجها ، ستتقبل وتنسجم شعبيا ورسميا أفكار القومية العربية ؟.
ثم ماذا تعني تلك الدعوات على صعيد الفكر السياسي ، وعلى صعيد القادة أنفسهم ، عندما يعيدون طرحها اليوم من جديد ...!!! ؟ .
بدا بزوغ الفكر القومي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، وكان من أهداف فكر القومية العربية إقامة دولة عربية موحدة ، على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ ، باعتبار أن هذه العوامل تقوم عليها وحدة الأمة ، وأن رابطة اللغة والجنس أقدر على جمع كلمة العرب من أي روابط أخرى ، وسخر قادة الفكر القومي كل الإمكانيات والطاقات من أجل نجاحها ، وهندسوا الأفكار وشيدوا النظريات من أجل الاستقطاب ، حتى أن بعضهم قال : إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها بأشكال شتى ، فمثلاً عبرت عن نفسها بشريعة حمو رابي ، ومرة أخرى بالشعر الجاهلي ، وثالثة بالإسلام .
وقال أحد مشاهيرهم : لقد كان محمد كل العرب ، فليكن كل العرب محمداً .
ويقول بعض دعاة الفكر القومي : إن العروبة هي ديننا نحن العرب المؤمنين العريقين من مسلمين ومسيحيين ، لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية ، ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي ، والمسيحيون على إنجيل المسيح .
ويقرر بعضهم الآخر أن المرحلة القومية في حياة الأمة مرحلة حتمية ، وهي أخر مراحل التطور كما أنها أعلى درجات التفكير الإنساني .
وأقاموا لذلك المؤسسات والأطر والجمعيات ، والخلايا السرية منها والعلنية ، ومنها جمعيات أدبية اتخذت من دمشق وبيروت مقرًّا لها ، والمؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس سنة 1912م .
والجمعية السورية التي أسسها بطرس البستاني وناصيف اليازجي سنة 1847م في دمشق.
والجمعية السورية في بيروت و أسسها سليم البستاني ومنيف خوري سنة 1868م.
والجمعية العربية السرية التي ظهرت سنة 1875م ولها فروع في دمشق وطرابلس وصيدا.
وجمعية حقوق الملة العربية التي ظهرت سنة 1881م ولها فروع أيضا .
وجمعية رابطة الوطن العربي ، أسسها نجيب عازوري سنة 1904م بباريس وألف كتاب يقظة العرب .
جمعية الوطن العربي ، أسسها خير الله خير الله سنة 1905م بباريس ، وفي هذه السنة نشر أول كتاب قومي بعنوان الحركة الوطنية العربية .
الجمعية القحطانية و ظهرت سنة 1909م ، وهي جمعية سرية من مؤسسيها خليل حمادة المصري .
جمعية (العربية الفتاة) ، أسسها في باريس طلاب عرب منهم محمد البعلبكي سنة 1911م .
الكتلة النيابية العربية و ظهرت سنة 1911م .
حزب اللامركزية سنة 1912م .
الجمعيات الإصلاحية في أواخر 1912م و قامت في بيروت ودمشق وحلب وبغداد والبصرة والموصل .
والمؤتمر العربي في باريس الذي أسسه بعض الطلاب العرب سنة 1912م.
جمعية العلم ظهرت سنة 1914م في الموصل .
وهناك أحزاب قومية منتشرة في البلاد العربية مثل حركة الوحدة الشعبية في تونس ، وحزب البعث بشقيه في العراق وسوريا ، والذي يعتبر أكبر حركة قومية في العالم العربي ، وهي حركة البعث العربي الاشتراكي ، وبقايا الناصريين في مصر وسوريا ، وفي ليبيا واليمن ولبنان وفلسطين .
كان رائد القومية العربية الأول هو المرحوم جمال عبد الناصر، الذي سخر لخدمتها كل إمكانيات الدولة وإعلامها ، وكان من قادتها ومنظريها الكبار ساطع الحصري 1880 1968م ، والذي يعتبر من أكبر دعاة القومية العربية ومن أهم مفكريها ، ويأتي بعده في الأهمية ميشيل عفلق ، و جورج أنطونيوس وقسطنطين زريق، وأمين الريحاني وساطع الحصري ، ورأى أولئك أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي اللغة والدم والتاريخ والأرض والآلام والآمال المشتركة ، وأن العرب أمة واحدة لها مقومات الأمة ، وأنها تعيش على أرض واحدة هي الوطن العربي الواحد الذي يمتد من الخليج إلى المحيط .
كما يرون أن الحدود بين أجزاء هذا الوطن هي حدود طارئة ، ينبغي أن تزول وينبغي أن تكون للعرب دولة واحدة ، وحكومة واحدة ، تقوم على أساس من الفكر العلماني ، حتى قال الشاعر القروي :
هبوني عيداً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ
سلام على كفرٍ يوحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
ومن أبرز رموزها التاريخيين المعاصرين العقيد الليبي (معمر القذافي) وجمال عبد الناصر الذي دخل بجيشه اليمن ليدعم الثورة اليمنية ، تطبيقاً لأفكار ومبادئ القومية العربية ، كما دعم حركات التحرر العربية التي نالت استقلالها فيما بعد مثل الجزائر، والسؤال الذي لابد منه : هل مشروع القومية العربية يصلح اليوم للتطبيق ؟
وهل التجربة الناصرية لا تزال صالحة بعد عشرات السنين ؟.
هذا الزخم الكبير من الأداء والإمكانيات التي ذكرتها أعلاه ، كانت له نتائج أحدثت صدى كبيراً في فترة تاريخية محددة ، كانت هذه الفترة خاضعة لمناخ سياسي متعلق ومرتبط في عاملي الزمان والمكان ، فكل مناخ سياسي له حالة شعبية وحالة ذهنية تخصه ، وتكون مهيأة لاستقبال فكر ما ، وتنبثق عن تلك الحالتين أشكالا من أنماط العمل السياسي .
فهل نحن اليوم أمام حالة هي مثل حالة ذلك الرجل الأبله الذي يحاول أن يُلبس ( بضم الياء ) قميص طفل لرجل كهل أو أن يُطعم ( بضم الياء ) طعام الأطفال لرجال كبار – هذا إن صحّ التشبيه اللغوي - .
لقد سقطت شعارات القومية العربية ، كما سقط نهجها وفكرها ومدارسها وقادتها، أمام التحديات الجسام التي واجهت الأمة العربية ، كما سقطت القومية العربية أمام الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي ، وسقطت أمام اجتياح أمريكا وحلفائها للعراق ، وفي حصار غزة واجتياحات الضفة الغربية وضياع كل فلسطين ، وسقطت في الإجتياحات المتكررة لجيش الكيان للبنان ، وفي حرب العراق والكويت ، كما غاب دورها في تحقيق الوحدة بين شطري اليمن ، وأخفقت في المحافظة على الوحدة المصرية السورية أبان أوج وانتعاش مبادئها ، حتى يئست الجماهير من كل الأفكار والأطروحات التي سرعان ما أن تهاوت أمام الضربات الإسرائيلية والأمريكية ، وأمام المخططات المعادية التي تنهب خيرات الأمة وتستبيح كرامتها ، وأفرزت كل تلك الأحداث مناخا دفع نحو الإيمان بالبندقية كطريق أفضل ؛ من أجل إحقاق الحقوق وعودة الكرامة .
الزعيم القذافي في مؤتمر القمة الذي انعقد في دمشق بسورية في 30 مارس 2008م ، هاجم كل الدول العربية ؛ لأنها أصبحت تعد فلسطين هي : الضفة الغربية وقطاع غزة فقط ، لكنه مع ذلك دعا إلى إلغاء مسمى (فلسطين) لتصبح (إسراطين) ، وعبَّر الزعيم السابق للقومية العربية عن سقوط دعاوي القومية العربية عندما قال: لا شيء يجمعنا أبداً إلا القاعة هذه.. للأسف الشديد نحن أعداء بعضنا.. كلنا نكره بعضنا ونتخاصم مع بعضنا ونكيد لبعضنا ، ونشمت في بعضنا ، ونتآمر على بعضنا ، نحن مخابرات على بعضنا ، نحن عدو لبعضنا !!! .
وقال: كرامة العرب راحت ، ووجود العرب راح ، وماضيهم راح، ومستقبلهم راح وأنكر عليهم ترك المطالبة بما سبق احتلاله قبل عام 1967م قائلاً : من الممكن أن يتم احتلال جديد لأراضٍ عربية في عام 2008م مثلاً ، وبعد سنوات ستطالبون أنتم بالعودة إلى حدود 2008م، ونعترف بالدولة الصهيونية وفقاً لهذا . انتهى
والقذافي هذا هو الذي ألقى بالمئات من الفلسطينيين مع نسائهم وأطفالهم تحت برد الصحراء وشمسها على الحدود المصرية الليبية .
والجامعة العربية عبر ستين عاماً مضت من عمرها والتي تأسست على خلفية معالجة الأزمات العربية الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين ، كان أداؤها مبنياً على رابطة العروبة ، ولكنها أخفقت ولم تحقق شيئا لا للعروبة ولا للقضية الفلسطينية ، وتم إنشاء ( الجامعة العربية ) في 27 / 10 / 1944م بعد صدور ( بروتوكول ) خاص بها، عُرف ب (بروتوكول الإسكندرية) .
والمهم في ذلك البروتوكول أنه أدرج منذ وقت مبكر قضية فلسطين، واعتبرها مسؤولية العرب جميعاً ، وهو ما أعطى لتلك القضية مكاناً بارزاً في كل نشاطات الجامعة العربية وقراراتها، فهل كانت الجامعة العربية أو القومية العربية تخدم قضية فلسطين ؟ ماذا قدمت للقضية الفلسطينية أمام التراجع المستمر والانهيار المتزايد ؟ ألم تكن الجامعة على مدى أكثر من ستين عاماً هي الجهاز الرسمي المسئول عن كل السياسات والتوجهات والفعاليات المعبرة عن فكر القومية العربية ؟
فقد كانت العروبة هي الراية الوحيدة المرفوعة ، والشعار الوحيد المعلن تحت سقف تلك الجامعة.
والرئيس السوري حافظ الأسد أحد أقطاب القومية العربية ، يضرب الفلسطينيين في تل الزعتر بالصواريخ ، ويقتل الألوف من أبناء شعبه ، وتمتلئ سجونه برجال الفكر والرأي .
القادة العرب اليوم يتبارون في ادعاء القومية والدفاع عن فلسطين ، وكل منهم يدعي بأنه زعيم القومية العربية ، فعن أي قومية تتحدثون وقد كثرت هزائمنا !! ؟
عبد الناصر زعيم الأمة العربية ورائد الفكر القومي العربي ، سرعان ما انهارت جيوشه سنة 1967 في الضربة الأولى أمام الكيان الغاصب .
ماذا فعلت القومية العربية أمام التمزق والتشتت ؟ ما الذي حققته من أجل التضامن العربي ؟ ولنغن معا نشيد (أمجاد يا عرب أمجاد) .
جبهة الصمود والتصدي بقيادة ليبيا والعراق لم تفعل شيئا.
إدانات وشجب واستنكار من قادة القومية العربية غطت أفق السماء ، كان آخرها إدانة مؤتمر قمة دمشق المساس بهوية القدس العربية ، التي تتعرض للتهويد والنهب المنتظم منذ أكثر من أربعين عاماً .
لقد اتخذ قادة العرب من زعماء القومية العربية قرارات كثيرة ، قرارات تعتبر قضية فلسطين قلب القضايا العربية بوصفها قطراً لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية وطالبت القرارات بضرورة الوقوف أمام الصهيونية ، و دعت إلى وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، و منع تسرُّب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة ، و العمل على استقلال فلسطين، و اعتبروا أي سياسة عدائية ضد فلسطين هي (سياسةً عدوانية) تجاه دول الجامعة العربية كافة ، وقرر القادة الدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه و مساعدة عرب فلسطين بالمال وبكل الوسائل الممكنة .
وقرَّروا إقامة قواعد سليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني؛ لتمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره ، وقرار إقرار خطة العمل العربي (الجماعي) لتحرير فلسطين عاجلاً أو آجلاً . فأين وصلوا بالقضية الفلسطينية ؟ فلا حققت القومية وحدة الأمة ولا تمكنت من فرملة التنازلات الخطيرة .
إن المرحلة اليوم والمناخ السياسي السائد والحالة الشعبية العامة ، خاصة على ضوء ظهور حركات تحرر جهادية فتية وشابة ، لا تسمح بعودة أفكار قد دفنها الزمن ، وأكل عليها التاريخ وشرب ، فلم ينجح الفكر القومي في تحقيق أي ٍ من أهدافه ، وإن أقصر الطرق لتحقيق أهداف الأمة هو الالتفاف حول مشروع المقاومة الذي يجمع بين جنبيه المتدين والعلماني ، المسلم والمسيحي ، الديني واللاديني ، وكل المشارب والتوجهات لا بد من أن تنصهر في بوتقة ذلك المشروح المقاوم والتي باتت معالمه تظهر للعيان .
المراجع :
القومية العربية تاريخها وقوامها ، مصطفى الشهابي .
&n اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية ، ساطع الحصري .
محنة القومية العربية ، أركان عبادي .span>
نشوء القومية العربية ، زين نور الدين زين .