كلمات في القرآن (8)
الوفاة
د.عثمان قدري مكانسي
التفت إليّ أحد المصلين اليوم بعد انتهائنا من أداء صلاة الفجر – وكان رجلاً من عوام الناس – يقول متلهفاً : يا أبا حسان ؛ فاجأني جاري النصراني أمس بسؤال لا أعرف جوابه ، حين قال : كيف تقولون – معشر المسلمين – إن عيسى حيّ في السماء عند ربه ، والقرآن يعلن أنه ميت ؟ وقرأ علي قوله تعالى في الآية 55 من سورة آل عمران " إذ قال الله يا عيسى ؛ إني متوفيك ، ورافعك إليّ ، ومطهرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ..." وما دمنا أتباعه – كما يقول النصراني - فنحن ظاهرون فوقكم إلى يوم القيامة ، وأنتم الكافرون . إن الآية في قرآنكم تقول هذا .
ونظر صاحبي إليّ متحسراً متألماً قائلاً : لم أستطع الرد ، فأنا لا أعرف إلا أساسيات الدين ، وإيماني بالله راسخ ، لكنني أجهل كثيراً من الأحكام والمعاني الإسلامية .
قلت يا أخي ؛ أحسنت صنعاً حين سألتني فلم تترك للشيطان مسرباً يصل منه إليك ، ولا يكون الرسوخ في الشيء إلا بالعلم به علماً تاماً يمنع الشك أن يأتيه . ويطرد الشيطان وأعوانه أن ينفذ إليك بأسئلة ومعانٍ تثير الشكوك والشبهات ، هذا أولاً . أما ثانياً فنحن أتباع عيسى الحقيقيون ، فهو عليه السلام يعلن بملء فيه أنه عبد لله ، وبشر رسول " قال : إني عبد الله ،آتاني الكتاب ، وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت ، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ..." وهم يؤلهونه ويفترون عليه وعلى أمه حين يجعلونه إلهاً وابن إله ، ويجعلون أمه مريم زوجة الإله – سبحان الله أن يكون له وزجة أو ولد " وأنه تعالى جَد ّربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً " ، وأما ثالثاً فعودتنا إلى ديننا والتزامنا به يجعلنا سادة البشر ، وما استعلاء النصارى وغيرهم إلا ببعدنا عن هدي الإسلام وشرعته . ورابعاً فالوفاة لا تعني الموت إلا بقرينة تؤكده .
المعنى اللغوي لكلمة : توفـّاه الله : استوفى مدته التي كتبها له ، عدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا . وفي القرآن آيات تدل على أن الوفاة غيرُ الموت إلا بقرينة – كماذكرنا قبل قليل – وسنأتي ببراهين كثيرة وأدلة توضح المعنى وتوثـّقه .
ففي قوله تعالى في سورة الأنعام الآية الستين " وهو الذي يتوفاكم بالليل ، ويعلم ما جرحتم بالنهار ، ثم يبعثكم فيه ليُقضى أجل مسمّى ثم إليه مرجعكم ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون " فالنوم كل ليلة غيبة مؤقتة تستريح الروح فيها لتعاود النفس نشاطها في النهار ، يقبض فيها الروح ثم يبعثها إلى اكتمال الأجل . إن الوفاة هنا - إذاً- غيبة للوح مؤقتة تعود حين يستيقظ المرء .
وفي قوله تعالى في الآية الثانية والأربعين من سورة الزمر " الله يتوفـّى الأنفس حين موتها ، والتي لم تمتْ في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الاخرى إلى أجل مسمّى .." ففي الحالتين – الموت والنوم - قبض للروح ووفاة ( استيفاء ) وللموت أجل معدود . يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب : " وأما توفي النائم فهو استيفاء وقت عقله وتمييزه إلى أنْ نام .
وعلى هذا نفهم الآية التي لوى النصراني معناها ، وفسرها كما يريد ، نفهمها بلغة العرب التي نزل القرآن بها أنه قبْضٌ دون موت . ولا بدل من ملاحظة قوله تعالى " ورافعك إليّ ، ومطهّرك من الذين كفروا " فقد أنقذه الله تعالى حين رفعه إلى السماء إذ دخل اليهود عليه يريدون قتله ، فنجّاه الله منهم . إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يمت وهو في السماء ، دليل ذلك أسماءُ الفاعلين : ( رافعك ، مطهرك ، جاعل ) المضافة إلى الضمير الكاف للدلالة على الاستمرارية حين ينزل إلى الأرض ويقاتل المشركين ويكسر الصليب ويقتل الخنزير كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة " ليهبطن الله عيسى بن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يجد من يأخذه ، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا ، أو ليثنـّيـَنّ بهما جميعا " ويحكم بالإسلام ويحج بيت الله الحرام ويعتمر.
وتكون الوفاة موتاً بقرائن دالة عليه ، في القرآن أمثلة كثيرة نذكر بعضها :
1- قوله تعالى في الآية 97 من سورة النساء " إن الذين توفـّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض . قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟..." والقرينة هنا حديث الملائكة مع الكفار الذين ظلموا أنفسهم وماتوا وهم كافرون ، فلا تكلم الملائكة البشر ولا سيما الكفار إلا بعد الموت ....
2- قوله تعالى في الآية 61 من سورة الأنعام " حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا " فالقرينة هنا الموت نفسه ، والملائكة التي تقبض الأرواح .
3- قوله تعالى في الآية 101 من سورة يوسف " توفـّني مسلماً ، وألحقني بالصالحين " فالقرينة في هذه الآية الرغبة في الموت على الإسلام وأن يلحق يوسف عليه السلام يالأنبياء قبله على ملتهم ودينهم .
4- قوله تعالى في الآية الخامسة من سورة الحج " ومنكم من يُتوفى ، ومنكم مَن يُرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً " فالدليل على أن الوفاة هنا موت أن البعض تطول أعمارهم حتى يصيبهم الخرف .
5- وقوله تعالى في الآيات 27- 32 من سورة النحل ففيها تصوير بديع مخيف في استقبال زبانية العذاب للمشركين الذين ظلموا أنفسهم في جهنم مع التوبيخ والسخرية ، وتصوير بديع مفرح لاستقبال الملائكة مَن آمن استقبالاً طيباً فيدخلونهم الجنة معززين مكرمين " .. إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقـَوا السلم ماكنا نعمل من سوء ، بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فلبئس مثوى المتكبرين ، وقيل للذين اتّقـَوا : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا خيراً . للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ولدار الآخرة خير ، ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون ، كذلك يجزي الله المتقين ، الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " . نسأل الله أن يكتبنا في عباده الطيبين الذين يكرمهم في الفردوس وجنات النعيم .
6- وقوله تعالى في الآية 234 من سورة البقرة في عدة الأرامل ، ولا تكون المرأة إرملة إلا حين يموت زوجها وتجب عليها العدة " والذين يُتوفـَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشراً " .
وتـُذكر كلمة الموت حين لا تكون قرينة دالة عليه ، والدليل على ذلك
1- قوله تعالى في حادثة موت سيدنا سليمان عليه السلام في قوله تعالى في الآية 14 من سورة سبأ " فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته " ولم يقل : فلما قضينا عليه الوفاة .. ما دلهم على وفاته ،
2- وقوله تعالى في الآية الثلاثين من سورة الزمر " إنك ميّت وإنهم ميّتون " حين أخبرنا أنه لا بد من الموت ، وأن كل نفس ستذوقه , ولم يقل إنك متوفّى وإنهم متوفـَّون .
3- في أواخر سورة المائدة تصوير لحوار جرى بين صاحب العزة سبحانه وبين عيسى عليه السلام يسمعه الخلائق كلها تثبيتاً لوحدانية الله وتبرئة لعيسى عليه السلام من دعوى الألوهية له ولأمه : " إذ قال الله يا عيسى بن مريم ؛ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ "
قال سبحانك ؛ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ، إن كنتُ قلتُه فقد علمْتَه ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب ،ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أنِ اعبدوا الله ربي وربّكم ، وكنت عليه شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شيء شهيد ، إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
وذكرت كلمة " توفيتني " لأن الحديث عن الزمن الذي كان فيه عيسى في السماء قبل أن ينزل على الأرض ، وبمعنى آخر لم يكن قد مات بل كان حياً في السماء ، وما يموت إلا بعد نزوله إلى الرض ، ومحاربته الدجال ، وقتله في باب لد ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ... أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء ، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه " من موقع الدرر السنية ( الحديث صحيح )
والأمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها والاستيثاق منها ... والله أعلم.