أقلام وإعلام

د. بلال كمال رشيد

[email protected]

كان من المفروض والأَولى أن تتقدم الثقافة على السياسة ، وأن يكون لها خطابها قبل أيِّ خَطْبٍ وبعده ، توجه وتصلح وترتقي بصوت العقل والأمل وتنتصر به على صوت العاطفة والألم ، منحازة لمنطق وحقائق ، تقف بين الخصوم والمتنازعين وقفة القاضي العادل حين ينطق بالحق ، وتعمل به وله ، فتكسب جمهوراً ، وتحقن دماء ، وترسي منهجاً ، وتشيع ثقافة الحوار لا القتال ، وتبقى لها الكلمة الأُولى والفصل .

لكنَّ السياسة فرضت وجودها وخطابها ، ودخلت  في مفاصل الحياة كلِّها ، ولم تترك شأناً من الشؤون إلا وتركت ظلاً أو ظلالاً كسببٍ أو نتيجةً لسببٍ من أسبابها ، فأفسدته قولاً وعملاً ، ودخلتْ إلى الثقافة فسيّستْهُ وسوّستهُ ، وأصبح الخطاب الثقافي متغيراً بتغيرها ، لا ينطلق من مبدأ ، ولا يستقر على رأي ، وما يبنيه اليوم ويجليه ، ينقلب عليه غداً ويزدريه ، وأصبحت الثقافة حرباء متغيرةً متلونةً سائرةً على دين السياسة التي لا دين لها .

أسوق هذا الكلام وأنا أتابع خطابات وكتابات كُتّاب وإعلاميين ممن جرفتهم السياسة وذهبوا معها وبها كلَّ مذهب ، ممن صفقوا وطبلوا لأفكار ومبادىء وأشخاص حيناً من الدهر ثم انقلبوا عليها وعليهم مع غروب شمسهم وانتهاء غيثهم ، انقلبوا ومالوا إلى من عنده المنصب والجاه والمال ، فكذبوا وغيروا حقائق ، وألفوا أكاذيب وجعلوها وثائق ، فضلوا وأضلوا ، وكانوا بوقاً يخاطبون نُوقاً ، مسيرون على - طريق السياسة المتعرج والمتشعب والسريع – وهُم يسيرون على غير هدى .

لقد مرت منطقتنا – وما زالت – بمنعطفات ومتعرجات ، ولو تناولنا كاتباً أو إعلامياً واحداً من أولئك – وما أكثرهم – لوجدنا ذلك التذبذب والتأرجح من  وإلى ، وقبل وبعد ، فأيُّ ثقافة هذه التي يحملونها وهي لا تنطلق من مبدأ ، ولا يخلصون له ، ويبتعدون عنه ما اقترب منهم الدرهم والدينار ؟؟!!!

لقد كشف الربيعُ العربي وما يحدث الآن في غزة عورات أصحاب الأقلام المأجورة والمسعورة ، وأصحاب الحناجر الملتهبة بأمراض السياسة نفسها ، وهم يقفون مع الجلاد ضد الضحية ، وينتصرون للظالم وينصرونه ظُلماً ، لا تميز خطابهم عن خطاب عدوٍ أصيل   ، كشفتهم الأحداث ووضعتهم كما وضعت تاريخهم وأقوالهم ومواقفهم الموثقة وغير الموثوقة على المحك ،أولئك الذين هاموا في كلِّ وادٍ ، وأفتوا من غير عِلمٍ في كلِّ عِلمٍ ، فلوثوا الثقافة التي نُسبوا إليها ، وأهانوا الطبقة التي احتلوها ، وتراجعت بذلك الثقافة عن دورها ، وتقدمت السياسة على كلِّ خطاب .

ما زال أملنا في طبقة المثقفين أن يأخذوا دورهم ومكانتهم ، أن يجعلوا الثقافة سياجاً منيعاً حمى وحمايةً للوطن والأُمّة ، وهم يسمعون ويحاورون وينتصرون للحق حيثما كان ، لا يخافون لومة لائم ولا يُخيفون أحداً  في قول حقٍ وصدق، لا يُجاملون ولا يُنافقون ، ولا يزهدون بموقفٍ ولا كلمة ، أن لا يتركوا المحابر والمنابر  للأدعياء  والمشبوهين والقابضين على الدينار، والدائرين معه حيثما دار ، فرُبَّ كلمةٍ أو موقفٍ يُغيِّرُ المسار ، ويضيء العتمة ، حتى وإن قبضوا على الجمر  ، فذاك هو الموقف والمبدأ والحمى والصدق والثبات والسلاح  والنصر الذي نرتجيه، وهو الذي يأتي بالخير والوئام في كلِّ حين .