الأمن والقرآن الكريم

(تأصيلٌ شرعيّ)

د. محمد بسام يوسف

[email protected]

مدخل

مفاهيم مغلوطة

يزعم بعض النـاس أنّ العمل الأمني هو من الأعمال الغريبة عن الحركة الإسـلامية، ويتناقض مع توجّهاتها، وأهدافها، ومنطلقاتها! .. ويستنكرون أيّ نشاطٍ أمنيٍ تقوم به التنظيمات الإسلامية، أو المعنيّون من أفرادها!.. وقد تشكَّل هذا الاقتناع، نتيجة الخلفية النفسية تجاه العمل الأمنيّ في بعض الدول بشكل عـام، فالأمن أو "الأجهـزة الأمنية" في الدولة، ارتبط دوماً بواقعٍ وتاريخٍ مظلم، وَسَمَ جوانب كثيرةً من جوانب الحياة العامة!.. وتعبير "الأمن" أو "الجهاز الأمنيّ"، ارتبط في عالمنا بالقمع، والرعب، والسجن، والزنزانة، ومراقبة الناس، وكشف أستارهم، ومداهمة البيوت .. كما ارتبط بالجلاّد، والسَّوْط والتعذيب، والدولاب، والضحيـة، ونزف الدماء، والظلم، والقهر!..

المسلم وأمن الدولة :

نعم، لقد ارتبط اسم "الأمـن" بكل المصطلحات القبيحـة المذكـورة آنفاً، في الوقت الذي يدلّ فيه هذا الاسم الراقي على: السكينة، والسلام، والاستقرار، والراحة المطلقـة، والرخاء، والعدل، والهدوء! .. وهذا الارتباط الشاذ هو واقع الحال في معظم دول العالم اليوم، وفي طليعتها دول ما يسمى بالعالم الثالث!.. فقد أُسِّست "الأجهزة الأمنية" في هذا العالم لحماية "نظام الحكم" بدلاً من حماية "الشعب" أو "الوطن"، وبخاصةٍ في الدول التي تُقلَبُ فيها الكراسي بقوّة السّلاح، وبِهمّةِ جنرالات "النياشين" الزائفة!.. وتُفرَض فيها أنظمة الحياة الجائرة ومناهجها، بقوّة "الأجهزة الأمنية" (العتيدة)، التي تَعتبر "الشعبَ" أو "المواطنَ" (منذ لحظة تأسيسها وإنشائها) الخصمَ الأول، والعدوَّ الذي لا يمكن الانتصار عليه إلا بمثل هذه الأجهزة القمعية!..

لقد أرسى هذا الواقع المرير (الذي كان نتيجةً من نتائج إقصاء الإسلام وتعاليمه عن الحكم) دعائمَ أرضيةٍ نفسيةٍ مشوهةٍ تجاه "الأمن" عند الإنسان المعاصر، وبخاصةٍ الإنسان المسلم، الذي تعتبره بعض الأنظمة الوضعية العدوّ رقم واحد، الذي يتوجب عليه أن (يتلذّذ) بطعم "الأمن" المرّ بشكلٍ دائم، وأن يشعر -رغم أنفه- بنعيم تلك الأجهزة الأمنية في أقبيتها المظلمة (خمس نجوم)!..

إنّه الأمن الزائف، وإنها "الأجهزة أو الأنظمة الأمنية" الظالمة، التي مارست الظلم على "اسمها"، قبل أن تمارسه -بأبشع صورةٍ أخلاقيةٍ- على شعوبها المقهورة المنكوبة بها!..

الحركة الإسلامية والأمن : تصحيح المفاهيم المغلوطة :

الحركة الإسلامية ما وُجدت أصلاً إلا لتحكيم منهج الله في جميـع نواحي الحياة، ولإخضاع كلّ جبارٍ لحكم الإسلام العظيم، ولتحقيق العبـودية لله الواحد القهار لا شريك له، ولتحرير الإنسانية من العبودية للأنظمـة الوضعية الظالمـة، التي كان "أمنها" و"أجهزتها الأمنية" المستبدّة، إحدى إفرازاتها "النّتنة"، التي شوّهت خُلُق "الأمن"، قبل تشويهها لأجساد ضحايا التعذيب في أقبيتها السوداء!.. والمطلوب من ابن الحركة الإسلامية الحقيقي، أن يتحـرّر من تلك الخلفية النفسية التي زرعها الطغاة في عقله الباطن، بالواقع القهريّ الذي فرضوه، لأنّ "الأمن" في المفهوم الإسلاميّ هو: تحقيـق الاستقرار، والسّهر على راحة الناس، والمرابطة على الثغور، وترسيخ معاني السكينة والهدوء والراحة المطلقة للأفراد وللمجتمع .. فالأمـن في العقليـة الإسلامية هو "الأمن"، ولا شيء سواه، من غير تحريفٍ أو تزييف!..

*    *    *

الأصل الشرعيّ الأول : الأمن والقرآن الكريم

القرآن الكريم، الذي هو كتاب الله العظيم، ودستور الإسلام القويم، يحتوي -فيما يحتويه- على أعظـم المعاني الأمنية، ولا نبالغ مطلقاً عندما نقول: إنّ كتـاب الله عزّ وجلّ جاء بالكثير من أساسيات العمل الأمني ومفاهيمه ومفاتيحه، وقد أكّدت النصـوص القرآنية بشكلٍ لا يقبـل الاجتهاد أو طـول النظر والتفكير، أنَّ للعمل الأمني أصلاً شرعياً من الأصول الإسلامية التي ينبغي للمسـلم أن يأخذ بها، ويستفيد منها، وينفّذ روحها وتعاليمها، ومن أراد الدليل أو المزيد، فما عليـه إلا أن يستعـرض كتاب الله عزّ وجلّ، ويتلـوه "بعينٍ أمنية"، ليكتشف بنفسه حقيقة ما نقول!..

لقد زخرت قصص الأنبياء (عليهم صلوات الله وسلامه) في القـرآن الكريم .. بالعديد من المعاني والعِبَر الأمنية، خلال تبليغ دعوتهم لأقوامهـم، ومَن يتأمل في بعض تلك القصص .. فسيصل إلى اقتناعٍ قويٍ بأن الحـذر والأمن، كانا من الأساليب الضـرورية التي لا يمكن التخـلي عنها، في أي دعوةٍ من الدعوات التي جاء بها أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام!..

سنستعرض -إن شاء الله- بعض هذا القصص القرآنيّ بنظرةٍ تحليلية، نقـف فيها عنـد بعـض المفاصـل الأمنية، فنُظهرها ونعلّلهـا، لنأخـذ منها العِبَر التي تفيدنا في توحيـد نظرتنا واقتناعنا -نحن أبناء الحـركة الإسلامية- تجـاه الأمن والعمل الأمنيّ!..

كما سنستعرض -بإذن الله- عدداً من النصوص القرآنية التي تؤكّد على مفاهيم العمـل الأمني وأساسياته، بعد أن نقـرأها "بعينٍ أمنية"، فنوضّح فيها تلك المفاهيم والأساسيات، الضرورية لعمل الحركة الإسلامية المعاصرة التي تعيش في نهاية القرن العشرين، وعلى أبواب القرن الحادي والعشرين!..

(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزمر:27).

*    *    *

هكذا، فإنّ الأمن في العقلية الإسلامية والمنهج الإسلاميّ هو: "الأمن" ولا شيء سواه، فهو الذي يعني فيما يعنيه: تحقيق الاستقرار، والسهر على راحة الناس، والمرابطة على الثغور، وترسيخ معاني السكينة والهدوء والراحة المطلقة للأفراد وللمجتمع، إضافةً إلى حماية الصف الإسلامي والدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية من كل ما يعكّر أمنها واستقرارها وسلامة سيرها نحو تحقيق أهدافها بنجاحٍ كامل، وقد قلنا: إنّ القرآن الكريم زخر بالكثير من أساسيات العمل الأمني ومفاهيمه ومفاتيحه، مما يجعل للعمل الأمني أصلاً شرعياً ينبغي الأخذ به، وتنفيذ روحه وتعاليمه!..

حين نمرّ ببعض النصوص القرآنية الكريمة، إنما نمرّ مروراً سريعاً، لإظهار حقيقة ما نقول بجلاءٍ لكلّ فردٍ من أفراد الحركة الإسلامية، ولكل فردٍ من أبناء الأمة الإسلامية، لأنّ تلاوة القرآن الكريم "بعينٍ أمنيةٍ" هي أسلوبنا لتوضيح تلك الحقيقة!..

الحيطة والحذر .. أوامر قرآنية مباشرة :

المنافقون!.. أجل!.. هذا الصنف الخسيس من الناس، الذين يتغلغلون في الصفوف، ويتّخذون لأنفسهم أقنعةً متعددة، ويسعون إلى تفتيت الصف الإسلاميّ من الداخل، بكل ما أوتوا من مكرٍ ودهاء، أولئك العيون الضّالة، عيون الكفار والأعداء على المسلمين .. إنهم المفسدون الخطِرون على الأرواح والخطط والأفكار .. هؤلاء أخطر أهل الأرض على الإسلام وجنده .. ما الموقف منهم؟!..

(.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية 4).

نعم!.. أمر إلهي مباشر، لاتخاذ الإجراءات التي تكفل الأمن من شرّهم وأذاهم!..

(فَاحْذَرْهُمْ)، أوَلَيسَ "الحذر" والقيام بمتطلباته من أهم المبادئ الأمنية؟!..

(هُمُ الْعَدُوُّ)، لأنهم العدو الحقيقي الخطير، الذي ينبغي كشفه قبل تمكّنه من الصف الإسلاميّ، فيعمل على تدميره من الداخل!..

(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، لأنهم أعداء الله، لذلك فهو يبغضهم ويقاتلهم، وعلى المسلم أن يقوم بواجبه تجاههم فينفّذ أمر الله فيهم، فَيَحذَرهم!..

ذلك ليس كل شيء فيما يتعلق بأولئك المندسّين في الصفوف، المدمّرين لها:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).. فربّ العزّة يصفهم بوضوح، ويكشف سرائرهم بجلاء، ويأمرنا أمراً قاطعاً بكشفهم، وإبعادهم عن كل موقعٍ في الصف الإسلاميّ، وبخاصةٍ المواقع الهامة التي تتعلّق باتخاذ القرارات الخطيرة أو المصيرية!..

إنّه بيان وأمر من الله عزّ وجلّ، للعاقلين الحريصين على إسلامهم ودعوتهم من مكر الماكرين، وخبث المتربصين: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)!..

نعم!.. إن كنتم تعقلون! ..

الحذر مطلوب في السِّلْم .. وفي الحرب أَوْلى وأهمّ :

إذا كان الحذر وتحقيق "الأمن" بعملٍ أمنيٍ متكامل .. مطلوباً في حالات السِّلْم، فكيف به في حالات الحرب؟!.. علماً أنّ الحرب الحديثة متعددة الوجوه والأشكال:

(.. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَة) (النساء: من الآية 102).

إنه العدوّ المتربّص في كل زمانٍ ومكان، ينتظر حالة "الغَفْلة والاسترخاء" في الصفّ الإسلامي، وهي حالة تتعارض مع حالة "اليقظة والحذر" .. هذا العدوّ البارع بانتهاز الفرص التي تصنعها له حالة "الغَفْلة" ماذا يفعل؟!..

(فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَة)، مَيْلَةً لا تُبقي ولا تذر، تُهلِك الحرث والنسل، وتهتك العِرْض، وتغتصب الأرض، وتستولي على الديار، وتتحكّم بعباد الله، بطغيانٍ لا مثيل له!..

إنها نتائج الغَفْلة والتفريط بأسس حماية الصفّ الإسلاميّ والجماعة المسلمة والأمّة المسلمة!..

أما تنفيذ الأوامر الإلهية بامتلاك أسس الحماية، الكفيلة بتحقيق الأمن للصفّ الإسلاميّ، فالله عزّ وجلّ يبارك ذلك، ويدعمه، ويمدّه بأسباب القوّة والحصانة:

(.. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)، فإن فعلتم: (.. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء: من الآية102)، وقد يكون العذاب لهم على أيديكم، بنصر الله لكم عليهم في الحياة الدنيا، والتمكين لكم في الأرض!...

التثبّت من صحة المعلومة .. مبدأ قرآنيّ أمنيّ أخلاقيّ :

ليس التعامل مع المعلومة أصماً، فالمعلومة في المفهوم الأمنيّ مادة خام، تحتاج إلى التحرّي والبرهان، فيُبنى على صحتها الموقف واتخاذ القرار المناسب .. وكم من معلومةٍ خاطئةٍ أوْدت بجماعاتٍ وأمم، وكم من موقفٍ مصيريٍّ تم تداركه بفضل معلومةٍ صحيحةٍ تم الحصول عليها في الوقت المناسب!.. وناقل المعلومة جزء مهم من اعتمادها أو تجاهلها .. من استثمارها أو نبذها وتجاهلها:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).

إنه التحرّي الصادق الأمين، للتثبّت من المعلومة، قبل بناء الموقف عليها واتخاذ القرار المناسب بشأنها، كي لا يقع الندم، والندم هنا هو نتيجة من نتائج ظلم الناس .. وإيقاعُ الظلم بالناس هو نتيجة لتصرّفٍ أرعن متسرّع، لا يدع المجال للتثبّت من المعلومة والتحقق من إيمان ناقلها وصدقه وتقواه وولائه .. فهل نتعلّم ونتّعظ ونفعل وننفّذ أمر الله عزّ وجلّ؟!..

الحذر من إذاعة الأخبار وترديد الإشاعات: مبدأ قرآني آخر:

لأنّ إشاعة الأمن في صفٍ متيقّظٍ حَذِر، ستنتهي به إلى التراخي والغفْلة عن العدوّ المتربّص .. وكذلك إشاعة الخوف في صفٍ آمن، يمكن أن تُحدث فيه إرباكاتٍ وردّات فعلٍ غير محسوبة .. فما الحلّ؟!..

الحلّ إلهيّ من عند الله جلّ شأنه، أنزله من فوق سبع سماواتٍ قرآناً طاهراً عظيماً صادقاً كريماً:

(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83). فالحلّ هو: ردّ الأمور إلى أولي الأمر القادرين على تحليلها واستنباط خفاياها ومراميها، ثم اتخاذ القرار المناسب بشأنها، وبذلك يبقى الصف الإسلاميّ آمناً مطمئناً، محمياً بعقول أبنائه وسواعدهم وإيمانهم!..

القرآن الكريم والمفهوم الحقيقيّ للأمن :

إنّ تحقيق الاستقرار والسكينة، والأمن من المكاره، والطمأنينة والحماية، هو المعنى الحقيقيّ للأمن في القرآن الكريم:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).

فالأمن هو ثمرة للإيمان الخالص النقي، إنه أمن النفس، وأمن المجتمع، وأمن الصفّ الإسلاميّ، وأمن الأمة المسلمة، النقيّ من الشوائب المختلفة، شوائب النفس أو شوائب بنيان هذا الصفّ، والأمن نعمة من الله لا يحظى بها إلا المؤمنون الصادقون، الذين يعبدون الله وحده، ويعملون للوصول إلى تحقيق العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى بين البشر .. كل البشر:

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش: 3 و4).

فيا ربّ كنْ معنا، وآمِن خَوْفَنا، وانصُرْنا على عدوّنا، وانصُر مَنْ نَصَرَنا، واخذُل مَنْ خَذَلَنا، واجعلنا من عبادِكَ المؤمنين الصادقين، العاملين بهدي كتابك الكريم وسنّة نبيّك ورسولك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

*    *    *

نستمر بتلاوة بعض نصوص القرآن الكريم (بعينٍ أمنية)، لتوضيح بعض الأسس والمفاهيم الأمنية الواردة في دستور الإسلام العظيم، وهو كلام الله عزّ وجلّ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونستعرض فيما يلي بعض القصص القرآني الذي يؤكد على أهمية العمل الأمني في حماية الدعوة الإسلامية وأبنائها المؤمنين المخلصين الصادقين، وحماية الأمة المسلمة من عدوّها المتربّص بها!..

أصحاب الكهف: عِظاتٌ أمنيةٌ .. وقصةٌ تتكرّر كل يوم :

الصراع بين الحق والباطل متعدّد الوجوه، فأهل الحق والدعوة الربانية مستهدفون على مدار الساعة، وأهل الباطل والطغيان في كل حينٍ يتربّصون بأبناء الدعوة الإسلامية، يرومون النيل منهم والقضاء على دعوتهم، بالقضاء عليهم.

مَنْ هم أولئك الفتية، الذين تميّزوا عن قومهم الذين لفّهم الضلال والظلم والظلام من كل جانب؟!..

(.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: من الآية 13).

إنهم حَمَلَةُ اللواء، لواء الإيمان، في وجه الظلم والطغيان اللذين يمارسهما أولئك الجبّارون الذين حكموا بغير ما أنزل الله، فَضَلّوا وأضلّوا، وتحكّموا بمصائر الناس الذين تحوّلوا إلى عبيدٍ لهم .. لكن أولئك الفتية الصادقين ثاروا على الظلم والقهر، واستطاعوا بحنكتهم وعقولهم النيّرة، أن يتدبّروا أمر حماية أنفسهم، لحماية دعوتهم وإيمانهم، فماذا فعلوا؟!..

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10) .. إنّه اللجوء إلى المكان (الآمن)، وقبل ذلك، الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، وتَسخير النفس في سبيل دعوته، فبعد اتخاذ كل أسباب (الحماية والأمن)، واستكمال شروط التوكّل على الله سبحانه وتعالى.. لجأوا إليه:

(ربّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رحمةً، وهيّء لنا مِنْ أمرِنا رَشَداً) .

فهم يعلمون -ببصيرة إيمانهم- أنّ الحماية والأمن لا يُطلَبان إلا من الذي يملكهما، فلجأوا إليه وحده، وطلبوهما منه وحده!..

بعد ذلك كله .. بماذا قابلهم ربهم العزيز القدير؟!..

(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ..) (الكهف: من الآية 14).. أي قوّيناهم بالصبر على هجر الأهل والأوطان، لأنهم فعلوا ما عليهم فعله، ضمن حدود القدرة البشرية، فأمددناهم بالقدرة الإلهية، حمايةً، ورعايةً، وأمناً، ورشداً، ونصرة!..

هذه الخطة (الأمنية) لم تأتِ من فراغ، إنما كانت ثمرة بحثٍ وحوارٍ بين الفتية، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله .. إلى أن توصّلوا إلى الحل الأمثل، والقرار الحكيم:

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16) .. ولأنهم كانوا مع الله، ويعيشون لدعوتهم، تيقّنوا أن الله عزّ وجلّ هو الذي سيحفظهم، ويُعمي عنهم أعين الجبارين وأنصارهم:

(.. ينْشُر لكُم ربُّكُم من رحمتِهِ، ويهيّء لكُم من أمرِكُم مِرْفَقاً).

فالله وحده (أولاً وآخراً) هو الذي يسهّل الأمور، وهو الذي ييسّرها، وهو الذي يحمي ويصون، فَبِقَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ يسير كل شيءٍ في هذا الكون!..

ونام الفتية في مأواهم الجديد (الكهف)، وشاء الله تبارك وتعالى أن يرقدوا مئات السنين:

(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11).

ثم أيقظهم الله جل وعلا.. وبعد أن أيقظهم، هل تغيّرت حالة (الحذر) في نفوسهم بعد مضي تلكم السنين الطويلة كلها؟!..

يخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه العظيم، أنّ هاجس (الأمن) و(حماية النفس والجماعة والدعوة) لم يتغيّر في نفوسهم، على الرغم من مرور تلك المدّة الطويلة!.. فقد مرت تسعٌ وثلاث مئةٍ من السنين، من غير أن يُكشَفوا أو يُكشَف مكانهم وأمرهم، وفي هذا دلالة عظيمة على حكمتهم وحسن تخطيطهم (الأمني)، في حماية أنفسهم، وحماية دعوتهم، طوال تلك السنون!..

(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ..) .. (.. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية 19).

إنّه (الحذر)، و(الحيطة)، واتخاذ أسباب (الحماية) بكل حزمٍ وصرامة، مع الاستمرار والعمل الدؤوب على تحقيق (أمن) الدعوة من كل مكروه، بذكاءٍ ودهاءٍ لا بد منهما لكل من يريد أن يسير في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى!.. وقد جاءت الكلمات الشريفة في غاية الدقة والدلالة المباشرة، على الحالة الأمنية التي لا تقبل التهاون أو الاسترخاء:

(.. وليتلطّف)!.. أي ليدقق النظر حتى لا يُعرَف لدى الآخرين وتُعرَف شخصيته! ثم: (.. ولا يُشعِرَنَّ بكُم أحداً)!.. أي لا يدع أحداً من الناس كائناً مَن كان، أن يعلم بمكانكم، فيكشفه، ثم يكشفكم، ومن بعد ذلك الخطر الأكيد!.. وما هو هذا الخطر الأكيد؟!..

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ..)!.. (الكهف: من الآية 20) .. نعم هذه هي حال الطواغيت الجبارين في كل زمانٍ ومكان .. فإن اطّلعوا عليكم، وعلموا بمكانكم وإيمانكم .. وبدعوتكم .. فلا سبيل عندهم، ولا وسيلة لديهم، إلا القتل: (يرجُموكُم)!.. أو .. أو ماذا؟!

(.. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)!.. (الكهف: من الآية 20) .. إنه الحل الآخر المرّ، وهو أن يجبروكم على العودة إلى دينهم وكفرهم، بعد تلك السنين كلها، من الصبر والجهاد والتضحية والمعاناة في سبيل الله عزّ وجلّ، وفي سبيل الدعوة التي آمنتم بها وأكرمكم الله بحمل لوائها، وبذلك كله ستخسرون الآخرة، بعد أن خسرتم الدنيا!.. فماذا أنتم فاعلون؟!..

لا خيار إذاً .. إما الاستمرار في طريق الدعوة حتى تحقيق الأهداف المرجوّة، مع اتخاذ كل الأسباب (الأمنية)، التي تحمي هذه الدعوة ورجالاتها ومجاهديها .. وإما العودة إلى حياة الكفر ودين الطواغيت الظالمين، ومنهج الأرباب المزيَّفين، وحياة الذلّ في الدنيا .. ثم إلى عذاب الله وسخطه وعقابه في الآخرة!..

فما أعظم العبرة، وما أبلغ الدرس!..

يوسف عليه الصلاة والسلام: دروسٌ أمنيةٌ بليغة!..

إنّ قصة يوسف عليه السلام، مثال واضح على حتمية الصراع بين الخير والشرّ، بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال .. وقد قدّر الله سبحانه وتعالى أن لا يُحسَم هذا الصراع لصالح أبناء الحق والخير والهدى .. إلا بأمرين اثنين معاً:

1- الإيمان الصادق القويّ بالله عزّ وجلّ، وبالدعوة التي يسيرون في ركابها.

2- اتخاذ كل الأسباب اللازمة الضرورية، لمواجهة العدو والطغيان والشرّ.

إنّ السير في خطة حمايةٍ متكاملة، هو أحد الأسباب المهمة التي ينبغي الأخذ بها في مراحل الصراع كلها، فمهما كان عدد المجاهدين في سبيل الله، ومهما كان عدد أفراد العدو، فإن (العمل الأمنيّ) لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله طالما أن الصراع موجود، وعلى أي وجهٍ من الوجوه كان!.. وهذا المفهوم الأمنيّ يتجلى واضحاً في قصة سيدنا يوسف عليه السلام!..

لقد رأى يوسف عليه السلام في المنام رؤياه المشهورة، التي أدخلت القلق إلى نفس يعقوب –والده– عليه السلام:

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف:4) .. ولأنّ يعقوب عليه السلام يعلم تفسير هذه الرؤيا، فتوقع على الفور نتائجها، فيما لو علم أبناؤه بها وبتأويلها، فهو أعلم بطبيعة أبنائه وسرائرهم، التي يتملّكها الحسد والغيرة وقسوة القلب التي تجعل من هؤلاء الأبناء أعداءً ألدّاء ظالمين .. فماذا كان موقف الوالد يعقوب عليه السلام؟!..

لقد (حذّر) ابنَه يوسف عليه السلام من أن يبوح بخبر الرؤيا لإخوته، أي وصّاه بحفظ السرّ، سرّ الرؤيا .. (والسرية)، بمعنى المحافظة على الأسرار التي ينبغي المحافظة عليها من الانكشاف للعدوّ أو الخصم، من أهم أساليب العمل الأمنيّ، ومن أهم وسائل تحقيق (الأمن والحماية) لأبناء الدعوة!..

(قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف:5) .. إنه الكيد .. سلاح الحاسدين الذين تعميهم نفوسهم الصغيرة عن اتباع الحق، والذين يتركون المجال واسعاً للشيطان -عدوّ الجميع- للتلاعب بهم، ولتأجيج نار العداوة والبغضاء بينهم .. ثم تأجيج نار الصراع!.. وبصيرة الوالد يعقوب عليه السلام تكشف الكيد، ويحاول تجنّبه وتجنيب ابنه يوسف عليه السلام شرّ الأشرار، وإنّ ما توقّعه -بنفاذ بصيرته، وبعلمه وحكمته وحنكته- لم يكن ضرباً في الفراغ .. فهاهم الأبناء الذين أعماهم الشرّ يأتمرون ويتآمرون:

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف:9)!..

ويأتي الأبناء ليطلبوا من أبيهم إرسال يوسف عليه السلام معهم، ويدخل الصراع مرحلةً جديدة، ويحاول الأب أن يحمي ابنه من الكيد والشرّ، لكن كيف؟!.. فهو والدهم كلهم، وهو لا يريد أن يبوحَ بحبه ليوسف عليه السلام، لأن ذلك سيؤجّج نار الحسد في صدور أبنائه الآخرين، وسيقدّم دليلاً جديداً ومبرراً آخر لهم، ليستمروا في خطّهم الأرعن بالكيد!..

لم يجد يعقوب عليه السلام إلا (التورية والتغطية) سبيلاً للتملّص من طلب أبنائه:

(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف:13) .. فقد خاف على ابنه الحبيب منهم، فكنّى عن ذلك بالذئب، كي يصرفَهم عن طلبهم الخطير، وهو عالم بنيّاتهم ومكرهم، ومتوقّع لشرّهم بحق  ولده الحبيب يوسف!.. وكل ذلك كان بهدف (الحماية) و(تحقيق الأمن) ليوسف عليه السلام!..

لكن، لأمرٍ يريده الله عزّ وجلّ، غُلِبَ الأب الحكيم على أمره، فكان لهم ما أرادوا .. إذ لأهل الباطل –أيضاً- أساليبهم (الأمنية)!..

وهاهم الأبناء بعد ارتكاب فعلتهم الشنيعة، بإلقاء يوسف عليه السلام في غيابة الجبّ، يتصنّعون الحزن والبكاء:

(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (يوسف:16) .. ويختلقون القصة المزعومة لضَياعه من بين أيديهم، ويبذلون جهدهم على أن تكونَ القصة محبوكةً بدهاء، ومُقنِعةً مَنطقية:

(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف:17) .. ثم ماذا؟.. (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِب)! (يوسف: من الآية 18) ..

وهكذا استخدموا كل وسيلةٍ ممكنة، بأسلوب (التغطية) و(التعمية) لتبرير فعلتهم، وتحقيق مأربهم!.. فالباطل إذاً، يملك من الأساليب الأمنية ما يستوجب مقابلتها بأساليب أشدّ دهاءً وذكاءً للتغلب عليه!..

ثم يـُمَكِّن الله عزّ وجلّ ليوسف عليه السلام في الأرض، بعد سلسلةٍ من المحن المتلاحقة:

(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:56) .. وينصره ربّ العزّة، فيحكم يوسف عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله .. ولكنّ قصته مع إخوته لم تنتهِ!..

(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف:58) .. هكذا إذاً .. فقد مكّنه الله، وجعله يعرف إخوته من غير أن يعرفوه .. فهل كشف سرّه لهم وعرّفهم على نفسه؟!..

لا !.. لم يفعل .. فالصراع معهم ما يزال قائماً .. ولا بدّ من الاستمرار في (الخطة الأمنية) التي تـُمَكّنه من معرفة عدوّه، من غير أن يعرفَه عدوُّهُ، وبذلك يستطيع أن يتعامل معه، ويدير دفّة الصراع بحكمةٍ وحنكةٍ، ليؤول الأمر إليه في النهاية!..

فهل نتعلّم نحن أبناء الحركة الإسلامية من قصص أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام؟!..

ها هوذا يوسف عليه السلام قد استلم زمام المبادرة، لأنه عرف عدوّه، ولم يمكّنه من التعرّف عليه، ومن يملك زمام المبادرة .. يملك الفرصة الأعظم لتحقيق النصر!..

لقد بدأ عليه السلام بتنفيذ خطته، وذلك باستدراج إخوته لإحضار أخيه (بنيامين) معهم إليه، ثم واصل خطته بدهاءٍ لإبقاء أخيه عنده:

(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (يوسف:62) .. ثم ماذا!..

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف:69).

نعم، لقد أسرّ عليه السلام إلى أخيه بهذا السرّ!.. فهو أخوه، وينبغي عليه أن لا يجزع فيتصرّف أي تصرفٍ يُفسد الخطة .. ولعلّنا نلاحظ أنّ السبب الذي دعاه إلى إخفاء سرّه عن إخوته، هو السبب نفسه الذي دعاه إلى البوح بهذا السرّ إلى أخيه (بنيامين): إنها الرغبة في الاستمرار بامتلاك زمام المبادرة بخطةٍ (أمنيةٍ) محكمةٍ .. وتقتضي الخطة أن يُتَّهم الأخ (بنيامين) بتهمة السرقة لكي يبقى مع أخيه، ويخطّط يوسف عليه السلام لتحقيق ذلك:

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف:70).

ثم يبدأ التنفيذ المحكم للخطة، فيبدأ التفتيش بأوعية الإخوة على الرغم من تيقّنه أنّ (السقاية) في وعاء أخيه الصغير، دَفعاً للتهمة وسَتراً لما دبّره من الحيلة لتحقيق هدفه: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف:76).

ولم يُستَفَزّ يوسف عليه السلام عندما سمع كلاماً من الإخوة يُسيء إلى سمعته وشرفه، لأنّ أمام عينيه هدفاً لا بدّ من بلوغه، ولم يحن الوقت للكشف عن نفسه وسرّه، وهو إن فعل، فسيُجهض خطته بيديه، ويحبط كل ما عمل وخطّط له:

(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (يوسف: من الآية 77).

لم يهزّه هذا الافتراء الظالم، ولم يخرجه عن طوره، ولم يفقده صوابه، فماذا فعل؟!..

(.. فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) (يوسف: من الآية 77).

لكن عندما حان الوقت لكشف السرّ وتحقيق الهدف، لم يتردّد يوسف عليه السلام -بعد استنفاد كل أركان خطته- في الكشف عن نفسه وكشف سرّه، وقد كان هذا الكشف جزءاً من الخطة، وحلقةً مكمِّلةً لها، لبلوغ الهدف:

(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف:89) .. عندئذٍ اكتشفوا السرّ:

(قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90).

وتحقّق الهدف بإذن الله وعونه وقدرته أولاً، وبالخطة (الأمنية) المحكمة التي وضعها يوسف عليه السلام، ثم نفّذها بإحكامٍ ودهاء!..

وكان من ثمرات ذلك الدهاء الأمنيّ .. أن جمع الله الشمل، واجتمعت الأسرة من جديد، وتاب الإخوة -الأعداء- إلى الله عزّ وجلّ:

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف:99)

فيا ربّ .. اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ..

اللهمّ آمين .. اللهم آمين..

*    *    *

نتابع استنباط "المفاهيم الأمنية" الواردة في بعض النصوص القرآنية الكريمة، لنؤكّدَ على أن "للعمل الأمني" أصلاً شرعياً قوياً ينبغي أن تأخذ الحركة الإسلامية به، وتعمل على تنفيذ روحه وتعاليمه، ثم تطوّر هذا الجانب المهم من جوانب العمل الإسلامي، فضلاً عن تربية أبناء الحركة الإسلامية، على المفاهيم الأساسية للعمل الأمنيّ الإسلاميّ، الذي أصبح ركناً أساسياً من أركان البناء الحركيّ التنظيميّ، لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في أي حالٍ من الأحوال.

إبراهيمُ عليه السلام : دهاءُ فردٍ مؤمنٍ يغلبُ أمّةً كافرة :

الغلبة ليست بالكثرة، والحق لا يُقاس بالعدد المجرّد، إنما يُقاس بقيمة من يرتقي إلى مستوى العقيدة والفكرة الربانية، وبدرجة رُقيّ الأساليب المتّبعة لنصرة الفكرة وتحقيق أهدافها السامية .. وهذا ما نلمسه جليّاً في قصة النبي إبراهيم عليه الصلاة السلام.

فقد أراد عليه السلام، أن يهديَ قومه، للتحوّل عن عبادة الأصنام، إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له، ولم يستطع إقناعهم بالحوار المنطقيّ، فوضع لنفسه خطةً قام بتنفيذها وحده، بأسلوبٍ أمنيٍ بارع، ليُقيم الحجّة على قومه :

(قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (الأنبياء:56). فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟..

لقد قرر أمراً في نفسه!.. وأراد أن يُكايد القومَ في أصنامهم، وكانوا يخرجون جميعاً في يوم عيدٍ بعيداً عن تلك الأصنام، ونوى إبراهيم عليه السلام التخلّف عن الخروج مع قومه إلى ذلك العيد، لأنه دبّر أمراً في نفسه!.. فتظاهر بالمرض :

(فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (الصافات:89 و90)، فتركوه وحيداً وذهبوا، وتلك كانت الخطوة الأولى في الخطة .. الخطة المضمرة التي أخفاها في نفسه : (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (الأنبياء:57)!..

نعم، لقد احتفظ بالسرّ في نفسه، ولم يبح به لأحدٍ من العالمين، ثم تحوّل إلى أصنامهم، وعمل فيها تحطيماً وتكسيراً.. إلا كبيرهم!.. الذي أبقاه سليماً لتكتمل أركان الخطة :

(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (الأنبياء:58) .. وهكذا، فقد اختار -عليه السلام- الوقتَ المناسب بدقّة، واتّخذ لنفسه الغطاء المناسب الذي يبرّر تخلّفه عن قومه، بتظاهره بالسقم، ثم نفّذ ما يريد بذكاءٍ ودهاء، وترك كبير الأصنام سليماً، وهذا ما أظهره القرآن الكريم بوضوحٍ، حيث بيّن السبب الحقيقي لتصرّفه ذلك :

(قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء:62 و63) .. فأسقِط في أيدي القوم أمام هذه الهزّة العنيفة، التي كانت ثمرةً لعملٍ نُفِّذَ بأسلوبٍ أمنيٍ كامل!.. وهيهات .. هيهات أن ينطق الحجر!..

ثم يتدخّل عليه السلام، لاستثمار تلك الصدمة التي واجه بها عقولَ القوم :

(قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء:66 و67).

بهذا، تعاضد الدهاء الأمنيّ مع حنكة التعامل مع العقل البشريّ، لتحقيق الهدف، وهو إقناع القوم بالحجّة والبرهان، بأن ما يعبدون من دون الله أضعف من أن يكونوا آلهةً لهم، وأنّ مَن خَلقهم وخَلق هذه الآلهة المزعومة.. هو الله عزّ وجلّ، فهو وحده الذي يستحق العبادة!.. فهي دعوة للإيمان بالله وحده لا شريك له!..

هل كان يمكن لإبراهيم عليه السلام أن يفعل ما فعل، من غير خطة حمايةٍ كاملةٍ لنفسه، وهو الرجل الوحيد الذي يواجه أمّةً كافرة؟!.. وعندما واجه قومه وكُشِف سرّه ماذا كانت النتيجة؟!..

(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء:68).

ولما همّوا بإحراقه، تدخّلت القدرة الإلهية لحمايته ونصره على الظالمين الجبارين الكافرين :

(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:69 و70).

لقد اتّخذ إبراهيم -عليه السلام- كلَّ الأسباب لنصر دينه ودعوته، وعندما خرج الأمر عن حدود قدرته البشرية المحدودة، تدخّلت القدرة الإلهية العظيمة، والهدف واحد في الحالتين : الحماية، وتحقيق الأمن الكامل، ثم النصر، للدعوة وأبنائها!.. فلنتأمّل!..

*    *    *

موسى عليه السّلام : حربٌ أمنيةٌ ضاريةٌ مع الطّغاة :

الحرب بين الحق والباطل ضارية في طبيعتها، لأنّ الباطل يتوهم دائماً -بما يملكه من قوةٍ ظاهريةٍ- أن انتصاره من الأمور البدهية التي يُصوّرها له الشيطان!.. والصراع بين أنصار الحق وأنصار الباطل هو صراع أمني في كثيرٍ من وجوهه الهامة، فإذا كان أبناء الحق وأنصاره يريدون نصر دينهم، وامتلاك أسباب هذا النصر، فعليهم أن يستوعبوا كل أسلوبٍ أمنيٍ حقيقيّ، ويُطوّروا خبراتهم ووسائلهم، ليضمنوا تمكّنهم من استيعاب الوجوه الأمنية للصراع، وهو من الأمور التي لا بدّ منها، إن أرادوا حسم الصراع لصالح الحق والدعوة الإسلامية.. وقصة موسى عليه السلام، تُعتبر مثالاً واضحاً على ما نقول!..

كان هناك باطل وظلم يتمثّل في الطاغية فرعون:

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4).

وبالمقابل، هناك حق وعدل وحكم بمنهج الله عز وجل، يتمثّل في رسالة النبي موسى عليه السلام:

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص:43).

لقد بدأ الصراع بوجهٍ أمنيٍ واضح، إذ أراد الله سبحانه وتعالى أن يُعَلّمنا منه دروساً أمنيةً بالغة الدقّة والدلالة:

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7).. فالله عزّ وجلّ أراد أن يكون موسى عليه السلام حاملَ لواء الحق، وزعيمَ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فَحَمَاه منذ الولادة بأسلوبٍ أمنيّ، نفّذته أم موسى، بعد أن ألهمها الله أن تفعلَ ما تفعل، لحماية وليدها الحاليّ، وزعيم الدعوة الربانية في المستقبل!.. وكانت كيفية الحماية لا تخلو من الدقّة والمخاطرة في الوقت نفسه:

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طـه:39)..

والله جلّ وعلا الذي ألهم أمَّ موسى تنفيذ الشق الأول من خطة الحماية.. سخّر امرأة فرعون لتنفيذ الشق الآخر من هذه الخطة:

(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (القصص:9).

وكان من تدبير الله عزّ وجلّ، وعظيم حكمته، أن يُرَبّى موسى عليه السلام في حِجْر فرعون، ثم أن يكون هلاكه وزوال طغيانه، على يديه عليه الصلاة والسلام!.. ولعلّنا نلمس كم يحتاج تنفيذ هذه الخطة الأمنية الدقيقة إلى الصبر والحنكة والحكمة والسرّية والحسّ الأمني المرهف .. أليست هي الخطة التي بموجبها تنبت بذرة الحق في أرض الباطل وتربته؟!..

وتستمر الخطة الأمنية الرائعة، فترسل أم موسى ابنتها لتكون عَيناً ترصد تصرفّات فرعون وأسرته، وتَتّبِع أثر أخيها موسى، وتتقصّى أخباره:

(وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ..) أي تَقَصّي أخباره، (القصص: من الآية 11).. فماذا فعلت أخت موسى عليه الصلاة والسلام؟!.. هل تصرّفت بما يلفت الانتباه إليها وإلى خطّتها ومبتغاها؟!..

(.. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (القصص: من الآية 11)..

نعم، فقد احتالت على الظرف المحيط، فاستطاعت رؤية أخيها، بمخاتلةٍ ذكية، من غير أن يشعرَ بها أحد من الأعداء، أو أن يشعر أحد من الظالمين أنها أخت موسى، وأنها تقوم بالاستطلاع ورصد أخباره بكل دقة!..

وعندما منع الله موسى أن يرضع من المرضعات:

(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِع ..) (القصص: من الآية 12) .. عندئذٍ تدخلت الأخت في الظرف المناسب والوقت المناسب:

(.. فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)؟!.. (القصص: من الآية 12)..

يقول ابن عباس: (لما قالت أخته: وهم له ناصحون، أي: مشفِقون، شكّوا في أمرها وقالوا: وما يدريكِ بنصحهم وشفقتهم عليه؟!.. فقالت: لرغبتهم في سرور الملك!.. فأطلقوها)!..

وهكذا، فابن الدعوة الإسلامية حصيف ذكيّ، يعرف كيف يتصرّف في المواقف كلها، ويعرف كيف يخرج من المآزق بكل دهاءٍ وحنكةٍ .. كما فعلت أخت موسى عليه السلام!..

وكان تأييد الله عز وجل حاضراً بأبهى صوره وأبلغ آثاره:

(فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص:13) .. فلما قَبِلَ موسى ثديها، أحسنت إليها امرأة فرعون وأَجْرَتْ عليها النفقة والكساوي -كما قال ابن عباس- .. فكانت تُرضع ولدها، وتأخذ عليه الأجر من عدوّه!..

إنه تدبير الحكيم العليم الذي ينصر عباده الصالحين، ويؤيّد المجاهدين العاملين في سبيله إلى يوم الدين، بعد اتخاذهم أسباب القوّة والمنعة، المعنوية والمادية!..

ويستمر السير في طريق الدعوة، ويستمر -نتيجة ذلك- تأييد الله عزّ وجلّ للمؤمنين الصادقين، فيكبر موسى عليه السلام، ويترعرع، ويشتدّ عوده، ويقوى .. أين كان كل ذلك؟!.. في ظل عدوّه الطاغية:

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص:14).

ولما عرف موسى الحقَّ في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون من عبادة غير الله عزّ وجلّ، ففشى أمره بين القوم، فأخافوه، فخاف منهم .. وهذا ما أدى إلى اتّباعه أسلوباً أمنياً صرفاً في التعامل مع الباطل وأهله ليحمي نفسه ويحمي دعوته:

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ..) (القصص: من الآية 15) .. أي أنه -عليه السلام- كان يدخل مدينة مصر الكبرى مستخفياً: (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ) -كما قال المفسّرون- .. فانظر إلى هذا التعبير القرآني العميق!.. وانظر إلى ذلك الأسلوب الأمنيّ الدقيق، الذي اتّبعه نبيّ الله موسى عليه صلوات الله وسلامه! ..

ثم يُمتَحن -عليه السلام- امتحاناً آخر، فيقتل رجلاً من قوم فرعون بلا قصدٍ، وتشتدّ المحنة .. ويلجأ موسى إلى ربه:

(قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص:16) .. ثم يتّخذ ما يجب عليه من أسباب الحماية والحذر، ويخبره أحد المتعاونين معه من المخلصين له، بسرٍّ خطير، هو تآمر القوم لقتله:

(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص:20) .. وما كان منه عليه السلام، إلا أن امتثل لما يقتضيه الظرف من حوله، بهدف حماية نفسه، وحماية دعوته إلى الله عزّ وجلّ :

(فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص:21).

لعلّنا نلاحظ روعة التعبير القرآنيّ، عن حالة الهارب المهاجر في سبيل الله، الذي يَحْذَرُ العدوَّ ويتيقّظ له: (.. خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ..)، ومن ثم الاتكال على الله سبحانه وتعالى، فهو وحده الحامي، والملاذ الآمن: (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ..)!..

وتستمر الدعوة إلى الله عز وجل، بحمايته سبحانه وتأييده، ويعود موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه بعد سنين طويلة، يحمل الدعوة في قلبه، ويبشّر بها بلسانه، ويفديها بروحه، ويرفع لواءها بشجاعةٍ لا مثيل لها .. ويعود الصراع مع الباطل إلى ذروته، وينوي الطاغية فرعون قتل موسى عليه السلام، وهو شأن كل الطواغيت الذين يُفلِسون من كل حجّةٍ وبرهان، ولا يجدون إلا البطش وسيلةً لإسكات صوت الحق:

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26).

ويُظهِر لنا القرآنُ الكريمُ الوجهَ الأمنيَّ للصراع بكل وضوح:

(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ..) (غافر: من الآية 28) .. ثم يقول الرجل المؤمن عن موسى عليه السلام:

(.. وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية 28) .. ولعلّنا نلاحظ التعبير القرآني الدقيق في الدلالة على الحالة الأمنية للصراع : (.. يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ..)، فالرجل المؤمن بالله عزّ وجلّ، وبدعوة نبيّه موسى عليه السلام .. في الحقيقة، هو من مؤيدي فرعون في الظاهر وحسب: (.. وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ..)!.. هذا الرجل الذي يخفي إيمانه، يخترق القوم ويعلم بكل ما يدور بينهم، ثم يعمل على تخذيلهم عن موسى عليه السلام، وعن أنصار الحق، وبأسلوبٍ أمنيٍ بارعٍ لا يتقنه إلا أصحاب القضية المنافحون عنها، الذين يبذلون ما يستطيعون من طاقاتهم في سبيل حماية دعوتهم، هذه الحماية التي تكفل الاستمرار في السير على الطريق الشاقة، لبلوغ الهدف الكبير!..

فالسرّية، والكتمان، والاختراق، والرصد، والتنسيق مع القيادة وأولي الأمر لحماية الدعوة وتأمين سيرها الحثيث نحو أهدافها،.. كل ذلك من أهم الأساليب الأمنية التي ينبغي أن يتسلّح بها أبناء الحركة الإسلامية، فهل نعقل؟!.. وهل نفعل؟!..

وبفضل هذا الإتقان في استيعاب استحقاقات الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعمل بموجبها بأقصى طاقةٍ ممكنة .. ينصر الله عزّ وجلّ المؤمنين به، العاملين في سبيله .. وهكذا نصر الله سبحانه جّلّ وعلا موسى عليه السلام على الطغيان والظلم والجبروت:

(فَأَخَذْنَاهُ [ أي فرعون] وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص:40) .. وانتهت بذلك قصة صراعٍ مريرٍ، طاحنةٍ ضاريةٍ .. بين الحق والباطل، كان ركنه الأساس صراعاً أمنياً .. فلنتأمّل!..

*    *    *

نتابع استنباط "المفاهيم الأمنية" الواردة في بعض النصوص القرآنية الكريمة، لنؤكّد على أن "للعمل الأمنيّ" أصلاً شرعياً قوياً ينبغي أن تأخذَ الحركةُ الإسلاميةُ به، وتعملَ على تنفيذ روحه وتعاليمه، ثم تطوّر هذا الجانب المهم من جوانب العمل الإسلاميّ، فضلاً عن تربية أبناء الحركة الإسلامية، على المفاهيم الأساسية للعمل الأمنيّ الإسلاميّ، الذي أصبح ركناً أساساً من أركان البناء الحركيّ التنظيميّ لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في أي حالٍ من الأحوال.

سُليمانُ عليه السلام : عِبَرٌ ودروسٌ أمنيةٌ لا تُنسَى :

كما في القصص السابقة، فإن قصة سيدنا سليمان -عليه السلام- تزخر بالمعاني والعبر الأمنية، التي تُعلّمنا وتُعلّم الأجيال إلى يوم الدين، أنّ العمل الأمنيّ الإسلاميّ، من الأعمال المهمة التي ينبغي للمسلم أن يتقنها ويطوّر أساليبها لكي يستطيع التعامل مع كل الظروف التي تحيط به أو تطرأ عليه .

وسليمان عليه السلام، هو النبيّ الذي سخّر اللهُ له الجنَّ والإنسَ والحيوانَ، لعمارة الأرض وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى فيها .. فلا عجب إذا عرفنا أنه -عليه السلام- كان يتعامل مع الطير والنملة، وغير ذلك من مخلوقات الله الـمُسَخَّرة له بقدرته عزّ وجلّ .

الهدهدُ جنديٌّ مخلصٌ ، وعينٌ أمنيةٌ لا تخطئ

فقد بادر (الهدهد) إلى الاستطلاع، وجمَْع المعلومات، وعندما لاحظ أهميتها وخطورتها، سارع لإخبار قيادته (سليمان عليه السلام) الذي يمثّل أولي الأمر الذين يعملون في سبيل الله:

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل:22)

والنبأ، هو الخبر الذي يتضمن أمراً هاماً أو خطيراً، ولا بدّ للبناء عليه أن يكون صحيحاً حقيقياً مُثبَتاً قاطعاً : (بنبأٍ يقين)، لأنّ المسلم لا يبني أموره إلا على اليقين من الأنباء، ولا يتصرف تصرفاً أو يتّخذ موقفاً، إلا بموجب معلوماتٍ صحيحةٍ يقينية .. وهو مبدأ أمنيّ أخلاقيّ عظيم!..

فما هو هذا الخبر الخطير الذي حمله الهدهد -العين الساهرة على أمن الدعوة- ؟!:

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل:23) فهناك في بلاد اليمن مملكة تحكمها امرأة، هي (بلقيس)، وهم قوم يعبدون غير الله عزّ وجلّ!.. وهو أمر خطير وهام لا يمكن تأخير اتّخاذ الموقف بشأنه.. إنهم يعبدون الشمس!..

كيف تعامل سليمان -عليه السلام- مع هذا النبأ؟..

لم يهمله، ولم يتّخذ أيَّ موقفٍ حتى تيقّن من صحّته وثبوته:

(قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27).

وبعد أن تحقق عليه السلام من صحّة النبأ، اتخذ الموقفَ المناسب، الذي يتضمن تحقيق العبودية لله عزّ وجلّ في كل ركنٍ معروفٍ من الأرض آنذاك!..

ثم تؤمن الملكة (بلقيس) بالله سبحانه وتعالى، ويؤمن قومها، ويتحقق الهدف .. وكل ذلك بفضل الاستثمار الأمثل، لنبأٍ حمله جنديٌّ مخلصٌ نابِهٌ، هو الهدهد!.. فهل يكون كل داعيةٍ، كالهدهد الحصيف النابه؟!..

نملةٌ حصيفةٌ تُنقذُ أمّةَ النمل!..

كان سليمان -عليه السلام- قد جمع جنده من الإنس والجنّ والطير، وسار بهذا الجيش العظيم، ولما اقترب من الوادي -وادي النمل- .. شعرت بهم نملة، وعندما تيقّنت أنّ وجهتهم نحو الوادي الذي تسكن فيه أمّة النمل، سارعت إلى قومها محذّرةً منبّهةً:

(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18).

فالخطر قادم!.. وهو يقترب، ونتيجته تحطيم أعضائكم بالأرجل وحوافر الدوابّ، ولو من غير قصدٍ منهم، ولا بدّ من الحماية، وقبل ذلك، لا بدّ من التحذير والتنبيه إلى الخطر القادم .. وهكذا كان، حيث لجأت أمّة النمل إلى مساكنها الآمنة امتثالاً لتنبيهات (نملة الاستطلاع) التي نقلت الخبر، في الوقت المناسب، من غير تأخيرٍ ولا تسويف!.. فهل نتعلّم؟!..

يا ربّ آتنا من لدنك رحمةً

وهيّء لنا من أمرنا رشداً

وارزقنا الحكمة وحسن التدبير

ونوّر عقولنا وقلوبنا بنور الحق

واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه

اللهم آمين .. اللهم آمين