خيارات إدارة المرحلة ووضع الأولويات
«المستقبل» والإسلاميون: تحدي الحفاظ على الوجود والمكانة والدور
جريدة اللواء (اللبنانية)
في ظل الأعباء الثقيلة التي تركها تسريب أفلام التعذيب في سجن رومية ينكشف مشهد سياسي وإنساني واجتماعي يفرض على "تيار المستقبل" إعادة النظر في مقاربته للواقع السياسي والأمني، لتدارك وصول الانهيار إلى المستوى الشعبي، بعد أن ضرب الاهتراء الحياة السياسية والمؤسسات الدستورية.
وأول المقاربات التي تحتاج إلى معالجة، هي العلاقة بالحالة الإسلامية، الحركية والمؤسساتية والشعبية، في وقت يحتدم فيه الصراع في المنطقة، ويتغوّل المشروع الإيراني، مما يوجب ترتيب البيت الداخلي.
فقد تراجعت حـدة الصراع والتوتر الذي ساد بعد تصنيف المملكة العربية السعودية لجماعة "الإخوان المسلمين" تنظيماً ارهابياً، وتتبع المملكة بتوجهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بين عبد العزيز خطوات هادئة وحكيمة وتراكمية لصياغة علاقة واقعية مع الجماعة، تحفظ مصالح الأمة على امتداد العالم العربي والإسلامي.
وهذا الجو يلائم استعادة التضامن في البيت السني اللبناني، ويجعل توزيع الأدوار والمهام، أمراً واجباً، بعيداً عن التنافس السياسي الذي ليس له مكان في هذه المرحلة الصعبة والمصيرية.
قضايا لا يمكن إغفالها
وفي هذا الإطار، يمكن وضع مجموعة من القضايا التي تستوجب من الأطراف الإسلامية الوقوف عنها، وأبرزها:
* ان الحقيقة الكبرى هي أن النظام اللبناني متواطئ في استمرار اعتماد سياسة التعذيب في السجون اللبنانية، ولا يزال قانون منع التعذيب، موقوفاً حتى الساعة، ومدفوناً في أدراج مجلس النواب، لوجود "فيتو" عليه من قبل "حزب الله" والمؤسسة العسكرية وبعض القوى الأخرى.
والتعذيب آفة تشمل كل السجون اللبنانية، والأخطر فيها تلك التي لا تشملها إمكانية الرقابة، وخاصة سجون وزارة الدفاع والريحانية وفروع المخابرات، حيث تتصاعد الشكاوى دون جدوى.
الأسوأ من كل هذا أن السلطة السياسية عاجزة عن تطبيق قراراتها الأمنية، وأبرزها تعطيل وثائق الاتصال التي اخترعها نظام آل الأسد خلال احتلاله لبنان، ولا تزال مخابرات الجيش تستعملها دون الرجوع إلى القضاء في التوقيفات.
الحقائق.. وساعة الحقيقة
لم يعد باستطاعة "تيار المستقبل" تجاهل الحقائق الآتية:
• ان الاستمرار بالخطط الأمنية في لبنان، بما فيها من انحراف وخلل في التوازن، لم يعد ممكناً ولا مقبولاً، والتغاضي عن هذه الحقيقة، يعمّق الهوة مع الشارع السني، ويسهم في تسخير الأجهزة الأمنية بخدمة سياسات "حزب الله" على حساب أهل السنة وعلى حساب الوطن.
والمطلوب هنا ليس العودة إلى الفلتان الأمني المشؤوم، بل تطبيق قرار مجلس الوزراء بوقف العمل بوثائق الاتصال، وإخضاع مخابرات الجيش لقواعد القانون، وعدم السماح بتكديس الشباب المسلم في السجون، بناء على حاجات "حزب الله" الأمنية والسياسية، كما حصل في حالة الحاج حسام الصباغ (اعتقال)، والعميد (المتقاعد) عميد حمود (نفي وإبعاد)، بعد فضيحة إعلان نائب أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم أنه طلب من "تيار المستقبل" إقصاء حمود، الذي شكل خلال الفترة الماضية مع الصباغ صمام أمان في طرابلس، وحالة مقاومة صلبة لاختراقات الحزب في طرابلس والشمال.
لم يعد باستطاعة "تيار المستقبل" السماح باستهداف امتداداته الشعبية، ولا التساهل في هضم حقوق أهل السنة، تحت شعار أولوية السلم الأهلي، لأن هذه السياسة أثبتت فشلها، وبات "حزب الله" بعد كل تنازل يقول: هل من مزيد؟!
• كشفت التجربة الماضية أن فكرة الترقيع وتمرير بعض الملفات الجزئية وبذل الجهود لحل الأزمات، على قاعدة العمل وفق قواعد القانون، في وقت يضرب الطرف الآخر القانون والدولة عرض الحائط ، هي فكرة غير عملية، وهي معرضة للانهيار عند أول مطب سياسي أو أمني أو قضائي.
فرغم جهود الوزير المشنوق في حلحلة الملفات القضائية الملتبسة، كما حصل في ملف الحاج حسام الصباغ والمجموعة التي حوكمت معه، إلا أن حجم تراكم الملفات والاستنسابية وتباطؤ الاستجابة، تجعل من الضروري القيام بمراجعة هذا التوجه، بإيجابياته وثغراته، وصولاً إلى وضع تصور جديد ذي جدوى.
• كيف يمكن إقناع الشباب المسلم أن هناك جدوى من هذه المحاولات، وهو يرى السكوت على اعتقال أقرانه في حال مناصرتهم للثورة السورية من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية، وانخراط بعض أجهزة الدولة في دعم عدوان "حزب الله" على الشعب السوري؟
وكيف يمكن حلّ هذه الإشكالية، وهل يمكن فتح باب العودة لمن يرغب من هؤلاء الشباب في العودة وممارسة حياته العادية؟!
• ان أوضاع عائلات الموقوفين والسجناء الإسلاميين عانت وتعاني دماراً شاملاً لحياتها الاقتصادية والاجتماعية، وبات معظمها مشرداً يعاني شظف العيش، نتيجة العدالة "السلحفاتية" وبسبب خضوع كثيرين منهم للاستنساب الأمني، ويجب التحرك لحل هذه الأزمة الإنسانية الخانقة دون تلكؤ أو تردد.
واجب الإسلاميين
في المقابل، لا يمكن للإسلاميين، بأطيافهم المتعددة، أن ينظروا إلى الواقع من باب ردة الفعل، والاكتفاء بالتحركات الانفعالية، والواجب يفرض عليهم أن يتمتعوا بالجرأة على نقد التجارب واستخلاص العبر، ووضع التصورات والخطط الكفيلة بدخولهم إطار التأثير السياسي والاجتماعي (التنموي)، والإعلامي.
والأهم في هذا كله أن يمتلك الإسلاميون القدرة على إدارة حوار منتج مع "تيار المستقبل" والتوصل إلى مقاربة واقعية تحمي الجميع، لأن الفرز الحاصل سيؤدي إلى مزيد من التشرذم. فاتهام "تيار المستقبل" بالعلمانية والردة، لن يقف عند هذا الحد، بل إن العدوى ستنتقل إلى التقاذف بين كل مجموعة وفئة إلى ما لا نهاية.
ليس المطلوب الذوبان والتخلي عن الثوابت والأفكار، ولكن المطلوب القدرة على وضع الأولويات في ظل تعرض الجميع لتحدي الحفاظ على الوجود والمكانة والدور، فالاستهداف يطال الجميع، ونحن نـُقضم بالدور، ولا نتعلم من التجارب.
(*) رئيس هيئة السكينة الإسلامية.