كم يذكّرني يوم تحرير سجن تدمر

بيوم دخوله والخروج منه  والمكتوب على بابه الداخل مفقود والخارج مولود :

بعد محكمة عسكرية صورية أركانها المقدم سليمان خطيب وكاتب المحكمة  وضابط من فرع الأمن واسمه عبدالعزيز تلجة تم الترحيل دون اعلام مسبق فانطلقت السيارة من سجن كفر سوسة الفرع 285 صباح 30-8-1980 وسط وجوم من الجميع وكنا قرابة الثلاثين من مختلف المحافظات ووصلنا قرابة الحادية عشرة الى سجن تدمر وكان حرس التشريفات بانتظار وفدنا القادم ولم ندري كيف نزلنا من السيارة بين قذف وركل ولسع بالكبلات والكرابيج، وقفنا أمام الذاتية لتسجيل أسمائنا بكل حفاوة وركل  ثم اقتادونا ونحن مُغمِضوا الأعين حتى وصلنا قاعة حفل الاستقبال الرسمي حيث العشرات من الشرطة العسكرية مدججين بأنواع الدواليب والعصي وما لم نراه ونتوقعه فكان أول الأوامر الخلع الكامل للثياب والجلوس جاثياً وحركتي أمان ثم الى الدولاب حيث الصيحات من كل حدب وصوب بين صراخ المعَذبين والمُعذِبين ويستمر الضرب والتعذيب لدرجة الاغماء ويأتي دور الماء ليصحو من الضرب والارغام على المسير على الماء ليعود لجولة ثانية إلا أن الحاج محمود ابن الستين عاماً لم يصحُ رغم الماء والضرب والركل ولم يصرفهم عن الشهيد الا علمهم أن بيننا ضابطاً ومجندين وجاءت التوصيات بهم بشكل خاص من رئيس السجن فكلنا الدماء تسيل من أرجلنا واجسادنا واستمرت الحفلة بمرها وحامضها الساعات التي لم نقدر على احصائها وجاءت الأوامر أن نحمل لباسنا وأمتعتنا بعدما تفتيشها وسرقة ما يريدون منها  واقتادونا الى مهجع لم نعرف رقمه الا بعد حين ونحن تحت الضرب والركل وبين زاحف ومتعثر وفتح الباب ودخلنا الى ارض جرداء لاتحوي شيئاً فاستلقينا على الأرض بلا حراك وكأن السكينة أخذتنا بغفوة لم نشعر إلا والكرابيج بيد الشرطة العسكرية فوقنا تنهال علينا تعذيباً وهم يصرخون أدخلوا البطانيات يا أولاد .... أنتم تحاربون الدولة بدل ما تعبدوا القائد وتؤيدوه ودخلت البطانيات وتوزعت علينا وما هي الا لحظات وفتح الشرطة الباب وأصوات تعلوا بالشتم والنباح أدخلوا الخبز وكان خبزاً عسكريا كالصمون ولكنه كالحجر ثم ذهب الجلادون وقمنا الى غرفة تحوي دورتي مياه بلا ستارة ولا أدوات وانطلقنا بآلامنا لتنظيف المهجع فجاءني أحد الأخوة بفارغتي طلق ناري عيار7.62 لرشاش روسي وخلفية  هوية  إصدار ادلب وراعنا أن وجدنا على الحيطان آثار طلقات نارية فأيقنا أن المهجع الذي نحن فيه قد تنفذت فيه مجزرة تدمر التي جرت في 27-6-1980 .

تتابعت أيامنا وأشهرنا وسنواتنا في هذا السجن الرهيب بعذاباته واعداماته ومآسيه اللحظية واليومية والمتنوعة من آن لآخر فمن اعدامات وترحيل وذبح في الساحات وتنقلات مستمرة وتنوع ألوان التعذيب النفسي والجسدي مع شعور كامل من الجميع بأن موعدنا مع الموت القادم إن لم يكن اليوم فهو غداً ولم يكن مسكناً وتسليماً إلا حفظ القرآن والأحاديث النبوية وصلاة وأذكار بالعيون والصوت المخفي .

وبعد سبع سنوات بدأنا نسمع قوائم تذاع ويجمع أصحابها ويساقون خارج السجن وكان في عام 1987 إلى أن جاءت قائمة أسماء ضمت اسمي وكنت يومها وبعد صلاة الفجر أناجي الله أن يكشف الغمة ويخرجني من السجن فلم يعد لي طاقة لتحمله فكم كانت لحظة سماعي لاسمي مبشرة وبنفس القدر كان حزني عميقاً على أخوة لم تذع أسماؤهم وسيبقون في هذا الجحيم وانتقلنا لمهجع آخر ضم أسماء القائمة وظننا أن المعاملة ستتغير وكانت المفاجأة أكبر وأن الشرطة العسكرية يهددون بأقوال شتى : هل تظنون أنكم ناجون منا سنقتلكم ولن تنجو من أيدينا يا أولاد ....

وجاء اليوم فاصطففنا خارج المهجع رتلاً إلى الباحة السادسة بالقرب من باب الخروج من السجن وهو نفس الباب الذي تخرج منه جثث الشهداء محمولة بسيارة الجثث واستنفرت السرية وكبلوا أيدينا بسلاسل وأرجلنا وانهالوا علينا ضرباً وشتماً بالعصي والأرجل وما أن حانت ساعة الرحيل حتى فتح الحرس الباب وأصعدونا في سيارتين عسكريتين ومرافقة أمنية وعسكرية وما أن انطلقت السيارات حتى توقفت على الباب الذي دخلنا منه واسترقت النظر فرأيت ما كان مكتوباً عليه (الداخل مفقود والخارج مولود) فانهالت الدموع من عيني ولست مصدقاً أننا خارجون من سعير سجن تدمر وبين حمد وشكر وتسبيح تتوارد الأفكار الى أين نحن ذاهبون هل الى جحيم أسوأ مما كنا فيه أم اخلاء سبيل أم ...... وإذ بنا الى سجن جديد هو صيدنايا لنبقى به بقية ايامنا السنوات الطوال .

اليوم وخرج السجن من سيطرة فرعون بلاد الشام فترددت على لساني : هل حقاً كان العالم يشعر بما جرى لنا وهل حاولوا أن يمنعوا الطاغية عن ظلمه ولكني  قلت لو أنهم استنكروا أفعال الأب ومنعوه لما وصل ارهاب الابن الى مليون شهيد في هذه الثورة المجيدة .

صور تدمرية لا يمكن أن ننساها :

حفلة الاستقبال :

عند وصول ركب السجناء الى باب سجن تدمر يكون حرس الشرف من الشرطة العسكرية ينتظرون أوراق التسليم بأسماء السجناء حتى يتسابق الجلادون الى فتح أبواب الناقلات وقذف السجناء منها كأنها بالات حتى يتلقاها الباقون بأرجلهم كأنها كرات يقذفونها لبعض حتى تصل الى الديوان لتسجيل الأسماء ومن ثم الى باحة التشريفات المكتظة بالجلادين وتبدأ الحفلة باستعراض الشتائم واللعن والكفر بالله ليأت الأمر بخلع كامل الثياب وتفتيشها دون التوقف عن الضرب والجلد ومن ثم الى الدولاب حيث يحشر السجين رأسه ورجليه داخل دولاب السيارة ويلقونه على ظهره فتكون قدماه للأعلى ويبدأ الضرب بلا شفقة  بمختلف الوسائل من كرابيج وعصي وكبلا مجدولا من النحاس حيث يفتح بالجسد العري خندق دماء تسيل وتستمر الحفلة الساعات فمن تكسر أعضاؤه ومن يموت ومن يغيب عن الوعي والويل كل الويل إن كان بالدفعة عسكريا أو ضابطا أو طبيباً موصى به من الدورية التي أتت به .

الحلاقة : تبدأ الحلاقة بالمهاجع بالدور والصياح والتعذيب والحركة حتى يقفل المهجع السابق المهجع مئتان : ينادي عشرة لبرا

حاضر سيدي وتخرج الدفعة الأولى كبار السن لأنهم سرعان ما يخرجون حتى ينتهوا ويأخذوا نصيبهم من التعذيب . الحلاقون من أصحاب السوء من المحكومين القضائيين ثلة من قذارات المجتمع وبيننا صغار السن لم تنبت شعور لحاهم بعد. خرجت دفعة وبينهم أحد الأخوة الصغار ووقفوا صفاً على الحائط مغمضي الأعين وبدأ الحلاق برغيي الصابون على وجه الشاب ولكن سوء الحلاق سولت له نفسه الى أن يمد يده الى عضو الشاب يلعب به مستغلا الخوف الحاصل عنده فبدأ الشاب يتحرك ليمنع القذر عن مراده وإذ بآمر الدورية ينتبه الى ما يحصل فصرخ بالحلاق قائلاً : ولك يا ابن  الق.... هلق ما تستقوي عليه هون يا ... شايف هاد الوظوظ (وهو اسم للسجناء الأحداث الصغار عندهم) لحاله بيقاوم كتيبة لما كان بره. .

الحمام :

الشتاء والبرد القارس والجو الصحراوي والناس تلبس ما تملك من الثياب يخفي بعض الحمايات على الظهر لتخفف من شدة الجلد وتضيع في الجلبة وأصوات التعذيب الآتية من الباحات حقيقة ما يجرى ويأت النداء : الكل بالشورت يا ..... وترى الطريقة الفنية التي تعود عليها السجناء بخلع القسم العلوي دفعة واحدة والسفلي بدفعة ثانية ويخرج المهجع إلا المرضى والجلادون محيطون بالركب دون أن ينسوا من بقي بالمهجع لمرضه قيبقى فريق منهم ليسوموهم أشد العذاب ،

العرق يتصبب منّا والجلد سائر معنا ونتجاوز بابا تلو باب للباحات حتى نصل الباحة الثانية وهي باحة الحمام .الاصطفاف خمسة خمسة

الكل يخلع الشورت فمن يتلكؤ تنهشه الكلاب المذعورة

ويدخل فوج الحمام توزعوا على المقصورات ويصعد على فاصل بين مقصورتين شرطيا بكبله أو سوطته أو غصن شجرة بأشواكه والسباب والشتم والتعذيب لا يتوقف أما من بقي فه بسرعة ( ولك يا أوغاد للدفعة الثانية فالويل لما يحصل :

- لماذا شعر صدرك كثثر انتفه الآن بسرعة

- وهنت لماذا شعر إبطك طويل انتو شو مقكرين حالكون بدكم دلال أههههه

- وهنت مساوي غابة تحرس لك ...(عضوك ) الكل نتف ولك  يا....

وهنا تتعارك الأفكار هل من يغتسل بدمه والماء ينسكب عليه أفضل أم من ينتظر الدخول للحمام ؟ ويصيح الزبانية : الكل لبره   لتبادل المواقع

وما أن ينتهي الفوج الثاني من الحمام حتى تبدأ رحلة العودة الى المهجع بنفس الحفاوة والتكريم وفي زحمة الأفكار والأصوات والركض السريع يقع أحدهم على الأرض فيراه الجلاد فيناديه وينهال عليه بالضرب والركل افتح ايدك ماذا أخذت من الأرض ويفتح يديه وإذ به يحمل عقب سيكارة فبطحوه أرضاً وساموه سوء العذاب

وما أن دخلنا المهجع وارتدينا اللباس بنفس طريقة الخلع دفعة واحدة وإذ بأخ يقول : يا شباب صدقوني أن شعرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرافقني في الذهاب والاياب فبين مصدق ومشكك ولكن الجميع صلوا على الحبيب المصطفى .

*************** 

بني هذا السجن في البداية من قبل قوات الانتداب الفرنسي ليكون ثكنة عسكرية. افتتح عام 1966 ويضم عددا كبيرا من المجرمين والمعتقلين السياسيين، ويعامل كلا الصنفين بوحشية. يقع بالقرب من مدينة تدمر الصحراوية، نحو 200 كلم شمال شرقي العاصمة السورية دمشق.

شيد هذا السجن عام 1966 وتشرف عليه الشرطة العسكرية والمخابرات السورية، خصص تحديدًا لاحتجاز المعارضين