لأجلِ حياةٍ زوجيّةٍ ناجحةٍ وسعيدة

مضتْ سُنّةُ الله في هذا الكونِ على الاختلافِ بينَ البشرِ جماعاتٍ وأفرادٍ حيثُ لم يخلقهم الله على لونٍ واحدٍ مُتشابهينَ وذلكَ لحكمةٍ ربّانيّةٍ جعلتْ هذه الحياةَ قائمةً على الاختلاف.

إنّهُ لمنَ العسيرِ بل المُستحيلِ أنْ تجدَ في هذا الكونِ شَخْصَيْنِ مُتشابهينِ في كلِّ شيءٍ لا اختلافَ بينهما فحتّى التَّوْأَمُ لا يتطابقانِ تماماً في الرغباتِ والهواياتِ والأفكارِ والطبائع، وإنّهُ لمنَ الحيفِ أنْ تطلبَ من شخصٍ له كيانه وصفاته وعاداته ورغباته وميوله الخاصّةِ أنْ يعملَ على تبديلِ هذهِ الأمورِ لتتوافقَ تماماً مع ما يتمتَّعُ بهِ غيره وربما تكونُ على نقيضهِ تماماً.

ولعلَّ اللهَ زرعَ هذا الخلافَ في النّفوسِ لكي تتكاملَ فيما بينها ويُصبحَ للحياةِ طعمٌ ولون، ولو أنَّهُ تعالى شأنهُ خلقَ الجميعَ على لونٍ واحدٍ في الرغباتِ والحاجاتِ والطبائعِ والأفكارِ لأصبحتِ الحياةُ مملَّةً روتينيةً لا روحَ فيها ولا جمال، حيثُ ستميلُ إلى الهدوءِ والسَّكينة ممّا يُهدّدُ مسيرةَ الكائنِ البشريِّ على هذهِ الأرض، فإنَّ السَّفينةَ إنْ كانتْ في عرض البحرِ هادئةً مستقرةً لا تتلاطمها الأمواجُ ولا تهزّها الرياحُ فإنّها لا شكَّ لنْ تصلَ برَّ الأمانِ يوماً، فالخلافُ والاختلافُ هو المُحرّكُ الأساسُ لعَجلةِ الحياةِ ومِنْ غيرهِ لا معنى للوجودِ البشريِّ.

ورغمَ ذلك الاختلافِ الكبيرِ بين البشرِ إلاَّ أنَّ الله أمرهم بالتعارفِ والتعاونِ والاجتماع فيما بينهم ليُكّملَ بعضهم بعضاً، ومن أشكالِ هذا التعارفِ والتآلفِ أسمى علاقةٍ قد تجمعُ بين شَخْصَيْنِ، إنّه الزَّواجُ حيثُ يلتقي فيهِ رجلٌ بإمرأةٍ ليبدأا حياةً جديدةً معاً مُختلفةً تماماً عمّا واجهانهِ قبلَ الزَّواجِ، ولا ريبَ أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما طبائعهُ ورغباتهُ وحاجاتهُ وأفكارهُ التي تختلفُ عن الآخرِ وقد تلتقي في بعضِ الأمور، ومن الظُّلمِ أن تطلبَ من أحدهما أنْ يُبدّلَ كلَّ تلك الصفاتِ لتتوافقَ مع شريكِ حياتهِ فهذا ضربٌ من الجنون نهايتهُ فشلُ مؤسسةِ الزَّواج.

يجبُ أن يعلمَ كلٌّ من الزَّوج والزَّوجة أنّ لكلِّ واحدٍ منهما شخصيتهُ المُستقلة التي يجبُ على الشّريكِ احترامها والتوافقَ معها مقابلَ أنْ يقومَ ذلكَ الشّريكُ باحترام شخصيتهِ والتوافقِ معها لكي يُكّملَ أحدهما الآخر وبذلكَ فقطْ تسير حافلة الزَّواج بالطريق الصحيح.

- الفهم والاستيعاب:

على كِلا الزَّوجَيْن أن يفهم طِباعَ ورغباتِ وأفكارَ الشَّريكِ وألاَّ يطلبَ منه تغييرها أو تبديلها، وأنْ يستوعبَ أنَّ هذا الشَّريكَ له كيانه الخاصُّ الذي يجبُ أنْ يتكيَّفَ معه مُقابلَ ألاّ يُلغي شريكُهُ شخصيتَه بل يتكيَّف معها هو أيضاً.

كتبَ الدكتور سلمان العودة تغريدةً تقول: " علمتْ أنَّ زوجها مُهتّمٌ بالسّيارات فبحثتْ في النّت عن كلِّ ما يتعلقُ بها وقرأتِ المجلاتِ عنها حتّى أصبحتْ تُجاري زوجها في اهتماهه"

هذه الزَّوجة أدركتِ الطريقة التي تملكُ بها قلبَ زوجها رغم عدمِ ميولها لنفسِ رغباتِه لكنّها تكيَّفتْ مع ذلك فكانتِ النتائجُ لصالحها، وفي نفسِ الوقتِ على الزَّوجِ أنْ يُلاحظَ اهتمامات زوجتهِ فيعمدَ إلى التكيّفِ معها لكي يكسبَ قلبها، وهذا ماكانَ يُطبّقهُ القدوةُ الأولى نبينا محمّدٌ عليه السّلام فكانَ يعملُ بعملِ أهلِ بيتهِ مشاركةً لهنَّ بأعمالهنَّ، وكيفَ سابقَ عائشةَ رضيَ الله عنها ورفعها لكي تشاهدَ الأحباشَ وهم يلعبون لعلمهِ بمحبتها لذلك.

- القناعة:

إنَّ الله قد وزّعَ الأرزاقَ على اختلافها بينَ البشرِ مُنذ بدءِ الخليقة، والزَّواجُ رزقٌ من هذه الأرزاقِ فعلى كِلا الزَوْجَينِ أن يرضى بما قسمهُ اللهُ لهُ ويقتنعَ أنَّ الخيرَ فيهِ، ومع أنَّ القناعةُ أمرٌ قلبيٌّ لا يملكهُ المرءُ، لكن عليهِ أنْ يهتدي بقوله تعالى:" فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعلَ اللهُ فيه خيراً كثيراً " وعليهِ أنْ يعلمَ أنّه ليستْ كلُّ البيوتِ قائمةٌ على الحبِّ بل أغلبها قائمٌ على القناعة والرضى، وألاَّ ينظرَ إلى غيرهِ من الأزواج والزَّوجات ولا يُقارن نفسهُ بهم فالبيوتُ أسرار وليس الظَّاهرُ كالباطن.

المصارحة من غير حرج:

على كِلا الزَوْجَينِ أن يصارحَ شريكهُ بما يحبُ ويكرهُ منه بإسلوبٍ جميلٍ غيرِ منفّر، وألاَّ يتحرَّجَ من ذلك فكم من أمورٍ يظنّها المرءُ حسنةً وهي في نظرِ غيرهِ قبيحةً والعكس صحيح، فعندما يُخبر الشّريكُ شريكَهُ أنّه يحبُّ منه أموراً مُعينة يكون دافعاً له للقيام بها، وفي نفس الوقت حينما يخبرهُ أنّه يكرهُ بعضَ الأمور يكونُ ذلكَ سبباً في محاولتهِ الابتعادَ عنها.

- غضُّ الطرفِ عن الأخطاء:

 تُريدُ مُهذّباً لا عيبَ فيه *** وهل عودٌ يفوحُ بلا دخانِ؟!

الكائنُ البشريُّ مجبولٌ على الخطأ والزلل، ومن ظنَّ أنّه سيجدُ شريكاً للحياةِ خالياً من الأخطاءِ والعيوب فخيرٌ له أن يبقى بلا زواج، ولكن يُمكنُ أن يصنعَ المرءُ من خطأٍ صغيرٍ تافهٍ جَبَلاً من الخلافِ والكراهيةِ لا يهدّهُ إلاّ الطلاق، ويُمكنهُ بالحكمةِ وغضِّ الطرفِ والتجاهلِ المُتعمّدِ أن يُزيلَ غيوماً كثيفةً من الأخطاءِ ليرى فقط ضوءَ الشمسِ الذي يهديه في دربِ حياته الزَّوجيَّة.

- الحوار والصفح مع التنازل:

لا يُمكنُ أنْ يتحصّنَ منزلُ الزَّوجيّة عن المشاكلِ والخلافات، فمهما بلغَ الزَّوجانِ من حكمةٍ ووعي لا بُدَّ أن تنشبَ بعضُ الخلافاتِ بينهما وكما أردفنا هذه سُنّة اللهِ في خلقهِ ألاَّ تتوافق وتتطابقَ النّفوسُ في كلِّ الأمور، ولكنْ تلكَ المشاكلُ صغيرةً كانتْ أم كبيرةً لتفادي وصولها إلى الفراق والطلاقِ يجب:

أولاً: العملُ على حلِّ الخلافاتِ بالحوارِ الهادئ والنّقاشِ الذي لا يُصادرُ رأيَ الآخرِ مع الابتعادِ ما أمكنَ عنِ الغضبِ والتَّجريح الذي يتركُ أثراً سلبياً ليسَ من السهولةِ إزالته، فالحوارُ طريقٌ سليمٌ سديدٌ لحلِّ الخلافات.

ثانياً: الصفح مع التنازل: في الحياةِ الزَّوجيّةِ يجبُ أن تغيبَ النّفوسُ المتعالية وتخضعَ الكرامةُ للمصلحة العامّة، فلو أخطأ أحدُ الزَّوْجَيْنِ عليه أنْ يتنازلَ ويعتذرَ، وعلى الشَّريكِ أنْ يصفحَ وينسى الخطأ ولا يذّكِّره أو يعيّره به، أمّا ذلكَ المُتعالي الذي لا يقبلُ الاعتذار ولا يصفحُ حتّى يُذِّلَ شريكهُ ويُنقصَ من شأنه فهو من غيرِ أنْ يعلم يبني بينهما جداراً يصعبُ كسره، كما أنّه لا شكَّ سيقعُ في الخطأ يوماً فلن يغفرَ له شريكهُ حتّى يُذيقَهُ ما أذاقَهُ، وهنا لم يعدْ بيتَ زوجيّةٍ بل بيتَ أعداء.

ثالثاً: الابتعاد عن الشَّريكِ الغاضبِ والمعاتبةُ ساعة الصفاء: من الحكمةِ والفهم ألاَّ تُناقشَ غاضباً فهو في حالةٍ نفسيةٍ تفقده عقلهُ ناهيكَ عن صوابه، فعلى الشَّريكِ أنْ يتركَ شريكه الغاضبَ حتّى يهدأ وبعدَ ذلكَ في ساعةِ صفاءٍ وهدوءٍ يُمكنه أن يعاتبهُ بإسلوبٍ جميلٍ وكلماتٍ غير جارحةٍ فيدفعهُ مباشرةً للاعتذارِ، على عكسِ لو ناقشتَه وعاتبتَه ساعةَ غضبهِ فهو كمن يصبُّ الزيتَ على النّار.

- ابعاد الأهل والنّاس عن الأسرار والمشاكل الزوجية:

 منَ السّلامةِ والحكمةِ أنَّ كلَّ ما يجولُ داخلَ عشِّ الزوجيةِ مهما كانَ تافهاً أنْ يبقى داخله فلا يخرجَ حتّى إلى أقربِ النّاسِ، فهذه حياةُ الشَّريكين الخاصّةِ هما رُبّانُ هذه السَّفينة فلو أشركا معهما في قيادتها أشخاصاً أخرين ستغرقُ بمن فيها وهما فقط الخاسرُ الوحيد، وهذا ينطبقُ تماماً على المشاكل التي تدورُ بينهما فلو خرجت هذه المشاكلُ لأهلهِ أو أهلها فسوفَ تتفاقمُ وتزيدُ، وإنْ تمّ حلّها وتصافت القلوبُ بينَ الزوجين ستبقى أثارها في قلوبِ عائلتيهما تجاهَ الشَّريكِ، ناهيكَ عن فضحِ خصوصياتك وأسرار منزلكَ أمامهم.

- عدم طلب الكمال:

 لعلَّ أخطرَ وأسوءَ ما بثّتهُ قنوات الإعلامِ من سمومٍ هو تلكَ الدّراما التي تُصوّرُ الزَّوجَ المثاليَّ الرومانسيَّ الذي يملكُ كلَّ الصّفاتِ الرائعة، وكذلكَ الزوجةُ الجميلة اللَّعوب صاحبة الثقافة العالية، فرسمتْ هذه القصصُ الخرافية المدسوسة أحلاماً لدى جيلِ الشّباب أنَّ الحوريّة التي وعدَ اللهُ بها عبادهُ في الجنانِ يُمكنُ أنْ تجدها على الأرضِ بل لعلّها تفوقُ الحوريّةَ بصفاتها!، وهذا ضربٌ من الجنون فمن ينشدُ الكمالَ في الجمالِ والمالِ والنَّسبِ والدّينِ والعلمِ في شريكِ الحياةِ فهو يبحثُ عن سَرابٍ لن يجدهُ إلاَّ في الدّراما الهدّامة، على الشَّريكِ أن يقتنعَ أنَّ شريكهُ بشرٌ ناقصٌ مهما حصّل من الكمالِ وأنْ يجعلَ صفاتِ الكمالِ تُعميهِ عن صفاتِ النَّقصِ والعيوب فهذهِ سُنّةُ اللهِ في خلقهِ من مَلكَ الجمالَ لعلّه أضاعَ العلمَ ومنْ ملكَ الدّين لربما فقدَ المالَ وصاحبُ النّسب الجليلِ له من القباحةِ نصيبٌ، فسبحانَ صاحبِ الكمال.

الزَّواجَ هو أعظمُ عملٍ يُقْدِمُ عليهِ المرءُ فهو بناءُ أهمِّ مؤسسةٍ في حياته، فعليهِ أنْ يُحسنَ الاختيار في البدايةِ ويضعَ أمامَ عينيه أنّ استمرار هذا المشروعِ الضَّخمِ لا يكون إلاّ بالفهم للآخرِ معَ القناعةِ والصَّفحِ عنِ الأخطاءِ والحوارِ الهادئِ مع المصارحة وعدمِ طلبِ الكمالِ وأنَّ في كلِّ شخصٍ ما يكفيه من عيوب، وأهمُّ من ذلكَ أنْ تكونَ جُدرانُ منزلِ الزَّوجيّةِ متينةً لا يتسربُ منها شيءٌ لخارجه.