رحلة الانتصارات في رمضان..

إن المتأمل في أحداث شهر رمضان المبارك عبر مراحل تاريخ الإسلامي الأغرّ، يجد أمورًا عظيمة تدعو للعجب والفخار فهو مرحلة لجهاد العدو وتحرير البلاد كما هو لجهاد النفس ومكابدتها، فقد حدث في هذا الشهر معارك وأحداث جليلة دارت رحاها على ثرى بلادنا الطاهر، ولا بد أن نذكر أن انتصارات المسلمين في هذه المعارك يحتاج دراسة متأنية تحيط بالظروف والعوامل التي نهضت بها، فهي ليست معارك اعتباطية أو عادية ولكن حدوثها في هذه الفترة المباركة من العام جعلت من رمضان بحق شهر الانتصارات، كما يمكننا ملاحظة أن المسلمين ينتقلون خلال رمضان من مرحلة إلى أخرى، فمن ضعف إلى قوة ومن تقهقر إلى عزَّة.

ارتبط شهر رمضان بالجهاد في سبيل الله بشكل لافت، حتى آيات الصيام في سورة البقرة -من قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] تليها بعد آيات قليلة قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. هو ارتباط رباني بين هذا الموسم العظيم من مواسم الخير وبين حركة الجهاد والقتال التي لا تعتبر هدفًا بذاتها بل هي أداة من أدوات إزالة الغبش عن أعين الناس وإقصاء من يمنع عنهم وصول الدعوة وحرية الدعاة، وربط رمضان بهذا الدفق الهائل من التضحية تحمل مضامين في البذل والتضحية والدعوة والحركية...

وفي هذه الفسحة "سياحة وطن" سننطلق برحلة لعددٍ من هذه الانتصارات العظيمة التي جرت في رمضان، ولا أطلب من قراءنا إلا تحضير جواز سفرهم من الخيال وزادهم من التفكر وننطلق بها سويًا على بركة الله ...

محطتنا الأولى من شهر الجهاد ستكون في العام  الثاني من الهجرة، وفي ال ١٧ منه  حيث جرت غزوة بدر الكبرى، وهي أول صدام حقيقي بين المسلمين وبين مشركي قريش، والتي انتهت بنصر باهر للمسلمين وسميت بالفرقان لآثارها العظيمة والمفصلية في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قال جلّ من قائل:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران 123]. كانت معركة بدر إيذانًا بولادة دولة الإسلام في المدينة المنورة، وأنها أضخت ذات سيادة كاملة وبدأت تتشكل سمات كيان قادر على المواجهة والتصدي، كما أرسلت رسالة صريحة أن مرحلة الاستضعاف قد انتهت وولت بغير رجعة بإذن الله..

وهذه بعض الدروس الأساسية التي تعلمناها في بدر والتي نحتاجها في واقعنا بشكل كبير:

- في بدر زُرِعَ الأمل في نفوس المسلمين إلى يوم القيامة؛ بأن الله ناصر المسلمين مهما تأخر النصر ونزلت الكروب على الأمة.

- علمتنا بدر بأن التضحية والبذل بالنفس والنفيس، والمال والوقت والجهد هو من أساسيات النصر في ثنائية رائعة بين التضحية والظفر ستظل قائمة حتى قيام الساعة.

- علمتنا بدر الإعداد قدر المستطاع لمواجهة الأعداء، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال ].

وننتقل إخواني سويا لمحطتنا التالية من رحلة النصر والتمكين إلى عام 8 هـ، إنه فتح مكة،  اللقاء الأخير والفيصل مع مشركي قريش؛  فقد فتحت في 21 رمضان، وفيها وخلالها أزيلت الأصنام من بيت الله الحرام وعادت مكة المكرمة إلى الله تعالى خالصة له فهي تحرير للأرض وتحرير للقلوب من جهالة الماضي وغيّه، وخلالها أسمى صورة المسامحة التي لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى بقوله صلى الله عليه وسلم "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ..

وإلى محطتنا الثالثة في بلاد فارس في سنة 13هـ حيث جرت موقعة البويبب بقيادة البطل الفذ المثنى بن الحارثة رضي الله عنه، وكان عدد المسلمين في هذه الموقعة 8 آلاف فقط، والفرس مائة ألف ولكن ثبات المسملين أوصلنا للنصر العظيم حتى أبيد جيش الفرس عن بكرة أبيه.

ولأن معين تاريخنا لا ينضب ننتقل إلى عام 91هـ، ففيه فتح المسلمون أولى صفحاتهم في سِفْر الأندلس الضخم، في رمضان تنطلق الرحلة المباركة في فتح الديار الأندلسية والتي بقيت تحتضن مجدنا أكثر من ثمانية قرون متتالية.

والمحطة قبل الأخيرة في 25 رمضان سنة 658هـ حدثت الموقعة التي زلزلت الأرض بكاملها موقعة عين جالوت، وفيها كان الانتصار الإسلامي الباهر بقيادة سيف الدين قطز -رحمه الله- على جحافل التتار، وقد كانت جيوش التتار قبلها تكتسح الأرض في  ويلات متتالية تبيد خلال مسيرها الحرث والنسل والحضارة فلا احترام لا لإنسان ولا للعلم والإيمان ومضت حينًا بلا هزائم أو مواجهة تذكر، حتى كسر المؤمنون شوكتهم ودمروا اندفاعهم أمام عزيمة صادقة بقيادة العلماء والدعاة...

لقد انتصر المسلمون تقريبًا في كل محطاتهم في شهر رمضان، انتصرنا على المشركين في بدر وفتح مكة، وعلى الفرس المجوس في البُوَيْب، وعلى الصليبيين في الأندلس وأيام صلاح الدين، وانتصرنا على التتار في عين جالوت...

هذه العزة العظيمة التي صاحبت شهر الجود والكرم، عادت من جديد للأمة، وروح الجهاد التي نراها قوية صحيحة، تخفق راياتها في سوريا وفلسطين، تحتم علينا خطوات عملية لدعمهم بشتى الطرق والوسائل، فدعونا نحوّل غضبنا وحزننا إلى قوة دافعة لتغيير الواقع والذات والنفس ونحدث تغييرًا في عاداتنا وعباداتنا ونلتزم بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} فيصبح التغيير شاملا للأسرة ثم للمجتمع والأمة...