المقدسيون، مورسكيّو العصر الجدد..

 

مرت بلاد العرب والمسلمين بمآسٍ بالغة وويلات متتالية، وقد عدّ الكثير من المؤرخين والمطلعين نكبة الأندلس كأعظم جراح الأمة في مرحلة ما، كارثة تركت جرحًا غائرًا في وجدان الأمة، ومأساة لم يشعر المسلمون بمثلها ألمًا وأثرًا، مع تكرر النكبات وتتالي الجراح ...

خسارة الأندلس هي خسارة حضارية وتاريخية وإنسانية، يقابلها في الزمن الحاضر هزيمة وانتكاسة ترتسم صورها في الوجدان والواقع والمجتمع، خسارة بلد عزيز ومدينة عبقة بكل معاني القداسة والرفعة والسمو، القدس عروس المدائن وجوهرة بلاد الشام مسربلة في القيد منذ عشرات السنين،  ينهش جسدها غيلان الاحتلال، ويدنسها كل مأفون، القدس هي تجسيد للمأساة بكل صورها وأشكالها الممكنة، وما يجري في أرجائها من تصفية وجود الآمنين، بكل ما تحمل هذه العبارة من معاني القهر والإذلال والإبعاد والتصفية الاجتماعية والنفسية والعنصرية، هي حرب واضحة المعالم وحصار للروح والجسد وطمس لمعالم التاريخ والحضارة وتزوير لم يشهد التاريخ مثيله في الدنيا.

وفي معاينةٍ لواقع القدس والتطورات التي تحدث فيها، وما يحوق بالمقدسيين من مخططات ومشاريع قاسية فظيعة، نجد تشابهًا كبيرًا في أساليب المحتل وفي مسببات النكبة وآثارها، تشابه يصل لحد تكرار الأحداث بين المأساة الفلسطينية وصنوها الأندلسية، أوليست فلسطين هي أندلس القرن العشرين، وقد قال بعض الحكماء قديمًا بأن التاريخ يعيد نفسه مع فروق التفاصيل والحيثيات...

حرب الإبادة المستترة التي يقوم بها طغمة الصهاينة في القدس خاصة وفلسطين بشكل عام يوحي كثير من قرارات قادتها بأنهم تربوا في مدرسة محاكم التفتيش أو أنهم وجدوا في غير زمانهم وانتقلوا من قتل المورسكيين - الأندلسيين الذي بقوا في بلادهم بعد احتلالها-  في الأقبية المظلمة عبر أبشع آلات التعذيب والقتل، إلى حصار وقتل المقدسيين في رحابة المدينة ولكن عبر ضيق القانون وتفاصيل الحياة المريرة التي تصبح بحد ذاتها ضربًا من المواجهة وجزءًا من الصمود والتصدي ومعركة الإرادة.

بعد احتلال الأندلس طرد عشرات آلاف العرب والمسلمين من مدنهم ومناطقهم وسنّ المحتل بذلك قوانين معروفة شرّد عبرها أصحاب الأرض وذاقوا بعدها ويلات اللجوء ومرارة الإبعاد أو الموت في مجاهل البحار أو على يد عصابات الإجرام وقطاع الطرق، والمقدسي ومنذ اللحظة التي احتل فيها العدو الصهيوني شطر القدس الشرقي عام 1967م – وقبلها فظائع في شطرها الغربي- وهو مهدد في وجوده، طردت سلطات الاحتلال الآلاف من سكان المدينة، وهي اليوم تسحب هوياتهم الزرقاء أو تبعدهم عن المدينة، وما بين ذلك من معاملات إثبات الإقامة ما يجرّع المقدسي مرارة الفقر والحرمان من العمل والدراسة خارج جدارها العازل المقيت، لأن إمكانية عودته إليها تتضاءل، وإثبات إقامته في القدس يعتبر تحدّيًا إضافةً لمكابدة هموم الحياة اليومية.

من بقي في غرناطة أو قرطبة وجد معاملة مستعلية من المحتلين الذين خطّوا على بيوت الأندلسيين شعارات الموت للعرب والتهديد ثم التصفية الجسدية والقتل بأتفه الأسباب من غير أن يسمحوا باعتراضة ولو بسيطة، وهي سياسة صهيونية بامتياز لأن خوارهم لا يسمح لهم بمواجهة أصحاب الإيمان والقضية فيجنحون في ظلام الليل ليخطوا على الجدران عبارات التطاول على الدين والأنبياء والسكان لا فرق بين مسلم ومسيحي كلهم في عدوان التطرف والإرهاب الصهيوني سيان، ويختطفون فتية في عمر الزهور يمارسون عليهم ساديتهم ويقتلونهم بكل دناءة وخِسّة كما حدث مع الطفل محمد أبو خضير رحمه الله، أو يصوبون لظى نيران أسلحتهم على العزل في مظاهرات المقدسيين التي تواجه آلة القتل والإبادة، أولم يكن من أجدادهم تاجر البندقية الذي حكى عنه شكسبير.

مع أن بعض المدن الأندلسية سلّمت صلحًا بعد اتفاقيات تحفظ حرية العبادة وحرية الناس في اختيار أديانهم وتدبير شؤون حياتهم، وبعيد دخول المحتل لهذه المدن انقلبوا مباشرة مصادرين دور العبادة مجبرين من بقي من الناس على تغيير دينهم بالقوة أو تحت التعذيب ثم بالقتل والحرق، والمقدسي اليوم يواجه بصدره العاري منفردًا محاولات الاحتلال منعه من الصلاة في المسجد الأقصى المبارك عبر الحواجز المتتالية واحتجاز الهويات، وإن هو قاوم الاقتحامات اليومية يطرد عن المسجد أو يُبعد عن المدينة وحرائر الأقصى تلاقين الصعوبات الهائلة والمضايقات المستفزة يوميًا من قبل الاحتلال ومستوطنيه، وهو في ظنه يضعف إرادتهن ولم يعلم أنهن تربين في مدرسة أسماء وخولة .. سيكسرن بإيمانهن عنجهية الاحتلال وجبروته..

عندما استلب فرناندو وإيزيبلا مدينة غرناطة، غيّروا معالمها وحاولوا طمس كل ما فيها من أسماء المناطق وتفاصيل الحضارة والرقي ولم يسلم منهم آلاف الكتب في أمهات العلوم والآداب حتى أحرقوا في ساحة حي البيازين عشرات الآلاف في يوم واحد، حتى اللباس العربي قاموا بمنعه وحظر ارتداءه، والصهيوني اليوم الذي جاء من أشتات الأرض وهو شراذم من بلاد مختلفة يحاول طمس معالم القدس الإسلامية والعربية، يغيّر أسماء الشوارع والأزقة ويبتدع تاريخًا لا يمت للحقيقة بصلة، أكذوبة التاريخ والمعبد والدولة العظيمة الممتدة بين الفرات والنيل، صور ابتدعها العقل الصهيوني لينسج حولها منظومة متكاملة لتهويد القدس وتغيير ملامحها واستباحة تاريخها التليد، ومن جانب آخر يغيّر المواقع الأثرية ويطمسها ويمحوها من الوجود كما فعل بحي المغاربة، أو يبني مكان هذه الصروح الرائعة كنسًا ومبانٍ دخيلة بشعة، قميئة كوجوههم قاسية كقلوبهم...

ذهبت الأندلس بعد أن أصبح المسلمون دويلات متناحرة، ذهلوا عن الواقع وذهبوا في البذخ والترف كل مذهب، والقدس تذوي وتضمحل والأمة مشتتة متناحرة مسربلة في جراحها تئن متألمة مكلومة أو مفتونة بواقعها، تعيش ترف الحياة وتفاهة الحلم والإنجاز، لا هي قادرة على المواجهة ولا يُسمح لها بالتجمع والوحدة، وهنا يطرح السؤال الأخطر هل ستذهب القدس كما ذهبت قبلها الأندلس وهل سنبكي عليها بعد سنين كما بكينا على الأندلس كثيرًا، أم أن ربيع الأمة سيأتي ويزهر في القدس ونجني ثماره في مسجدها الأقصى المبارك، سيظل الأمل هو الحادي والمرشد في لجج الواقع وصخبه ...