مقاومة في فلسطين
ثمة نمط جديد من العمليات في فلسطين، يثير قلقا متزايداً لدى أجهزة الأمن الصهيونية، هي ما أطلق عليها اسم العمليات الفردية، مثل التي حدثت في القدس، في الأسبوع الأول من رمضان الجاري، حين طعن ناصر ياسين طوره ضابطاً صهيونياً، وأصاب زميله بجراح، وما سبقها من عمليات متعددة، تراوحت ما بين طعن بسكين، أو مداهمة لتجمعات الجنود على الطرقات بسيارة عابرة.
في هذه العمليات، تم استبدال السيارة المتفجرة بسيارة داهسة، والحزام الناسف بسكين. وسط عدم امتلاك العدو أي وسيلةٍ تمكّنه من اكتشاف العمل قبل وقوعه، أو مكافحته بضربة استباقية، أو اختراق الجهة المنفذة، أو الاستفادة من مزايا التنسيق الأمني في ملاحقة الخلايا النائمة، إذ تقف استخبارات العدو عاجزة عن القيام بأي فعل مسبق، لا يوجد سلاح يتم نقله ليتم اعتراضه، فالسكاكين متاح شراؤها من أي مكان، ويستحيل معرفة السيارة التي قد تتحول من وسيلة نقل إلى سلاح فتاك في لحظات. لا يوجد تنظيم يتم اختراقه، ولا تعليمات يتم إرسالها، فتكتشف على الطريق، ولا تمويل تجفف منابعه، أو تتسنى مراقبته.
هي مجرد فكرة نمت في ذهن صاحبها، من دون رقيب أو حسيب، لم يستشر بها أحداً سوى ضميره، ترعرعت من صلب معاناته وشعبه من ممارسات الاحتلال، علت فيها مشاعر الكرامة الوطنية على واقع الذل والمهانة. واستعان بالآية القرآنية الكريمة "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك"، وترسخت لديه قناعة وسط عجز الفصائل، وانغماس بعضهم في لعبة الاحتلال، بأن من رأى منكم احتلالاً فليغيّره بيده. ليسجل فشلاً مزدوجاً لأجهزة الاحتلال ومنظومة التنسيق الأمني في ملاحقة هذه الظاهرة، أو القضاء عليها.
سابقاً، نجح العدو الصهيوني في إجهاض الانتفاضة الثانية التي غلب عليها الطابع المسلح، وازدهرت فيها العمليات الاستشهادية، كما شهدت تشكيل المجموعات والكتائب المسلحة، باغتيال قادتها، واجتياح مدن الضفة الغربية، والأهم عبر صفقة أبرمت بين العدو والأجهزة الأمنية الفلسطينية، بعد اغتيال ياسر عرفات، تنص على عدم ملاحقة الناشطين في الانتفاضة وإلحاقهم بالأجهزة الأمنية. لم يلتزم العدو بذلك، وقام بعدد كبير من عمليات الاغتيال والاعتقال والزج في السجون. لكنه نجح عبر ذلك في تصفية ما تبقى من المجموعات المقاتلة، بما فيها مجموعات "فتح"، وأدى التنسيق الأمني اللاحق دوره في عدم السماح بتشكيل أي مجموعات جديدة، وتفكيك القائم منها، وملاحقة الناشطين، ومصادرة أي قطعة سلاح. ضمن رؤية واضحة تعتبر أن العمل المسلح ضد الكيان الصهيوني يمس بأمن السلطة الفلسطينية ويعرضها للخطر، ما أدّى إلى تراجع كبير في منسوب العمل المسلح، بل والحراكات الجماهيرية في الأراضي المحتلة، وسط ازدياد شعور الاحتلال بالأمن، وعدم وجود ما يهدد بيته الداخلي، ويجعله يدفع ثمن جرائمه، أو يوقف استيطانه، ويحمله على الانسحاب والاعتراف بالحقوق الفلسطينية. ولعله يلاحظ، هنا، أن الهبات الشعبية في منطقة القدس، حيث يواجه الحراك الشبابي العابر للفصائل فيها سلطات الاحتلال مباشرة، هذه الهبات التي لا يخلو يوم من فعاليتها هي أقوى وأكثر حدة وديمومة واستمراراً من مثيلاتها في الضفة الغربية الخاضعة لسلطة الاحتلال وسلطة الأجهزة الأمنية في آن. وسط هذا المناخ، وفي غياب العمل المنظم، جاءت ظاهرة العمليات الفردية التي أربكت العدو المنتشي بنتائج هذا التنسيق الأمني.
من زاوية أخرى، يكشف استمرار هذه العمليات الفردية وتتابعها، كما هو حال هبة المقدسيين عن عجز كبير في قدرات الفصائل التي تحولت بغالبيتها إلى فصائل مكتبية، وجيش من الموظفين، عن متابعة العمل الميداني وقيادته وتوجيهه. ولعل حالة الإحباط التي يعيشها الفلسطيني من قدرة هذه الفصائل على الفعل في مواجهة الاحتلال أحد الأسباب التي تدفعه لمواجهه جبروت الاحتلال منفرداً، فقد بلغ السيل الزبى، بعد أن فقد هذا المواطن قدرته على انتظار نتائج المفاوضات والمبادرات، والوعود المخدرة باللجوء إلى هذا المنبر، أو تلك المحكمة، وإعطاء العدو المهلة تلو المهلة، للعودة إلى مفاوضاتٍ نتيجتها المثل الشعبي (اللي بجرب المجرب عقله مخرب)، حتى كدنا نفقد الثقة بأنه ما زال هناك عقل راشد في أوساط القيادات الفلسطينية، في وقت يتجذر فيه الاحتلال ويبتلع الأراضي الفلسطينية، ووسط عمليات الاعتداء والاعتقال والقتل التي يمارسها جنوده ومستوطنوه من دون أدنى عقاب.
هنا، تؤدي مثل هذه العمليات دور الصاعق المفجر، والمتمرد على ركود الأوضاع واستمرار حالة الإذعان لبقاء الاحتلال. ولعل هؤلاء الأبطال بمثابة الطليعة الثورية المقاتلة التي تشكلت بانتظار إعادة تنظيم الصفوف الفلسطينية والعربية، معلنةً، وبصوت عال، أن المقاومة ضد الكيان الصهيوني لم ولن تنتهي. قد تختلف أشكالها، وتتنوع وسائلها، ويتغير حملة بيارقها، لكن روحها المستقرة في جسد الأمة تبقى واحدة.