معجزةُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في «علم الفَلَك»
قال رسول الله e: «ألا إنَّ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ».
رواه «البخاريّ» برقم «3197»، «4406»، «4662»، «5550»، «7747»، و«مسلم» برقم «1679»، و«أبو داود» برقم «1947»، و«أحمد» في «مسنده» برقم «20386»، و«النّسائيّ» في «السنن الكبرى» برقم «4201»، و«ابن حبَّان» في «صحيحه» برقم «5974»، و«البيهقيّ» في «سننه» برقم «10055».
وذكره «الطَّبريُّ» في «تفسيره»، و«الماورديُّ» في «نُكتِه»، و«البغويُّ» في «معالمه»، و«ابن عطيَّة» في «محرَّره»، و«الزَّمخشريُّ» في «كشَّافه»، و«ابن الجوزيّ» في «زاده»، و«الرَّازيّ» في «مفاتيحه»، و«القرطبيُّ» في «أحكامه»، و«الخازن» في «لبابه»، و«أبو حيَّان»، في «بحره»، و«ابن كثير» في «تفسيره»، و«الثَّعالبيّ» في «جواهره»، و«أبو السُّعود» في «إرشاده»، و«السِّيوطيّ» في «دُرِّه»، وغيرهم.
وأكاد أجزمُ أنَّ «الحديث» قد لحقه بعضُ «الإدراج»، يدلُّ على ذلك اختلاف «المتنِ» في عددٍ من رواياته مع أنَّ «الرَّاوي» واحدٌ، ولستُ في معرض إيضاح وتبيان ما لحقه من «إدراج»، وإنَّما أجزمُ أنَّ جزءه الأوَّل صحيح، نطق به رسول الله e، لما فيه من دلائل وبراهين، تتطابق مع ما نصَّ عليه «القرآن الكريم»، وتُظهرُ معجزةً من معجزات «النَّبيّ» e، لم يلتفتْ إليها أحدٌ فيما وقعتُ عليه بين يديّ من المصادر، ولم يشر إليها ممَّن تعرَّضوا لـ«الحديث» بالدِّراسة والبحث.
ولعلَّ عذرهم في ذلك أنَّهم درجوا على المعنى الذي أُريدَ له بعد تحريفه عن المعنى الأصليّ الذي قيل من أجله، وغفلوا بذلك عن المعجزة الفلكيَّة الحقيقيَّة التي بيَّنها رسول الله e.
بل أكادُ أجزم أنَّ «الحديث» قد وُضع في غير موضعه، ووظِّف بعكس ما يُراد منه، إذ استدلَّ به «المحدِّثون»، و«المفسِّرون»، و«الفقهاء» على تحريم شهر «النَّسيء» الوارد في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾ التوبة: 37.
وقد وضَّحنا في مقالنا بعنوان «الشَّهر النّسيء والشَّهر المقوِّم» أنَّ المراد في هذه الآية تحريم ما كانت تفعله العرب من «تحليل» بعض أشهر «الحرم» بغية المنافع والتِّجارة والصِّيد والغزو، ولا علاقة له بـ«الشَّهر المقوِّم» الذي كان يضيفه المختَّصون بعلم «الفلك» والمعروفون بـ«العاديِّن» لتتوافق السَّنة «القمريَّة» مع السَّنة «الشَّمسيَّة».
وبالعودة إلى «الحديث» السَّابق، ومن خلال ما سنوضَّحُه نجدُ فيه معجزةً عظيمة، وبرهانًا جديدًا في أنَّ «محمَّدًا» e نبيُّ الله المرسل، وأنَّه «عالِم فلكيٌّ» في زمنٍ لم يكن في أدوات لمعرفة التَّوقيت، والحساب، وتحديد الزَّمان، ومعرفة الدَّورة الفلكيَّة لـ«الشَّمس» و«القمر»، ولم تصلْهُم ابتكارات العصر وإبداعاته.
بل إنَّ في «الحديث» دلالة على نقيض ما فهمه السَّابقون، ويفنِّد مزاعمهم، ويبطلُ مذهبهم فيه، وأنَّ رسول الله e قد نصَّ على وجوب إضافة الشَّهر «المقوِّم» في موعده الذي كان معروفًا عند العرب.
ولتبيان معجزته e لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ «التَّقويم» بنوعيه «القمريّ»، و«الشَّمسيّ» كان معروفًا عند العرب، ولم يكونوا في غفلة عنه، ويعلمون أنَّ ثمَّة انحرافًا يحصلُ نتيجة دوران الكرة «الأرضيَّة» حول «الشَّمس»، فتنقص السَّنة «الشَّمسيَّة» بمقدار ربع يومٍ في «التَّقويم الشَّمسيّ» كلّ عام، بينما تنقص أحد عشر يومًا وربع اليوم في «التَّقويم القمريّ» كلّ سنة.
وجرت عادةُ المختَّصين في علم «الفلك» أن يزيدوا «يومًا» كلَّ أربع سنوات بالنِّسبة إلى «التَّقويم الشَّمسي» لتعويض الانحراف الحاصل بمقدار ربع يوم كلّ عام، وكذلك كانت العرب تزيدُ «شهرًا» كلَّ «اثنين وثلاثين شهرًا» لتعويض الانحراف الحاصل بمقدار أحد عشر يومًا كلّ سنة.
فإن قلتَ: لمَ لمْ تحوِّل العرب قديمًا تقويمها من التَّقويم «القمريّ» إلى التَّقويم «الشمسيّ»؟!
قلتُ: لحرصها على المحافظة على «الأهلَّة» التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدِّين الإسلاميّ، وهي أساسهم الذي يعرفون به مواقيتهم، وحجَّهم، وعليه نصَّ «القرآن الكريم» فقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ البقرة: 189.
فإن قلتَ: أين معجزةُ رسول الله e الفلكيَّة في هذا كلِّه؟!
قلتُ: إنَّ رسول الله e في متن «الحديث» السَّابق قال: «ألا إنَّ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، أي: أنَّ السَّنة التي قال فيها رسول الله e هذا الكلام كانت نقطة «الصّفر» فلكيًّا لدوران «الأرض» «قمريًّا»، وأنَّها في يوم قوله e ذلك عادت كما بدأها الله سبحانه وتعالى في أوَّل خلقها، ونقطة انطلاقها، وبداية دورانها في «الفَلَك» كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ الأنبياء: 33، وقوله أيضًا: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يس: 40.
فإن قلتَ: فما الدَّليل على ذلك؟ وكيف فهمتَ ذلك من متن «الحديث»؟
قلتُ: إنَّ العرب كانت تزيد –كما أسلفنا – شهرًا قمريًّا كلَّ اثنتين وثلاثين سنة لتعويض الانحراف الحاصل بمقدار أحد عشر يومًا وربع اليوم، أي: كانت تزيد «سنةً» قمريَّة كلَّ اثنتين وثلاثين سنة، لتتطابق مع السَّنة «الشَّمسيَّة» التي تتقدَّمُها بـ«سَنَة شمسيَّة» كلَّ اثنتين وثلاثين «سَنَة قمريَّة»، ومن المعلوم أنَّ التَّقويم «الهجريّ» الحالي أثبته «عمر بن الخطَّاب» رضي الله عنه، أي: إنَّ التَّقويم الذي كان معتمدًا قبْله غير متَّفق عليه.
لكنَّنا نجزم بناء على الدِّراسات التَّاريخيَّة القديمة والحديثة أنَّ رسول الله e قد وُلد في عام «الفيل»، الموافق لسنة «570» ميلاديَّة، ومن المعلوم أيضًا أنَّه عاش e ثلاثة وستِّين عامًا كما في «البخاريّ» برقم /3903/، و«مسلم» برقم /88/؛ بل نجزمُ أنَّه عاش e اثنين وستين عامًا ونيِّفًا؛ لعدم قدرتهم على تحديد الشُّهور بدقَّة في وقتها، وقد أشرنا إلى ذلك في مقالنا الخاصَّ بـ«الشَّهر النَّسيء»، والمراد من قولهم: «ثلاثة وستين عامًا»، أي: ضمنًا.
وللتَّسهيل نقول: إنَّ العرب كانت تزيد شهرًا كلَّ اثنين وثلاثين شهرًا، بينما رسول الله e كان عالمًا إضافة إلى ذلك بالتَّغيير الحاصل كلَّ اثنتين وثلاثين سنة، وباعتماد الدَّورات الاقترانيَّة «الميتونيَّة» نسبة إلى العالم «ميتون» الذي اكتشفها في السَّنة «432» قبل الميلاد، والتي تعادل «19» عامًا للتَّنسيق بين السَّنة «القمريَّة» والسَّنة «الشمسيَّة» فإنَّ مولد النَّبي e كان عام «570» ميلاديّ، أي: في الدَّورة الاقترانيَّة رقم «30»، وتحديدًا في السَّنة الخامسة منها، على اعتبار أنَّها تتكوَّن من «19» سنةً، وتوفِّي e عام «633» ميلاديّ، أي: في الدَّورة الاقترانيَّة رقم «33» في السَّنة العاشرة منها، كما يظهر في الجدول التَّالي:
المجموع رقم الدَّورة مدَّة الدَّورة عمر النَّبيّ e 30 19 14 31 19 19 32 19 19 33 19 10 4 67 62
يظهرُ ّإذن أنَّ رسول الله e قد وُلِدَ في السَّنة الخامسة من الدَّورة الاقترانيَّة الثَّلاثين والتي تبدأ عام «566»، أي: ضمنًا عام «570» ميلاديَّ، وتوفِّي e في السَّنة العاشرة من الدَّورة الاقترانيَّة الثَّالثة والثّلاثين والتي تبدأ عام «623» ميلاديّ، أي: ضمنًا عام «633» ميلاديّ، وهو ما أثبته المؤرِّخون وأهل العلم، فيكون رسول الله e عاش اثنين وستِّين عامًا ونيِّفًا، أربعة عشر عامًا من الدَّورة الثَّلاثين، وتسعة عشر عامًا في الدَّورتين الواحدة والثَّلاثين، والثَّانية والثَّلاثين، وعشرة أعوام من الدَّورة الرَّابعة والثَّلاثين.
أي: إنَّ رسول الله e عاش اثنين وستِّين عامًا ونيَّفًا، فإذا كانت وفاته كما ثبت سنة «633» ميلاديَّة، وهي بداية الدَّورة الفلكيَّة القمريَّة الجديدة بعد اثنتين وثلاثين سنة كما نصَّ متن «الحديث» وبيَّناه سابقًا، فيكون بداية الدَّورة الفلكيَّة السَّابقة قد بدأت ضمنًا عام «570» ميلاديَّة، وهو العام الذي ولد فيه e، وانتهت ضمنًا عام «601» ميلاديّ، ولم يكن قد بُعثَ، ثمَّ بدَأت الدَّورة الفلكيَّة الثَّانية والتي تنتهي ضمنًا عام «633» ميلاديّ، فيكون النَّبيُّ e قد عاش دورتين فلكيِّتين قمريَّتين تامَّتين، كانت بداية الأولى عند ولادته e، وانتهت الثَّانية بوفاته e.
أي: إنَّ رسول الله e قد أدركَ دورتين فلكيَّتين تامَّتين على حسابهم «القمريّ»، بزيادة سنة كلّ اثنتين وثلاثين سنة، وبما أنَّ رسول اللهe لم يكن قد بُعثَ في الدَّورة الفلكيَّة الأوْلى، فلا وجْه لذكرها أو دراستها، إذ إنَّها كانت في منتصف عمرِه e، ومن المعلوم أنَّه لما بُعثَ e كان في الأربعين من عمره.
لذلك فإنَّ قوله e في حجَّة الوداع في «ذي الحجَّة» من العام «العاشر» لهجرتِه e: «ألا إنَّ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» برهان واضحٌ لا شُبهة فيه على علمِه بالعمليَّة الفلكيَّة.
إنَّ لفظ «الزَّمان» في صدر «المتن» يدلُّ دلالة صريحة على مراد النَّبيّ e منه، وهو معرفة (التَّوقيت الفلكيّ»، ومن المعلوم أنَّ تعريف«الزَّمان» اصطلاحًا يعني: ساعات «اللَّيل» و«النَّهار»، وقد نبَّه عليه «الزَّركشيُّ» فقال: «إنَّ الزَّمان الحقيقيّ هو مرور اللّيل والنَّهار، أو مقدار حرة الفلك».
بل إنَّ هذا لفظ «زَّمان» لفظٌ مشكِلٌ نبَّه عليه بعض الباحثين كـ«فريد الدِّين آيدن» حيث قال: «مفهوم معقَّد لم يتمكَّن العلماء من الوصول إلى حقيقته بعد. وهو ناشيء من دوران الكرة الأرضيَّة حول محورها، وعلى مدارٍ معيَّن مرتبطةٌ فيهما بالشَّمس، يعني: أنَّ الأرض تجري في ذات الوقت حول الشَّمس على مدار معيَّن، إضافةً إلى جريانها حول محورها، فيتمخَّضُ عن الأوَّل المواسمُ الأربعة، وعن الثَّاني اللَّيل والنَّهار المتعاقبان، والوحدة القياسيَّة للزَّمان هي السَّاعة».
فالنَّبيّ e الذي أوتي «جوامع الكلم» لم يختر هذه اللَّفظة اختيارًا سرديًّا، وإنَّما قصدها لتدَّل على دورة فلكيَّة يتعاقب فيها «اللَّيل» و«النَّهار»، محدِّدًا «السَّاعة» التي تبدأ فيها دورتها الجديدة، بينما نجدُ من شرح «المتْن» كـ«ابن حجر» في «الفتْح» قال: إنَّ المراد من «الزَّمان»«السَّنة»، ورأى أنَّ المراد بـ«استدار»: «وقوع تاسع ذي الحجَّة في الوقت الذي حلَّتْ فيه الشّمس برج الحمل حيث يستوي اللَّيل والنَّهار».
أمَّا قوله e: «كهيتِه»: أي: مثل الحالة التي خلق الله سبحانه وتعالى فيها «الزَّمان» منذ بدء خلق «السَّموات» و«الأرض»، أي: نقطة«الصّفر»، ما يعني أنَّ هذا العام الذي حجَّ فيه e كان بداية الدَّورة الفلكيَّة الجديدة، حيث «يستوي اللَّيل والنَّهار»، وهو المعروف في علم«الفلك» بـ«الاعتدال»، حيث تكون «الشَّمسُ» عموديَّة فوق «خط الاستواء» بشكل مباشر، وفي هذا الوقت يكون طول «اللَّيل»، و«النَّهار» متساويين تقريبًا في كلِّ بقعة من بقاع «الأرض».
أي: بعدَ إضافة سنة قمريَّة كلَّ اثنتين وثلاثين سنة، عادَ «الزَّمنُ» إلى الهيئة التي خلقه الله عليها، وعادتِ «الشَّمس» و«القمرُ» إلى نقطة «الصّفر» و«التَّساوي» بين «اللَّيل»، و«النَّهار» معلنًا بداية دورة فلكيَّة جديدة e، وانتهاء دورة فلكيَّة سابقة.
وهي بلا شكَّ معجزةٌ جديدة للنَّبيّ e، تدلُّ على علمِهِ e بالفلك، ودوران «الأرض»، و«القَمر» حول «الشَّمس»، ومعرفة مواقيت الأشهر، ومواسمها، ومقدار الزِّيادة والانحراف الحاصل، ومواقيت تعديل الانحراف، وأنَّه e كان كما جرت عليه عادة العرب يعتمدُ زيادة الشَّهر المقوِّم، ولم يقلْ بإلغائه كما فهم شرَّاحُ «الحديث» الذين وجَّهوه إلى غير مراده، وأقحموا فيه معنًى لا أصل له، فلا يشير «متنه» من دون «الإدراج» إلى شيء من ذلك، فأغفلوا بذلك معجزةً من معجزاته العلميَّة والفلكيَّة e، والله تعالى أعلم.
وأتوجَّه إلى الله سبحانه وتعالى بالشُّكر، والاعتراف بفضله وإنعامه عليَّ بأنَّ وفَّقني إلى فهم هذا الحديث، وإظهار معجزةٍ من معجزات النَّبيّ e التي أغفلها الفهم الخاطئ لكلامه، ولم أجدْ أحدًا قد سبقَ إلى هذا الشَّرح فيما بين يديَّ من المصادر والمراجع.