لبنان وخريطة الخوف

الخوف المسيحي في لبنان وفي المنطقة له ما يبرره، ويجب التعامل معه بجدية. لكنّ هناك فرقا شاسعا بين فهم الخوف ودراسة أسبابه وسبل مواجهته، وبين التلاعب السياسي به وتحويله إلى ذريعة لتبرير الممارسات الطائفية. فالخوف في منطقة تعيش وسط الهول الداعشي- الأصولي الذي يريد الإطاحة بوجود الأقليات الدينية في المنطقة بوحشية، مثلما حصل في سنجار والموصل، وقد يحصل في أي مكان من المشرق العربي، مسألة بالغة الجدية، وتمس أحد المرتكزات الأساسية لمجتمعاتنا العربية القائمة على التعدد الديني والمذهبي. بهذا المعنى فإن الخوف المسيحي والدرزي في سورية ولبنان، هو صدى لإبادة الإيزيديين والصابئة في العراق، وتشريد مسيحيي الموصل وإذلالهم.

الخوف والاستعداد لمقاومة الأسوأ هو رد فعل إنساني ضروري، لكن السؤال هو كيف يترجم الخوف على المستوى السياسي؟

هنا تبرز أهمية لبنان في خريطة الخوف العربية، وهنا يجب التوقف طويلاً عند الأزمة السياسية المفتوحة التي يعيشها لبنان منذ أكثر من عام، حين ارتفع سيف مقاطعة جلسات انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وارتفعت معه أجواء شلل حكومي وسياسي، يصل اليوم إلى ذروته، مع تهديد الجنرال عون باللجوء إلى الشارع، دفاعا عن حقه في تعيين قائد جديد للجيش، سيكون صهره بحكم المصادفة، تمهيدا لفرض انتخابه شخصيا لرئاسة الجمهورية، وتسليم زعامة حزبه لسياسي شاب هو بالمصادفة البحتة صهره الثاني!

تعيدنا هذه اللحظة العونية إلى افتراض لم يعره مؤرخو الحرب الأهلية اللبنانية اهتماما، افتراض أن يكون الصراع الدموي بين قادة القبائل المارونية اللبنانية هو أحد الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية اللبنانية، ووصولها إلى محطة اتفاق الطائف، الذي جاء تتويجا لحرب داخلية مسيحية – مسيحية بين القوات اللبنانية وجيش الجنرال عون، عُرفت باسم حرب الإلغاء.

لن أعود إلى ماضي الجشع الرئاسي الذي أوصل المارونية إلى الحضيض، من انقلاب بشارة الخوري على الدستور، الذي وضعه نسيبه ميشال شيحا، من أجل البقاء في السلطة، إلى كميل شمعون وحلف بغداد الذي رأى فيه «فتى العروبة الأغرّ» وسيلته إلى التجديد، إلى انقلاب الحلف الماروني الثلاثي على الشهابية، إلى رئاسة بطل مجزرة كنيسة مزيارة سليمان فرنجية، إلى إبادة عائلة طوني فرنجية، إلى تصفية حزب «الأحرار» على يد بشير الجميل، إلى الصراع بين الأخوين اللدودين امين وبشير إلى حرب الإلغاء…

تعالوا نتجاوز هذا الماضي المبقّع بالأحقاد والدم، وننظر إلى الحاضر اليوم، علنا نرى بصيصا وسط هذه العتمة العربية واللبنانية الباهرة.

انهارت الغلبة المارونية على السلطة في اتفاق الطائف الذي أخضع لبنان لنظام مخابراتي يديره النظام السوري. انهيار الغلبة المارونية لم ينتج عنه انهيار لنظام الطائفية السياسية بل تجديد له عبر تغيير في الأدوار. والحق يقال ان انهيار الغلبة لم يأت فقط كنتيجة للتفكك السياسي والإرهاق العسكري والاجتماعي الذي ضرب «الكانتون المسيحي» فقط، بل جاء تعبيرا عن تخلي حلفاء الطائفة الغالبة الدوليين عن زبونهم المسيحي. فرست التوازنات على طائفتين: الشيعية السياسية الصاعدة المدعومة من النظام السوري والسنية السياسية المالية المدعومة من النظام السعودي. كما أن إخراج الجيش السوري من لبنان على إثر انتفاضة الاستقلال لم يعن تغييرا لهذا الميزان. فالمارونية السياسية وجدت نفسها بلا حليف دولي، وبلا حليف إقليمي بعد فشل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.

هذا هو الواقع اليوم، ولن يفيد الصراخ في تغييره. فالذي يقود المسيحيين عبر الاحتماء بقوة «حزب الله» العسكرية وإيران، سوف يبقى تابعا مهما علا صوته، مثله مثل من يقود المسيحيين عبر الاحتماء بالمال السياسي السني وبالمملكة السعودية.

مأزق المارونية السياسية يقع هنا، إما ان تتفكك أو تكون تابعة. ولا يوجد مخرج آخر، عدا عن انها يجب أن تتوخى الحذر وتتحلى بالتواضع وسط العاصفة الإسلامية التي تجتاح المنطقة.

أزمة النظام اللبناني ليست ناجمة عن العناد العوني فقط، كما يحلو لاتباع الجنرال البرتقالي تصوير الأمور، انها جزء من أزمة اللاتوازن الشاملة التي تضرب المنطقة، ومن الحرب السعودية- الإيرانية والتركية – الإيرانية التي تدور بالواسطة في سورية والعراق. وعلى اللبنانيين أن يشكروا القوى الإقليمية على حكمتها في عدم زج لبنان في الصراع المسلح حتى الآن، وان يثمّنوا انجاز نخبهم الثقافية والمدنية التي ناضلت من أجل جعل الخيار الحربي الداخلي مسألة بالغة الصعوبة.

السلاح الطائفي الذي امتشقته النخب السياسية المسيحية في لبنان بعد تأسيس دولة لبنان الكبير، كان خيانة لتراث النهضويين اللبنانيين من مؤسسي اللغة العربية الحديثة، الذين ناضلوا من أجل مجتمع تسوده المساواة والعلمانية. هذه الخيانة تحتاج إلى تحليل ونقد، لأنها ارتضت ان تلعب بالوجود المسيحي وتضعه على حافة الهاوية، عندما جعلته مرتبطا بهيمنة خارجية مؤقتة وبغلبة سياسية لم تكن سوى أداة تدمير ذاتي.

واليوم، وفي ظل نظام طائفي تجدد في الطائف، ووسط أزمة المنطقة، فإن المارونية السياسية، بسبب جشعها الرئاسي وعُظاميتها، لا تستطيع أن تلعب دور الداعية للحمة الوطنية عبر إخراج لبنان من دائرة خطر حرب الاصوليات السنية- الشيعية في المنطقة، بل تندفع وبحماقة إلى البحث عن هيمنتها الضائعة في سراب تحالفاتها مع حماتها الجدد الذين لن يحموا شيئا.

المسألة في العمق ليست من يحمي المسيحيين أو الدروز اللبنانيين والسوريين، بل كيف نحمي جميع اللبنانيين والسوريين من هذا العته الجنوني الذي صنعه الاستبداد وقفاه الأصولي.

لعبة الكراسي الموسيقية على الإيقاع الطائفي انتهت في لبنان، وخصوصا بالنسبة للمسيحيين. كل الكلام القديم الذي صاغه بولس نعمان وسعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني وفلاسفة التفوق المسيحي صار غبارا، ولم يعد له مكان في المكان. 

المسألة ليست كما يطرحها الجنرال أو كما تطرحها ورقة التفاهم مع القوات، المسألة ليست صلاحيات وتقاسما للجمهورية، المسألة هي وجود الجمهورية.

لقد جرب لبنان هيمنات خارجية كثيرة، من الفرنسيين إلى الإنكليز إلى الإمريكيين إلى الإسرائيليين إلى الاستبداد السوري إلى إيران… وجرب غلبة مارونية ثم غلبة شيعية ثم غلبة سنية… وكلها لم تبن وطنا، بل حولت بلادنا إلى خراب، وجعلتها مطية الموت.

الحل ليس في جعبة الطائفيين، وهذا الصراخ الطائفي لا يقود إلى مكان. الحل في مكان آخر، فالطوائف لا تقود الناس إلا إلى الخراب والمذابح والتلاشي. والخوف المبرر والضروري من اندثار المسيحيين العرب يجب أن يتحول إلى نضال من أجل منع اندثار العرب وثقافتهم وحواضرهم. وهذا يتطلب أولا عدم الانزلاق إلى دعم الاستبداد بحجة الخوف من الأكثرية، وتأسيس رؤية وطنية ديموقراطية جديدة وجامعة، وإعادة الاعتبار للنضال من أجل العدالة الاجتماعية.

وهذا ينطبق على لبنان أولا، لأن فيه ستكون المعركة الأخيرة والحاسمة للخروج من هذا النفق المروّع.

النظام السياسي الطائفي اللبناني فقد صلاحيته، ولكنه لن يغادر مسرح الجريمة الا حين يُطرد منه. 

وسوم: العدد 623