أمي التي
توفى أبي رحمة الله عليه بتاريخ 03 جانفي 1990، كنت حينها في السداسي الثامن من الجامعة، وهي السنة التي تخرجت فيها .
كان يقول لي دوما.. "ماظنيت ناكل دراهمك يامعمر"، وفعلا إلتحق بربه ولم "ياكل دراهمي". ومن يومها وأنا في حضن الأم، أقوم بما يقوم به الولد المطيع..
ينهض ويتعثر، يستقيم ويتلثم، يصيب ويخطئ، يرجو منها عفوها، ويتمنى لطفها، ويخشى غضبتها. تقول لي دوما..
لقد تعبت كثيرا في تربتك، لأني لم أتعلم المشي إلا وأنا إبن 04 سنوات، ثم تروي لي الأدوية الشعبية والحيل التي اتّبعتها لأجل تعلم المشي، كأن توضع أمامي سلحفاة وأجري وراءها وأنا الطفل في الرابعة.
حين ضرب زلزال الأصنام سابقا الشلف حاليا في 10 أكتوبر 1980، كنت حينها في السنة الثالثة متوسط، فتم نقلنا إلى تلمسان وبالضبط في متوسطة الكيفان عبر القطار، فظلت تنتظر القطار وتلاحقه إلى أن غادر المحطة والعين. وكانت في كل مرة تذكرني، وتقول لي.. لم أغادر المحطة حتى غاب القطار عن أعيني، وظلت تبكي لفراقي، وأنا الطفل في 14 من عمري.
في الثانوية وبالأخص سنة التحضير لشهادة البكالوريا، كانت تخصني بالرعاية الفائقة كالأكل الخاص والهدوء اللازم للمراجعة.
حين أعلنت نتائج البكالوريا، راحت تضمني إليها وكأني الطفل الذي مازال بحاجة لصدر أمه من شدة الفرح، وهي التي طلبت مني أن أدعو الأصدقاء لأقيم لهم وليمة، نتقاسم عبرها الفرح والنجاح.
وطيلة 04 سنوات بجامعة الجزائر، كنت أرسل زملائي القادمين إلى البيت، فتزودهم بالحلويات الشعبية التي تقوم هي بتحضيرها، ضف لها الملابس الجديدة التي تقوم بتنظيفها وترتيبها، ناهيك عن مبلغ مالي كان أبي رحمة الله عليه يقتطعه من قوت يومه وكسوة الأبناء وحليب الأخوة.
وفي سنة 1997 تزوجت بامرأة صالحة ذات حسب ونسب ودين وخلق، فرزقني ربي بأربعة أبناء. ظلت الأم على عهدها من الرعاية لأم الأولاد والأولاد، تسأل دوما عن غيبتهم، وتلوم الأب حين تراه قد قصّر في جنب الأبناء، وتوصيه بأن يحافظ على نعمة الولد والزوجة. أمتثل لطاعتها، وأقول للأبناء هنيئا لكم بالجدة التي تدافع عنكم وتذود عنكم.
أقول دوما لمن حولي، لا أحد لمن حولي، يغلبني ويقهرني، غير أمي التي لاأرد لها طلبا ولا أرفض لها أمرا، حتى أنّ الكثير حين يريد أن يقضي حاجته ، وهو يعلم كرهي لها وبغضي لها، يأتيني على لسان أمي فتأمر فأطيع، وأنا أعلم علم اليقين، أن فلانا هو الذي طلب منها قول ذلك وطلب تلك الحاجة مني.
حين كان أبنائي وليد وأكرم في المخيم الصيفي بالرغاية، وكانوا في المرحلة الابتدائية يومها، ذهبت لزيارتهما في الأسبوع الأول، وكنت قد نهيت الزوجة أن تظهر الضعف أمام الأبناء. وبمجرد مارأيت الأبناء لم أتمالك نفسي فأجهشت بالبكاء وبقيت على ذلك الحال إلى غاية خروجنا من المخيم.
وحين قدمت البيت وقد سبقني الخبر إلى أمي، تقول لي.. هل زرت الأبناء؟.
أجيب.. نعم.
تقول لي.. هل بكيت على الأبناء؟.
أنحني وأصمت، فيكون الصمت أبلغ من الكلام.
تجيب حينها الأم.. وأنا كذلك أبكي مذ كنت صبيا، وما زلت أبكي لفراقك وغيبتك وأنت الأب.
تودعني دوما أمام الباب حين أكون في سفر، وتعد لي قهوة الصباح بما طاب من فطور الصباح، وتغمرني بدعائها إلى أن أعود. وحين تعلم بمجيء تكون أول المستقبلين والداعين لي بالعودة والسلامة، فكانت دعواتها لي بردا وسلاما في البر والجو، وفي داخل الجزائر وخارجها.
ظلت تفتخر دوما بما أقوم به تجاهها، وتفاخر به علانية أمام كل من تلقاه، وتدعو لي ولزوجتي وأبنائي.
كانت تدعو دوما، أن يلحقها ربها وهي في بيتها وبين أبناءها وبناتها، فكان لها ماأرادت وتمنت. وكنت أخشى ماأخشاه أن يصيبها مكروه وأنا في زيارتي للمغرب، التي أجلت الزيارة لأجلها بسبب النزيف الذي أصابها.
كانت لاتخرج من البيت إلا معي، أحملها للمكان الذي تريد، ثم أعود فيما بعد لأحملها إلى البيت. ولا تستطيع الغياب طويلا فتعود على الفور، أو تقطع الزيارة شوقا للبيت والأبناء والدفء والرعاية.
أكرمني ربي بأن بقيت معها طيلة حياتها في بيتها، واستلم أمانته من بيتها. وأختم المقال بما كتبته البارحة على صفحتي..
يارب .. لك الفضل حين أكرمتنا ووهبتنا.. منزلة عندك..
حين أمرت "..إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا.." الإسراء - الآية 23..
وبعد أن استلمت أمانتك.. وأخذت ماعندك لعندك.. فارحم أمي عندك.. وأنت خير الراحمين.
وسوم: العدد 623