العقل السياسي الإيراني المعاصر(5)
(مفاهيم الفكر ومصطلحات الثورة)
القسم الثاني
11ـ دولة المستضعفين العالمية:
إن العناية الإلهية قضت بأن تتولى (إيران) مسؤولية إقامة الدولة الكونية الفاضلة لعموم شعوب وأمم العالم، وأنها (أي إيران)، لا غيرها أو سواها من يتولى تحرير الشعوب المستضعفة ومعذبي الأرض جميعًا، لإقامة العدل الإلهي في أرجاء البسيطة. “إن وعد الله بإقامة حكومة المستضعفين العالمية وعد حق”!! (15).
12 ـ السلام الاستكباري:
تردد أجهزة الإعلام الإيرانية في كل ساحة وميدان (أن النظام سيستمر في مواصلة الحرب ضد العراق، وأن الجنوح إلى السلام عمل استكباري) (16). ولذلك صممت ولاية الفقيه موقفها وخططها الميدانية، وحاولت على مدى ثماني سنوات أن تجعل من (الحرب) ظاهرة مقدسة، وطقسًا يوميًّا وبهذا المنهج الفاشي، أيقظت غرائز وشهوات القتل والتدمير والإبادة لدى جندها، وفي تعبئة السذج والبسطاء وحتى بعض الشرائح من المتعلمين والمثقفين ضد السلام، وعدت المطالبين بإيقاف الحرب كفارًا مرتكبي كبائر تطبق بحقهم عقوبة الموت بعد أن خرجوا من الإسلام ودخلوا دائرة الكفر. ومن هنا فإن إيران ستواصل عملياتها العسكرية على كل جبهات المواجهة مع العراق (17)، ولن يثنينا عن عزمنا في التقدم إلى أهدافنا، مهما بلغت التضحيات وسالت الدماء، فليس ثمة طريق أخرى أمامنا، سوى مواصلة الحرب حتى النهاية !! (18).
13 ـ صلاحيات الولي الفقيه:
ينص الدستور الإيراني على صلاحيات “المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية”(19).
ـ القائد الأعلى للقوات المسلحة.
ـ تعيين الفقهاء المراقبين على صيانة الدستور والقوانين التي يسنها مجلس الشورى.
ـ تعيين أعلى سلطة قضائية في البلاد.
ـ نصب وعزل رئيس أركان الحرب.
ـ نصب وعزل قائد الحرس الثوري.
ـ صلاحية تعيين أعضاء الدفاع الوطني.
ـ تعيين قادة القوات المسلحة الثلاثة (الأرض، والجو، والبحر).
ـ إعلان الحرب وعقد الصلح.
ـ تنفيذ رئاسة الجمهورية.
ـ عزل رئيس الجمهورية إذا اقتضت مصالح الأمة.
ـ العفو عن المحكومين.
14ـ عاصمة الله:
واحدة من الصفات التي أطلقها الخميني على إيران (عاصمة الله) الفردوس الإيراني:
إذا كان (مفتاح الجنة) واحدًا من صكوك الغفران، فإن الضمانة النهائية لدخول (الفردوس)، والإقامة الأبدية في رحاب السعادة الأبدية يقضي تحقق شرط الإيمان بـ(ولاية الفقيه)، والعمل من أجل تمكينها في الأرض ونشر حاكميتها المقدسة في ربوع العالم، والقتال حتى الموت تحت علم مرشدها، وبغير إنجاز هذه المهام نظريًّا وعمليًّا، فإن (الجحيم) هو (المأوى)، وهو المنهج الذي توثقه كلمات المرشد وأحاديثه عن (الحرب)، التي كان على رأس أهدافها تصدير فكر ولاية الفقيه إلى العراق والبلدان المجاورة الأخرى، فليس ثمة ما يورق الشجرة إلا الدم الجاري، ففداؤها النجيع القاني بوصفه الزيت الذي يوقد منه كوكب الثورة…”. (20)
15 ـ الفقيه:
طبقًا لنصوص (الولاية)، فالفقيه في رأي الخميني وبموجب اعتماداته الفكرية التي بسطها في كتاب (الحكومة الإسلامية)– هو (خليفة النبي صلى الله عليه وسلم)، بعد الأئمة(204)
وحاكميته الدينية، والسياسية، تفوق سلطة الاثنين معًا، (النبي والأئمة)، فالفقيه يتولى النيابة العامة، التي تتجسد فيها ولاية الأمر، وكافة المسؤوليات الناشئة عنها.
وبهذا التصور الكلي، لدور الفقيه، ومفهوم الولاية، تصبح الحاكمية، رسالة (إلهية) مستمرة في الزمان والمكان، يتولى الفقيه فيها صلاحيات النبي (ص)، وعليه القيام بالمهام ذاتها، باستثناء (الوحيّ والتبليغ)، ليس بصفة الحاكم الأعلى للدولة فقط، وإنما لكونه نائبًا عن الإمام الغائب في تنفيذ الأحكام، فهو يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي ص، .. إزاء ذلك يتوجب على المسلمين كافة أن يسمعوا لولي أمرهم ويطيعوه. ولتوضيح مقام الولي الفقيه نورد المعادلة الآتية:
أولا ـ الله– النبي– الإمام المهدي– الفقيه.
1ـ الله (موجود، باق، ثابت).
2ـ النبي (ص)- رحل بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
3ـ الإمام الثاني عشر (غائب).
4ـ الفقيه (موجود، قائم).
ثانيا . تصبح المعادلة على النحو الآتي:
1ـ الموجودان هما: (الله والفقيه).
2ـ الغائبان هما: (النبي) المتوفى و(الإمام المستور).
3ـ إذن ليس ثمة إلا الله والفقيه.
4ـ وهذا يعني أن للفقيه، في ضوء المعادلة الآنفة، خصائص (فوق بشرية)، مفارقة للنسبية والقياسات الجزئية، بصفته حامل الكمالات الإلهية، فهو:
أ ـ مستودع العلم الكلي
ب ـ سليل نور النبوة.
ج ـ الموصوف بعصمة الأئمة.
من هنا، فليس ثمة من وسيط بين (المطلق والنسبي)، وعندها يصير الفقيه ظل الله الممدود في الكون ونائبه المفوض في الأرض!
16 ـ الولاية العامة :
أـ (الولاية العامة) أو (النيابة الكلية)، التي اعتمدها الفقيه الإيراني وتمسك بها، وجعلها بمثابة (النظرية السياسية) للدولة الإيرانية عقب الثورة، هي في رأي كبار العلماء ورجالات الحوزة العلمية، ليست في حقيقتها إلا تأويلا لجأ إليه بعض الفقهاء في وقت سابق من القرن الثامن عشر وحاول إسماعيل الصفوي اللجوء إليها لأغراض سياسية محضة لا مجال هنا لذكر أسبابها وتفاصيلها.
ب ـ (الولاية) في الأصل ولدى فقهاء الإمامية تقتصر على القضاء والفتوى، والولاية على الصغار دون ولاية (الحكم). بعبارة أخرى (ولاية خاصة).
ج ـ طبقًا للمتون الإمامية ومصادرها الموثوقة، فإن أغلب الفقهاء لا يجيزون قيام الحكومة أو (دولة العدل) في غيبة الإمام المهدي، وإن الثابت لدى هؤلاء الفقهاء هو (انتظار) ظهوره؛ لأنه وحده المعني بإحقاق الحق، الذي يضع حدًّا لاضطراب ميزان العدل، فيتم العدالة، وينهي الظلم، ويملأ رحاب الأرض عدلا ورحمة، ويذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك، إذ يعدون من يسعى إلى إقامة (الحكومة) على النحو الذي بسطه الخميني في الولاية العامة، يعدون ذلك تجاوزًا على قاعدة الإمامية، واستلابًا للدور المنتظر الذي لا ينهض به إلا صاحب الزمان. وأن ما يقوم به دعاة الولاية العامة، ليس إلا التفافًا على الأصولية الإمامية، وتخطيًا لمحدداتها التقليدية.
د ـ الصلاحيات شبه المطلقة للفقيه التي نص عليها دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية أحدثت وضعًا سياسيًّا (كليًّا)، عده بعض قادة التجربة الإيرانية، (منتظري، شريعتمداري) ضربًا من الديكتاتورية الفردية، بعد أن استلب الفقيه (بموجب الدستور)، صلاحيات رؤساء السلطات الثلاث. فيما كان الرأي لدى هؤلاء أن صلاحية الفقيه تقتصر على الإشراف والتوجيه.
هـ . ثمة منابر فقهية في إطار المؤسسة الدينية ذاتها، وقوى سياسية خارجها، بدأت منذ السنوات الأولى للثورة، تحاول إعادة قراءة وتفسير تجربة الولاية، بعد أن اصطدم النظر بالواقع، وأصبح التناقض ناتئًا وغليظًا بين النظر والعمل، وعليه فإن الرؤى الدينية والسياسية توزعت على القراءات الآتية:-
(1) ـ قراءة الولاية العامة التي تحظى بتأييد القوى والأحزاب الدينية المحافظة، وهي قراءة ثيوقراطية محضة، تتجاهل عن عمد وإصرار وجود اجتهادات خارج دائرة الولاية المطلقة، وترفض (التعددية) السياسية، أيًّا كان لونها أو طيفها الأيديولوجي.
(2) ـ قراءة عقلانية نسبيًّا، تحاول إعادة ترتيب هيكلية صلاحيات (الولي الفقيه)، بحيث تقتصر على (الدور الأبوي) –الرعاية، والتوجيه، والإشراف- وأصحاب هذه القراءة يتمسكون بـ(التجربة الدينية)، وتتسع صدورهم إلى حد ما، للتنوعات السياسية، بشرط إقرار شرعية الحكومة الإسلامية.
(3) ـ القراءة الثالثة، ترى أن (اليسار الديني) يمكن استيعابه وقبوله في صفوف القوى الوطنية، وأن الطريق المتاح أمام إيران صوب المستقبل هو تخليها عن الأيديولوجية الدينية، وإقصاء الهياكل والذيول الإدارية والقيادية التي أحدثها الخميني، منصب (الولي الفقيه) بصفة خاصة، وما يتصل به ويرافقه من الطابع الثيوقراطي للسلطة.
17 ـ اللغة العربية:
أ ـ نصت المادة (16) السادسة عشر من الدستور الإيراني، على وجوب تدريس اللغة العربية في المرحلة الثانوية، “بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية، وأن الأدب الفارسي يمتزج معها بشكل كامل، لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية، حتى نهاية المرحلة الثانوية، في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية”.
ب ـ أشارت دراسة ميدانية أعدها الباحث مجيد عبدالله عن واقع اللغة العربية في إيران، التي نصت عليها المادة الدستورية السادسة عشر- إلى:
(1) ـ إن اللغة الفارسية بصفتها، لغة رسمية في البلاد هي اللغة الدراسية الوحيدة للعرب في الأحواز، وشأننا في هذا الأمر كشأن الفرس دون أي تمييز.
(2) ـ إن اللغة الفارسية تهيمن هيمنة مطلقة، وبدون أي رادع على جميع العلاقات السياسية والعلمية والثقافية والدراسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من العلاقات في مجتمعنا العربي، وفي مقدمة النقطتين المذكورتين.
(3) ـ إن شعبنا لم يمنح حقوقه القومية، ولم يفسح أمامه المجال الرسمي ليمارس حرية العمل في ما يتعلق بشؤونه القومية، بما في ذلك: عدم إتاحة المجال له لدراسة لغته والقيام بالتعبير عن حضوره العربي، كواقع تاريخي إن هذا القمع الثقافي كان قد بدأ منذ عهد النظام البهلوي، ابتداءً من رضا شاه، وختاما بابنه، حيث ركّز هذا النظام القمعي سياساته الغاشمة على طمس الهوية، والعمل على القضاء على الوجود الثقافي عن طريق استئصال اللغة بوصفها أداة التواصل في المجتمع، وقد جهد نظام الجمهورية الإسلامية على تحقيق مشروعه العرقي بشتى السبل والأساليب، منها:
ـ إبعاد كبريات القبائل والطوائف إلى طهران ومازندران وتفريس المدن العربية في الأحواز، ونشر الفارسية لغة وثقافة بين المواطنين العرب.
ـ إنشاء المدارس في المدن والأرياف لا من أجل نشر التعليم، بل من أجل دعم سياسته البغيضة. وإذا كان الشاه قد حاول من قبل فرض سياسة التفريس بأساليبه القمعية، فإن ولاية الفقيه تجاوزت أساليب الشاه التقليدية وابتدعت منهجًا منظمًا يقوم على إرغام المعلمين والمدرسين والموظفين العرب على ترك مدنهم العربية والتوجه إلى مدن نائية خارج الإقليم العربي. لم يكتف النظام الإسلامي بذلك، بل يعمد بكل أدواته العرقية على انتزاع عروبة المدن الإقليم العربية؛ الأحواز والخفاجية والبسيتين والحويزة ومدن أخرى.
18 ـ المحاكم الثورية:
أ ـ من المؤسسات التي تم استحداثها في أول يوم للثورة، بعد أن قرر الخميني، عدم أهلية الجهاز القضائي في النظام السابق، وأنه لم يعد صالحًا للقيام بواجباته في ظل التجربة الثورية، ولأنه كان وسيلة بيد الملك ويعمل بإمرته وحسب أهواء رؤوس السلطة الشاهنشاهية، الأمر الذي يجعله فاقدًا للأهلية في إنفاذ القانون وتحقيق العدالة.
ب ـ باشرت محاكم الثورة أعمالها بمحاكمة الآلاف من مسؤولي وموظفي النظام القديم، من مدنيين وعسكريين، ووجهت إليهم تهم الفساد والرشوة، وسلسلة طويلة من الأفعال الذميمة ضد الشعب والإسلام والإنسانية.
ج ـ بسبب المحاكمات العجولة، والإجراءات السريعة غير القانونية، تحولت المحاكم الثورية إلى (مجازر) بالغة البشاعة مما أثار الرأي العام في إيران ، فبادر إلى الاحتجاج معتبرًا وجود هذه المحاكم من أسوأ المستحدثات في تاريخ البلاد، بعد أن ألحقت بالقائمين عليها، الكثير من الشبهات، وأن عددًا غير قليل من الحكام الجدد الذين نصبتهم الثورة للقضاء هم أنفسهم متهمون بسوء السلوك والسمعة، وعليه يجب إيقاف المذابح اليومية احترامًا للقانون.
د ـ حاول قادة الثورة تبرير تطرف الحكام في اختزال الإجراءات القانونية والسرعة المتناهية في تنفيذ الأحكام، بدعوى (وجود مؤامرة) مستمرة ضد النظام تارة، وبزعم تراخي حكومة بازركان المؤقتة، على أن الأمر الأكثر غرابة هو البيان الحكومي الذي زعم أن أبناء الشعب قد أيدوا هذه المحاكم، والتي أخذوا عليها تقاعسها وتردد بعض قضاتها؛ لأنها لم تظهر الحزم اللازم في إصدار الأحكام ضد أولئك الذين كانوا شركاء لجزاري الشعب ومستعبديهم القساة! ويزعم هؤلاء المسؤولون أيضًا “.. أن هذه المحاكم لا تزال تقوم بأداء مهمتها ضمن الجهاز القضائي، ووفق الشريعة الإسلامية، ودستور الجمهورية الإيرانية”! (21)
19 ـ مفتاح الجنة:
من بين المثيرات العاطفية في برنامج لجان التعبئة العسكرية هي إثارة غريزة القتل لدى الصبية والمجندين المتطوعين؛ حيث لجأ موظفو التعبئة إلى وضع (مفتاح معدني) حول رقاب هؤلاء البسطاء، فإذا مات أحدهم أو قتل أثناء العمليات الحربية فإن هذا المفتاح يضمن له بيتًا في الجنة. ورغم تفشي هذه الحيل السوداء طوال السنوات الأربع الأولى من الحرب، فإن من الضروري الإشارة أيضًا إلى أن مروجي هذه الخرافات لم يعدموا وسيلة في تغذية جبهات الموت، بما في ذلك استخدام القوة والإكراه.
20 ـ مفهوم الحرب:
ماذا تعني الحرب في عقل مرشد الثورة، وولي أمر المسلمين كما تصفه نصوص دستور الجمهورية الإسلامية؟
الحرب في اعتقاده ورأيه (من الهبات الإلهية) وأنه يراها (حربًا دائمة مستمرة منذ آدم، وستبقى حتى نهاية الوجود). ويذهب إلى حد القول (بأن المذهب الذي لا قتال فيه مذهب ناقص)؟!
(نحن رجال حرب.. إن كفاحنا عقائدي)؟!
إن النصوص الآنفة ومئات مثلها نحو (الحرب الإلهية، وحرب الحق ضد الباطل.. وحرب الإسلام في مواجهة الكفر، أمور لها معنى واحد في فكر قادة الثورة الإيرانية، وبصفة خاصة الخميني ورفسنجاني وخامنئي.. وهو (حلم) تصدير تجربة ولاية الفقيه، ليس فقط للعراق وإنما لعموم الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل وينصرف الحلم إلى (الدول الحليفة) أيضًا.
سوف تستمر طبقة رجال الدين المهيمنة في سيرها على خطى هذه السياسة ما دام (المرشد) حيًّا، وقد تحصل بعد رحيله بعض الإصلاحات الطفيفة على هذه المواقف المتطرفة التي جعلت إيران منبوذة دوليًّا، عندها قد تتاح الفرصة أمام العقلاء منهم لإعادة النظر في ماهية الأحلام التوسعية، فيعيدون فحص الوقائع الثابتة وفي مقدمتها احترام خيارات الأمم في تجاربها الوطنية، والالتزام بالمعايير الإسلامية التي تحض على توقير الآخرين، بموجب حرمة (الجيران).. وبهذا فقط يعود الوعي الحقيقي ليكتشف هؤلاء أن شن الحروب هي أسوأ الخيارات، وأنها (وسيلة) قاهرة، تغذي الكراهية بين الشعوب، وأنها في كل الأحوال أسلوبًا عقيمًا في التعامل مع الدول، وأن السلام هو الجوهر الثابت.
وإذا كان الفقيه الإيراني، قد عد الحرب من الهبات الإلهية وفق منظوره الأيديولوجي، فإن العراق من جانبه اعتبرها (استثناءً) رغم كونه مدافعًا عن سيادته الوطنية.. وظل يؤمن ويعمل وينادي بالسلام الذي هو الخيار الأول، لكل ذي عقل وبصيرة.
ولعل رسائل السلام التي بعث بها الرئيس صدام حسين إلى إيران وشعبها، تبرهن على وعي العراق بمسؤوليته الوطنية والإنسانية معًا، والتي دعا فيها إلى ضرورة إيقاف نزيف الدم بين الشعبين الجارين. وأن على إيران أن تؤمن بأن العراق كما إيران، له تجربته الخاصة به، التي يفترض احترامها والتعايش بأمن معها.
21 ـ مقابلات مع الله:
عقب الهزائم العسكرية المتتالية التي منيت بها الجيوش الإيرانية في جبهة الحرب، والتي تصاعدت معدلاتها بعد شهر تموز – يوليو 1982، وبسبب عزوف الكثيرين عن القتال وانخفاض معدلات التطوع، بادر جهاز التعبئة والإعلام العسكري إلى اصطناع جو مسرحي- تاريخي، شمل قطاعات واسعة من القوات المتركزة على خطوط القتال؛ حيث أصبح من واجب هذا الجهاز، اللعب بالعواطف وقطع العهود والوعود، كزيارة الإمام الثاني عشر، و(مقابلات مع الله) واستعمال عبارات مثل: (إطلاق الروح من الجسد) وسط جو من (الدعوات والتهليل).. وبهذه الوسائل أيضًا يغذي القادة الإيرانيون جبهات الحرب بمجموعة تلو الأخرى من الصغار فوق حقول الألغام.
وليس هذا فقط، بل روج جهاز التعبئة كلمة الخميني القائلة بأن (الإمام المنتظر يطوف على امتداد قطاعات المواجهة المسلحة ضد العراق، قد ظهر على حصان أبيض، يتولى إرشاد الجيش إلى طريق الجنة).. وأن المرء يستطيع أيضًا أن يرى (الله) متجليًا على طول الجبهة فبهذه الطريق اللاعقلانية التي تقوم على التجسيم والتشبيه وعن طريق الإيحاءات المتوهمة تواصل ولاية الفقيه الحرب وفصول الموت عبر استثمارها غير المعلل للرموز الدينية على نحو ذميم مجافٍ للعقل.
22 ـ مملكة الله الكبرى:
مصطلح أضفاه الخميني على جمهورية 11 شباط 1979، إذ عدّها نواة أولى لقيام الدولة المنتظرة.”.. إن دولة الإسلام لا يمكن أن تتحقق إلا بقيام مملكة الله الكبرى، التي ينبغي أن يعرف الجميع، حدودها، فهي تبدأ من (إيران) وتمتد جنوب المغرب حتى إندونيسيا”(22)
بعبارة أخرى استعادة خارطة الدولة الإسلامية، على النحو الذي صممته القيادة الإيرانية الجديدة، والتي تقع في المنطقة (الخضراء)!، وتمثل المرحلة الأولى من عملية (تصدير الثورة)، ثم يلي ذلك، أي عقب (المرحلة الخضراء)، العمل تجاه المنطقتين الأخريين وهما، (الحمراء) و(السوداء).
وتعني الأولى: الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية الأخرى.
أما السوداء: فتشمل الولايات المتحدة، وعموم أوروبا الغربية.
وإذا تم تنفيذ المرحلتين تحت لواء ولاية الفقيه، تنهض (مملكة الله العالمية الكبرى).
23 ـ النذير المباشر:
صفة أطلقها الخميني على ثورة 11 شباط 1979، من خلال اعتماد قياس (موضوعي) زائف، إذ جعلها تماثل البعثة النبوية، رسالة، ومهام، وأدوارًا، فمنحها بُعدًا إلهيًّا (مطلقًا)، إذ إنها تعني طبقًا لقياسه، الفصل بين الكفر والإيمان والبديل الجديد للرسالة المحمدية، باعتبارها معنية بوضع نهاية التاريخ الإنساني والبدء بدورة التقويم الأخروي، وحسابات ظهور (المخلص).
24 ـ الولاية الإلهية:
مصطلح اتخذه الخميني للدلالة على إيمانه، بأن ولاية الفقيه، ولاية دينية إلهية، ويقول: “أن الله جعل الرسول (ص) وليًّا للمؤمنين جميعًا، ومن بعده كان الإمام وليًّا، ونفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه، وأن الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية.. وينبغي للفقهاء أن يعملوا فرادى ومجتمعين من أجل إقامة حكومة شرعية.. وفي حالة عدم إمكان تشكيل تلك الحكومة، فالولاية لا تسقط، لأن الفقهاء قد ولاهم الله.. وليس العجز المؤقت عن تشكيل الحكومة القوية المتكاملة يعني بأي وجه أن تنزوي، بل التصدي واجب. وهو يحصر الحق في إقامة الدولة في (عصر الغيبة) في الفقهاء فقط، ويقول:
“الفقهاء العدول وحدهم المؤهلون لتنفيذ أحكام الإسلام وقرار نظمه وإقامة حدود الله، وحراسة ثغور المسلمين، وقد فوّض إليهم الأنبياء جميع ما فُوض إليهم وأتمنوهم على ما اؤتمنوا عليه”.
25 ـ الولاية المطلقة:
إيمان الامام الخميني بأن ولاية الفقيه مستمدة من الله، طرح بعد حوالي عشرة أعوام من إقامة (الجمهورية الإسلامية في إيران) نظرية (ولاية الفقيه المطلقة) التي لا تحدها حدود، وجاء في رسالة له إلى رئيس الجمهورية: “أن الحكومة حسب رأي الباحث أحمد الكاتب، التي تعني الولاية المخولة من قبل الله إلى النبي الأكرم (ص) مقدمة على جميع الأحكام الفرعية الإلهية.. ولو كانت صلاحيات الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام (ص) وأن تصبح دون معنى.. لا بد أن أوضح: أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. وأن باستطاعة الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة، وأن يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار ولا يستطيع أن يعالجه من دون التخريب. وتستطيع الحكومة أن تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب، إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام. وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام، ما دام كذلك. وأن الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتا وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي -إذا رأت ذلك- أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية”
وكانت هذه الرسالة تطورا كبيرا في نظرية: (ولاية الفقيه) باتجاه الشمولية والإطلاق، وقفزة كبيرة في توسيع الولاية، وهي تتحدث عن صلاحيات مشابهة لصلاحيات الرسول الأكرم والأئمة المعصومين، للفقيه بحكم منصب الولاية والسلطان. وقد توصل الخميني إلى ذلك بالجمع بين نظرية (النيابة العامة) ونظرية (ولاية الفقيه) وتطويرهما بحيث تصبحان نظرية واحدة مطلقة.
وسوم: العدد 624