إرادة شباب الثورة المنتصرة بوطننا السوري
لعلّ ثوراتِ الربيعِ الإسلاميّ محطةٌ فارقةٌ في التراث الإنساني الثوري، فأبناء هذه الثورات استخدموا التكنولوجيا العصرية في قيادة حراكهم الشعبي، وأصرّوا على سلميّتها، فلم يستخدموا العنف في فترة نضوجها، وأبرزت هذه الثورات استجاباتها للاستحقاقات التاريخيّة التي تجسدت في سلوك ووعيّ شبابها البعيدين عن الإيديولوجيا، بل اتجه مسارها نحو الفعل السياسي والسلوك الموائم لطبيعتها، وقدكشفت هذه الثورات زيف برامج تيارات الفكر السياسي العربي وهزال قياداته وقزمية أحزابه التي لم يعرف تاريخها الممتد حتى نهايات عام 2010م إلّا تضليل شعوبها واشتراكًا في جرائم أصحاب السلطة؛ كمااتسمت هذه الثورات بالتلقائية المتساوقة مع إدراك الفاعلين بها للمتغيرات على الصعيد الكوني، لاسيما على صعيد الثورات العلمية المتلاحقة وتطلعات الكثير من مؤسسات المجتمع المدني في الدول المتحضّرة لبناء مجتمع إنساني أكثر عدلًا ومساواة وإنسانيّة.
والأهمّ، من كل ماسبق ذكره، أنّ فعالية هذه الثورات النشطة كانت في أوساط أهل السنّة، الذين أقصاهم الغرب الرأسمالي، في عهد الاستعمار الغربي، وحاول تهيمش دورهم في بناء وطن يحمل هوية مميزة تتواءم مع تاريخهم كأهل لهذه الأوطان دافعوا عن وجودها ضد الغزوات الخارجية الصليبية والمغولية والتتارية وغيرها وتمكنوا من إلحاق الهزائم بها، وبكلّ من مدّ يد العون لهؤلاء الغزاة من أبناء الإنتماءات الأوليّة الذين يعلون من شأن قبائلهم وطوائفهم وإثنياتهم على حساب بناء الوطن، ثمّ مكّن الغرب الرأسمالي أقلياتٍ بالهيمنة على الجيش والسلطة السياسية والفعاليات المجتمعية والإقتصاديّة، فعاثوا فسادًا وقهروا وقتلوا وهجّروا كل من عارضوهم، حتّى تشكّلت الأغلبية المهمّشة من أهل السنّة والمتضررين من كلّ مكوناتِ وأبناء الوطن السوري.
إنّ الأغلبية المهمشة، حتّى من المؤسسات التعليمية الحديثة التي كان يشرف عليها الأوروبيون، لجأت للعلوم الشرعية والشيوخ المعادين للتقدم، واستدعت الماضي تبحث في تجارب السلف عن حلول لمشاكلها، واستندت في تكوينها المعرفي على تحقيق النصوص المظلمة في مراحل نكوص الحضارة العربية الإسلامية من دون إخضاعهالوعيّ الحركة الحداثيّة ومناهج البحث العلمية الحديثة، حتّى انتشرت مظاهر الجهل وسادت مفاهيم الغيب، وانطوت أكثرية شعوبناعلى تديّن أقرب للدروشة والقبول بالقدرية والتصوّف الشيعي الغنوصي.
جاءت ثورات الربيع العربي الإسلامي لشباب هذه الفئات المهمّشة لتحطّم البنى المتخلفة، وتعيد التفكّربمفاهيمها القروسطية أولًا، لتكسر قوقعة أهاليهم المتكلّسة حول فكر ماضوي متماوت، ولأنّ جلّ من شارك بها من الشباب والنساء، فقد ترفّعوا عن السلطة وأهملوا الأحزاب السياسية السائدة، ورفعوا أصواتهم التي عانقت السماء مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة، رافعين شعار الدولة المدنية الديمقراطية، المستلهم من تجربة الرسول الأعظم، والمستند لمفاهيم معاصرة تسود أحوال التقدم الحضاري الذي يتوسع ويتجدد.
على الرغم من استحالة وقف عجلة التاريخ، فإنّ قوى الثورة المضادة المتمثلة بالطائفيين الدينيين والعسكر والتنظيمات التكفيرية، والشبيحة والبلطجية، واحزاب الفكر السياسي العربي المتماوت وبؤر الفساد، الذين يمثلون أركان أنظمة السلطات السياسية القديمة لاقت تشجيعًا من الدول الغربية بإعادة تمكين دعاتها بالسلطة،(علويون في سوريا، وفرع البعث الأوجلاني لدى الأكراد، وحوثيون في اليمن، عسكر في مصر، إلخ...) الذين أطالوا عمر هذه الثورات، وأجبروا شعوبها على دفع المزيد من التضحيات والخسائر، ولكن هذا لن يغيّر من فعالية هذه الثورات على المستوى التاريخي، فشعوب هذه الأوطان شقّت دروب الحرية والتحضّر الإنساني، وأدركت وعيها بمصائرها، وغيّرت سلوك المشاركين فيها، بانتظار دفن السلطة – الجثة، المتفسخة، ومن يتملقها تحت الثرى.
إذا كانت إرادة النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تمكنت من تحييد فعل شباب الثورات في مصر وتونس واليمن وليبياعن طريق تمكين أنظمة الحكم القديمة، محاولة استعادة هيمنتها على مقدرات هذه الشعوب، وذلك بإقصاء هؤلاء الشباب بالقتل والاعتقال والتهجير والتجويع وزرع الفتن وإشعال نار الطائفية البغيضة، فإنّ هذه الأنظمة أعجز من أن توقف عجلة التاريخ التي تحركت، والتي تستعد من جديد في مصر وتونس واليمن وليبيا ولدى كلّ شعوب المنطقة لاستئناف فعل الثورة نحو التغيير، أسوة بالثورة السورية العظيمة التي أفرزت قيادات شابّة تمكنت من الاستمرار بالثورة مستفيدة من كل ما هو متاح لها لإعلان سقوط نظام أفرغ كل وسائله لقهر إرادة الثوار مستعينًا بالنظام الدولي والإقليمي والمجاور، مستخدمًا كلّ ما يمكنه استخدامه من صواريخ بالستية وطائرات حديثة وبراميل عمياء وأسلحة كيميائية إلخ ...، متواطئًا مع هجمات التحالف الدولي وخادمًا وضيعًا لتطلعات إسرائيل في تفتيت المنطقة، والأبشع دفعه للفتنة الأهلية، وتشكيله لميليشات من الشبيحة والمرتزقة مع أسوأ نماذج الطوائفية في سوريا ولبنان والعراق وإيران لاستخدامها أدوات رخيصة لتحقيق مآربه.
الآن، يتقدم ثوّار سوريا على جبهات القتال، بعد أكثر من أربع سنوات مضت، قدّموا بها أنصع صفحات الكفاح ضد نظام ساقط على مستوى كلّ المستويات التاريخية والجغرافية والسياسية، ففي الشمال حققوا انتصارات في إدلب وجسر الشغور، وفي الجنوب سيطروا على اللواء52 ويهددون الكثير من مواقع النظام وأيضًا في القنيطرة، وكل شمال سوريا، وحصارهم لمدينة دمشق تأهبًّا لمنع همجية السلطة من تدميرها، غير مبالين بالرايات المشبوهة المرفوعة، ولا بالجماعات الغريبة عن نسيج المجتمع السوري الذي ينطوي على إسلام وسطيّ معتدل؛ فالمقاتلون الحقيقيون هم شباب سوريا البواسل الذين يحملون السلاح لإسقاط الطغاة الفاسدين الطائفيين، استعدادًا لتطهير سوريا من كلّ الدعوات التكفيرية المشبوهة والشروع ببناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تحمل روح الدين الإسلامي المستلهمة من تجربة الرسول الأعظم،والقاضية بمجاراة العصر بكل منتجه الحضاري تمهيدًا للحاق بركب الحضارة الإنسانية والمساهمة في نتاجها بطريق معاصر مختلف يحمل هوية شعوب المنطقة، عبر قراءة متجددة لتراثها الثري والفاعل على المستوى الكوني.
إن هذه الثورة العظيمة لا تكنس دعاوى الفكر السياسي القديم وتهدم مرتكزاته فقط، بل تؤسّس لعلاقات بين كلّ أطياف المجتمع السوري تقوم على أسس جديدة عبر تجديد العقل السياسي وفقًا لآليات فعل جديد يرتكز على إعادة العلاقات الحاكمة لأسئلة التأسيس بين الفكر والواقع، وبتخليص الفكر من طبيعته التزييفية التي تقوم على الأوهام والتضليل، بعدّ الوعي محدّدًا لحركة التاريخ والواقع وتبني المعرفة المطلقة التي تصرف الذهن عن الواقع الحقيقي وتخفيه فتستحيل عائقًا لإدراك مستحقّاتالثورة ودراسة مشكلات المجتمع.
لابدّ أولًا من قراءة وفهم الحياة المعيشة بصفتها محدّدة الوعي لمصائر البشر وخلق نصوص جديدة تتناسب مع حياة حرّة كريمة، أو تأويل النصوص القديمة لتشكّل دافعًا للحياة السويّة وليس للموت والمقابر. إنّ من البلاهة أن يُشتغل على استدعاء نصوص معبّرة عن إيديولوجيا سابقة لوجود الناس، إن كانت دينية أو فلسفية، بغية معالجة واقع راهن أس تفسيره هو تطلع الناس لمستقبل مختلف عن مبيقات الحاضر، وهذا يستدعي خطوات عملية أهمها:
- إقرار أحزاب وتجمعات التيارات السياسية القديمة، القومية والشيوعية والليبرالية والاشتراكية والدينية، بإفلاسها أمام حركة التاريخ المعبَّر عنها بهذه الثورات، والسعيّ للإندماج مع تطلعات وسلوك شبابها ونسائها الذين لم تتوقف محاولات أعداء الثورة والتاريخ من إقصائهم عن الفعل، وهم يأبون التراجع عن طموحات ثوراتهم بجموح قلما تلقاه في تراث وتاريخ الثورات.
- مراجعة الأقليات لسياسات سابقة رعناء، قام بها شيوخها وسفهائها الفاسدين باعتمادهم على قوى خارجية ادعت ولاتزال تدعيوتتاجر بشعارات حماية الأقليات المرفوعة منذ القرن التاسع عشر حتّى الآن، بل قبول الإندماج بالمشهد الإسلامي السنّي الأكثري الذي يضفي على المشهد المجتمعي أبعادًا تاريخية وسياسية وجغرافية تمثّل عتبات ضرورية لبناء وطن حرّ يضمن حقّ المواطنة لأبنائهويمنحالمعطى الثقافي المهيمن رسم درب للمعاصرة الراهنة يحمل ملامح هوية جديدة ومغايرة.
- البدء بتحطيم البنية المجتمعية المتخلفة لأهل السنّة المحشوّة بأوهام تتعلق باستدعاء نصوص السلف للخروج من الإشكاليات المستعصية التي تتعرض لها الأمة، والتخلّص من ترهّات أهل العلم السلفيين المضلّلين لشباب الوطن وإرسالهم للقبور والموت بدلًا من توجههم نحو المستقبل بغية بناء وطن لكل السوريين.
تزداد أصوات جديدة من داخل الطوائف والإثنيات للإندماج مع أهل السنّة والجماعة ليتاح لشبابها الثائرين قيادة سوريا جديدة تكون نبراسًا للعالم الإسلامي برمته على درب الحرية والكرامة، في بناء دولة تحمي السلم الأهلي والعيش المشترك بظل نظام ديمقراطي تشاركيّ، لا مركزي، يتيح تطوير هويات أبناء الإنتماءات الأولية لينسجم مع مفهوم الوطن الحر المنفتح على جواره العربي والإسلامي، وعلى المواطنة المسؤولة أمام القانون والدستور الجديد للمساهمة في بناء دولة حديثة.
إنّ زمن السلطة الفاسدة القهرية ولّى، ولن يتمكن أحد من وقف عجلة التاريخ، الآن تبنى في سوريا دولة لكل السوريين، وستنشأ مؤسسات حديثة وسيترعرع فيها أبناء هذا الوطن الجريح ليبرزون إبداعاتهم على كلّ الصعد، ولن يتحوّل الجيش السوري إلى معسكر اعتقال لأبناء الأغلبية السنيّة وفقراء الطوائف والإثنيات الأخرى كما جرى مع عائلة الأسد طيلة نصف قرن انقضى، مورس فيه كلّ أشكال القهر والإفقار والتجهيل والإجرام والطائفيّة.
لابدّ من إعداد مشروع سياسيّ متكامل وعصريّ، يُطرح على شكل مبادرة من أهل السنّة بغضّ النظر عن الإنتماءات الإثنية التي تحكمهم، ليس بصفتهم الأكثرية فقط، بل كونهم أصحاب وطن قادوا حروب الدفاع عن مقوّمات وجوده تاريخيًا مع حلفائهم من بقية مكونات المجتمع السوري بمواجهة الهجمات الأجنبية.
ونجاح هكذا مبادرة تقضي بقبول كلّ أطياف المجتمع السوري بأهمية ومحورية دور شباب الثورة الفاعلين في أوساطها، لاسيما أهل السنّة منهم، والإقرار بدور النساء الفاعل والملهم على درب الحرية والكرامة.
للبحث بقية.
وسوم: العدد 625