ذكرياتي فراتية الجزء الثاني
في كل يوم جمعة تحضرني هذه الذكريات التي عشتها في مدينتي ومسقط رأسي دير الزور المظلومة والتي همشت قبل الثورة وبعدها ,وكانت هي وثرواتها منبعاً للموارد والثروات المنهوبة والتي حُرم منها أهلها وشعبها العريق المعروف بنخوته و عاداته وتقاليده الشعبية الجميلة ..
يوم الجمعة له قدسيةٌ خاصة ,ولاسيما في فصل الصيف الحار بشكل عام نظراً لموقع هذه المدينة الصحراوي , ولكن نهر الفرات الذي يشقّ هذه المدينة متابعاً مسيره الى العراق الشقيق جعل منها بقعة ساحرةً تضجُ حياةً ويهديها نسماتٍ عليلةً ..
سرٌّ لم أدرك كنهه إلى هذا اليوم ..لماذا تشرقُ الشمس مبكرة جدا يوم الجمعة ..؟ فإشراقة الشمس تختلف عن بقية الأيام , فهي كالنائم الذي يصحو مبكراً نشيطاً فتمارس هواية خاصة حين ترسم لوحة فراتية نادرة وهي ترسل أشعتها الذهبية على صفحات النهر , ونحن نراها تتراقص كجدائل عروس فراتية تلبس الذهب تيجاناً على رأسها وقد عصبته (بهبرية) تتلون بألوان الفصول الأربعة (الربيع والخريف والصيف والشتاء) كلها ممزوجة مع بعضها بعضاً بتناغم أصيل يعطيها الضدين معاً حيث الرهبة والجمال الآسر .. .
يبدأ اليوم وكما أراه من بلكونتي المطلة على نهر الفرات مباشرة لا يفصلني عنه سوى شجرات (الغرب) الكبيرة الضخمة التي تلقي بأغصانها في النهر الذي يضمها بشوقٍ وحنين , وقد كان لتلك الشجرات أسماء تسمى بها حين تضرب المواعيد بين من يأتي للسباحة من الاطفال والشباب من كافة أرجاء المدينة وحاراتها ومناطقها المختلفة .
تبدأ نسوة القرية بالنزول من القرى وأراهن لابساتٍ ثيابهن المزركشة الجميلة وهن يحملن خيرات الريف الكثيرة من حليب وبيض وخضار وسمن وجبنة , ويبدأن
بالاتجاه إلى الأسوق, ولكنها أسواق لها نكهة خاصة فهي مقترنة بحدث أسبوعي حيث تقام في سويعات , وبعدها تختفي تماماً .. فبعد صلاة الجمعة في كل مساجد المدينة يصبح البيع والشراء على أشدّه عند أبواب المساجد حيث تبدا طقوس البيع والشراء بعد انتهاء الصلاة .
قبيل الصلاة بقليل كنتُ أرى كل جيراننا يمشون مهروليين للصلاة ويلبسون الثياب البيضاء وطواقي الصلاة , يصطحبون أطفالهم إلى المساجد حتى يتعود الأطفال على هذه الشعائر والعبادة
بعد الصلاة يزدحم الناس أمام مسجد من أقدم مساجد المدينة أو كما يُعرف بـ تكية الرواي, ولعل سبب التسمية نسبة التكية لآل الراوي وقد بُنيت في نهاية القرن التاسع عشر , حيث انتشرت التكاية في المدينة بتشجيع من العثمانيين الذين كانوا يميلون للتصوف , وقد تُركت بقعة أرض في التكية يُدفن فيها شيوخ التكية , وكانت أسرة الرواي تقوم على هذا الجامع وله خاصية لأهل مدينتي , حيث يزورون قبر (الشيخ الرواي وهو رجل من الصالحين) وينذرون له النذور , ويلبسون قبته غطاء أخضر جديداً, وهذا نتاج جهل ديني مغلف ببساطة الناس, حيث التبرك برجال الله الصالحين كما يظنون بطيبة وبراءة واختلاط المفاهيم الدينية والبدع التي كانت سائدة في مدينتي نتيجة شيوع الطرق الصوفية ..
لكنّ ثمة مشهداً آخر كنتُ أراقبه حيث أطفال المدينة ومراهقيها وشبابها يأتون زرافات ووحدانا باتجاه النهر بعد أن أدوا فريضة الجمعة ..
هنا تجد القادمين فئين , فئة تروح عن نفسها بالجلوس على شاطئ النهر وأخرى للسباحة وتخفيف حرارة الجو ..
تبدأ الصرخات عالية , والشجعان يصعدون الشجرة الكثيفة المعمرة , ويقفزون منها ألى النهر ومنهم من لا يجيد السباحة فياتي معه بـ إطار قديم لسيارة من المطاط الاسود يطلقون عليه ( الجراب) ,وهكذا بكل عفوية أصبح له طوق إنقاذ وهنا ما يضحكني, وبعضهم ياتي ببطيخة حمراء ويدعونها بلهجة أهلي الفراتيين (دبشية )ويرميها أمامه فتطوف ويسبح ممكساً بها و كأنها طوافةٌ له , وكأنه يطبق قوانيين ارخميدس الفيزيائية بكل بدائية , وبدون أسس علمية ..
كنتُ أراقبهم ..أسمع ضحكاتهم وأصواتهم ولعبهم الممزوج أحيانا بعنف, فترى من ألعاب النهر أنّ احدهم يحاول إغراق الآخر ولكنه يرفع يده عنه في النفس الأخير.
ولكن مع كل اللعب والمرح كنتُ أشاهد جانباً مظلماً من يوم الجمعة , فثمة غريقٌ ابتلعه النهر في غفلة من أصحابه وأهله , ليكرر الناس أن النهر غدار , وفي النهر دوامات خطيرة تسحب بعض الشباب ,والأطفال حديثي السباحة إلى العمق و لا يعودون يستطيعون السباحة والارتفاع إلى وجه الماء مرةً أخرى لينقلبَ صخب النهار إلى مأساة لم تكن في الحسبان , ويعلو بكاء وصراخ الإمهات اللواتي يأتين مسرعات صائحات بالويل بعد إخبارهن , حيث يتحول الشاطئ إلى مشهد آخر , حيث الوجوم على الرجال , والبكاء واللطم والعويل من النساء , ويزدادُ المشهد قتامة حين تدرك أن الغريق ذهب إلى السباحة دون إخبار أهله , بل أخذ قراره في التسلية مع زملائه ...
ورغم أننا نجاور النهر إلاّ أن أخوتي لم يكن النهر يشدّهم للسباحة أبداً , وكأن مجاورتنا له لم يعد يغري النفس في السباحة فيه ..
وحين يفيض النهر في نيسان , ويخرج ماؤه متجاوزاً الشارع الفاصل بيننا وبينه , كنتُ كمن يتبارك بمائه , وأغرف منه لأرش على وجهي من قطراته المنعشة ..
من يسبح بنهر الفرات يجب عليه أن يتدرب على فن العوم, فالسباحة تجعل صاحبها قوياً وربما يتحول سباحا ماهراً وكم من أبناء الدير تحولوا لسباحين عالميين , و لا يغرنكم هدوء النهر , ولا يفتنكم جماله , فمن يغريه النهر ولا يعرف حقيقته يكون قربان النهر نتيجة الجهل بماهية هذا النهر وتعقيداته ..
والله إن للفرات قدسيةً كبيرة يكفي أن أسمه ورد في كتاب الله العزيز, وذكره سيد الأنام أنه من أنهار الجنة , وأن فتنة الناس تكون عنده حين ينحسر عن جبل من الذهب ..
حزني الآن على من غرق في نهر الدم الذي فاضت به مدينتي , فبتنا أمام نهرين يتدفقان دون توقف , نهر الدم , ونهر الفرات , وألمي أن هناك من غرق ولم يسبح بنهر الفرات أبداً, وإنما هناك من جعله يسبح بنهر الدم , في زمن التآمر والصمت
لكم الله يا أهالي دير الزور لأن الجميع متأمر عليكم , ولعلكم كنتم ضحية الكل ومن الكل ولكن الفرات خالد و لا يهمه خوض الكلاب فيه سوف يأتي اليوم الذي نطهره من رجس الظالمين , ويتوقف نهر الدم الطاهر , ويبقى الفرات يجري ..
ابنة الفرات الخالد
وسوم: العدد 627