علي الدوابشه وأقنعة الرياء

اخر جرائم المستوطنين اليهود ضد الفلسطينيين كانت حين اقدم اربعة مستوطنين وأحرقوا اربعة اشخاص من عائلة الدوابشه في قرية دوما، قضاء نابلس، حيث قضى الطفل علي، وتمّ نقل والديه وشقيقه إلى المستشفى للعلاج من حروق عميقه في الجسم. وقد احدثت حادثة حرق الطفل علي (18 شهراً) ردات فعل غاضبه واحتلت الحادثه ساحات واسعه من مختلف شاشات التلفزه والصحف والاذاعه. ولا شك في ان جزءاً كبيراً من ردات الفعل أصيله وتنبعث من شعور انساني نبيل، الاّ انه من المهم الكشف عن منسوب الرياء والقصد من هذه الردود المليئه بالنفاق وذلك على المستوى الدولي والاسرائيلي والفلسطيني الرسمي. 

فعلى المستوى الدولي، استنكر الناطق الرسمي باسم الامين العام الحادثه وناشد الحكومه الاسرائيليه جلب الذين ارتكبوا هذه الجريمه إلى العداله. ويلحظ ان الذي استنكر هو الناطق الرسمي للامين العام وليس الامين العام نفسه الذي كان لا يترك مناسبه الاّ ويطالب بصوت عال بالافراج عن الجندي شاليط الذي اعتقلته المقاومه الفلسطينيه في غزه، علماً بأن شاليط ظل يعامل معاملة «اسير حرب» وتمّ اعتقاله في ساحة حرب وهو أمر مشروع. لقد أثبت الامين العام منذ توليه منصبه انه قد انحدر بنفسه إلى مستوى موظف درجه ثالثه من موظفي وزارة الخارجيه الاميركيه، ويسير كذيل للناطق الرسمي للبيت الابيض او لوزارة الخارجيه ولا يخرج عن الخط الذي تتبناه الاداره الاميركيه. ويردد كالببغاء ما يقوله الناطقون الرسميون.

اما درجة الرياء فقد بلغت اوجها في الساحه الاسرائيليه. فقد أعلن رئيس الدوله ريفيلين استنكاره، ولحقه في ذلك شمعون بيرس، ولبس بنيامين نتنياهو وجهاً اصطناعياً من الحزن والتأثر، وتبعه وزير الددفاع يعالون. ان درجة الرياء ليست مقتصره على استنكار بيرس وهو «بطل» مجزرتين في قانا حيث لجأ مدنيون لبنانيون إلى مبنى الامم المتحده وأمر بقصفها وحرق من كانوا فيها علماً ان المبنى يتمتع بحصانه دوليه، وكان في المجزرتين اطفال عديدون من ذات العائله وتشهد على ذلك شواهد قبورهم. ولا يقتصر الرياء على نتنياهو الذي حرق 500 طفل من اصل 2200 شهيد في غزه في الصيف الماضي وهو الذي أمر بقصف مدارس الاونروا بمن فيها.

يجب ان لا يغيب عن البال ان هذه الاستنكارات قصد منها اظهار ممايزه بين رجال الدوله وبين هؤلاء «المتطرفين» من المستوطنين. فشمعون بيرس ونتنياهو ويعالون يظهرون وكأنهم اشخاص أنقياء واصيبوا بالصدمه من حرق الطفل علي بينما اللوم واللعنه يجب ان تلحق بـ «المتطرفين المستوطنين». ان الثلاثه الكبار هؤلاء ارتكبوا من المجاز والاثام ما يستحقون معه تهمة «مجرمي حرب» بالتعريف القانوني.

هنا يجب التوقف قليلاً لكي يتم هتك ستار الرياء الاسرائيلي الكثيف، وذلك لشرح من اين جاء المستوطنون وهل هبطوا من الفضاء أم انهم ابناء الحكومه التي ترعاهم.

لقد كلف رئيس الوزراء الاسرائيلي المحاميه تاليا ساسون، وهي رئيسة قسم المهمات الخاصه في مكتب المدعي العام، ومن كادر وزارة العدل ذوي المراتب العاليه، بالتحقيق في ما يسمى بالمستوطنات «غير الشرعيه» وكيف تنشأ وتموّل ومن يقف وراءها. وضعت ساسون تقريرها في 10/3/2005 وكشفت عن معلومات هامه جداً في مسألة المستوطنات، وتبدو العمليه وكأنها عمليه معقده من عمليات المافيا، اذ أنها بعد ان شرحت المصاعب التي لاقتها من البيروقراطيه الحكوميه والتي مارست عدم التعاون معها واخفت عنها الكثير من الارقام والمعلومات التي «لا توجد.. في مكتب واحد» وأقرت بأن القسم الاعظم من المعلومات لا يمكن الوصول اليه. تقول ساسون ان المستوطنات «الشرعيه» هي التي يصدر قرار باقامتها من قبل الحكومه، اما المستوطنات «غير الشرعيه» فهي تنشأ بدون قرار حكومي. الاّ انها تلاحظ ان هناك اربعة اجهزه رسميه تتبنى عملية المستوطنات «غير الشرعيه»، وهذه الاجهزه هي وزارة الدفاع (بما في ذلك الاداره المدنيه) ووزارة البناء والاسكان وقسم الاستيطان في المنظمه الصهيونيه العالميه ووزارة الداخليه ويضاف لها مجالس المستوطنات المحليه.

وتشرح ساسون دور كل جهاز من اجهزة الدوله، بحيث تتولى وزارة البناء والاسكان تمويل البنى التحتيه للمستوطنه «غير الشرعيه» والمباني العامه فيها وتتولى عمليات التخطيط وشراء الكرافانات التي سوف يقيم فيها المستوطنون في بداية العمليه، وتقوم وزارة الدفاع عن طريق الاداره المدنيه بتحديد الارض التي ستقام عليها المستوطنه «غير الشرعيه» وتدقق في اية مطالبات او ادعاءات تتعلق بتلك الارض، وتتولى في النهايه عملية تسجيل سند ملكية الارض. ثم يأتي دور قسم الاستيطان في المنظمه الصهيونيه العالميه حيث يتسلم هذا القسم الارض التي خصصتها الاداره المدنيه والذي يقوم بعملية التسليم هو «مفوض الحكومه واموال الغائبين».

جميع هذه الاجهزه هي اجهزه تابعه للدوله بما فيها المنظمه الصهيونيه العالميه، وتشترك جميعها في عملية الاستيطان سواء من حيث استعمار الارض او من حيث اختيار نوعية المستعمرين وجميع هذه الانشطه تحتاج إلى اجهزة من موظفي الدوله والى تمويل كبير يؤخذ من ميزانية الدوله. ومن الصدف الطريفه ان وكالة الانباء الاردنيه نشرت يوم الاثنين تاريخ 3/8/2015 خبراً نقلته عن القناة العاشره الاسرائيليه التي اعلنت فيه ان حكومة نتنياهو مولت منظمات المستعمرين المتطرفين بملغ 100 مليون دولار، وهذا يقطع ان الدوله هي الحاضنه الاولى لما يسمى بـ «المستوطنات غير الشرعيه». من المهم ملاحظة ان هذا التقرير لازال يمثل وثيقه رسميه والمعلومات الوارده فيه لازالت على حالها ولم يتم دحضها، وباعتباره كذلك، فان المستوطنين الذين ارتكبوا جريمة الحرق هم من انتاج الدوله وتمويل الدوله وتربية الدوله وتثقيف الدوله وتقوم الدوله بتوفير الحمايه لهم بما في ذلك تسليحهم. ولا يستطيع رموز الدوله الان اعلان براءتهم والمحافظه على مسافه بينهم وبين المستعمرين الذين ارتكبوا جريمة حرق الطفل علي. ونعلم ان العديد من وزراء الحكومه وممثلي الاحزاب الاسرائيليه في الكنيست من سكان هذه المستوطنات.

ان المستوطنين في الاراضي الفلسطينيه المحتله، بسبب عددهم المتزايد والعقيده التي يتذرعون بها اصبحوا قوه كبيره في الوسط الاسرائيلي، وذات تأثير كبير على مجريات اتخاذ القرار، لدرجة ان بعض المؤلفين الاسرائيليين يطلقون عليهم الان اسم «اسياد البلاد» إِذ لم يعد يجرؤ احد من المسؤولين على معاندتهم والتصرف بعيداً عن رغبتهم، واصبح رجال الدين في المستعمرات ذوي تأثير حاسم على القرار السياسي. وبذلك لا نستغرب ان الفلسطينيين الان يواجهون عمليات «استباحه» شبه مطلقه تحركها نزعات فاشيه ودينيه.

تتمثل هذه الاستباحه في ازدياد عمليات مصادرة الارض لاقامة مستعمرات عليها، وازدياد عمليات قلع الاشجار لاسيما اشجار الزيتون المعمره، وحرق المزروعات ومنع الفلاحين الفلسطينيين من قطف الزيتون وهو موسمهم الذي يحمل لهم الخبز والطعام، ثم انتقل المستوطنون إلى مرحله جديده من الاستباحه بقتل مدنيين فلسطينيين مسالمين، واختطاف مدنيين والاعتداء على النساء، ثم دخلنا مرحلة الحرق، وحرق الطفل علي ليست الاولى، ولن تكون الأخيره، وقد سبقه قبل بضعة أشهر حرق الطفل ابو خضير. ويشعر المستوطنون بالراحه من ارتكاب جرائمهم إدراكاً منهم ان الاجهزه الامنيه والمسؤوله عن تطبيق القانون لن تلاحقهم، وان لاحقتهم سوف يغلق الملف وتسجل الدعوى «ضد مجهول»، وان قدموا إلى المحاكمه سوف تصدر عليهم احكام قضائيه غالباً «مع وقف التنفيذ»، وتمنح لهم كافة الضمانات القانونيه.

ان هذه الاستباحه المفرطه في قباحتها وهمجيتها لم تكن لتتوسع لولا رياء القياده الفلسطينيه والتي تعلن باصرار انها سوف تظل تسير في طريق التفاوض دون السماح باطلاق طاقات الشعب الفلسطيني للمقاومه. ان الاصرار على المفاوضات دون استخدام ادوات الضغط الاخرى (وليس بالضروره الاداه العسكريه) هي عملية في غاية السذاجه. ان القياده الحاليه هي قيادة مسار اوسلو وانتاجها، وبموجب هذه الاتفاقيات وضعت هذه القياده كل امكانات منظمة التحرير الفلسطينيه في خدمة الاحتلال بما في ذلك القيام بالمهمات الأمنيه لصالح المحتل. وبعد ذلك، لماذا يرتدع المستوطنون إذا كانت القياده الفلسطينيه تتفاوض ـ مجرد تفاوض ـ وانها في خدمة الامن الاسرائيلي تحت ما يسمى بـ «التعاون الامني». ممّ يخشى اذن المستوطنون واركان دولة المستوطنين؟!

ولا أدل على رياء القياده الفلسطينيه، من ان وزير خارجية السلطه حمل ملف حريق الطفل علي وطار إلى لاهاي لتحريك دعوى امام محكمة الجنايات الدوليه. هذا رياء مفضوح قصد منه امتصاص نقمة الشارع الفلسطيني لأن محكمة الجنايات الدوليه لم تُنشأ للنظر في قضية حريق طفل ـ على بشاعتها، بينما لم تدرج قضية الطفل علي في سياق سلوك اجرامي عام يقوم به المستوطنون باستمرار وبدعم كامل من اركان الدوله. لازال الجمهور الفلسطيني بانتظار ملفات السلطه التي اعدتها لتقديمها إلى محكمة الجنايات الدوليه…. وعلى الارجح انها لن تأتي بل تستخدم لتحريك المفاوضات، ليس إلاّ.

ان استباحة المستوطنين للفلسطينيين واراضيهم لن تتوقف الاّ بايجاد رادع فلسطيني صلب لم يقيّد نفسه باتفاقات مذله كاتفاقيات اوسلو، ولم يحشر نفسه في نفق المفاوضات. ان اية استراتيجية جديده تحتاج ـ بلا شك ـ إلى قياده جديده ونظرة سياسيه جديده.

 د. أنيس فوزي قاسم ( خبير قانون دولي )

٭ كاتب فلسطيني

وسوم: العدد 628