ما عرف دين الإسلام حق المعرفة ولا قدره حق قدره من اختزله
تداعيات ثورات الربيع العربي الساخن منها والفاتر والكامن أيضا والذي لم يطف على السطح بعد خوض كثير من الناس في موضوع الإسلام بسبب تعليق كثير من المسلمين أملهم على الإسلام للخلاص من وضعية ما بعد النكبة ونكساتها وهي وضعية التبعية للغرب والتخلف والاستبداد والفساد وما يترتب عن ذلك من سيء الأوضاع في كل نواحي الحياة . وخوض كثير من الناس في موضوع الإسلام إنما كان بسبب ظهور أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية على الساحة خصوصا في بعض أقطار الربيع العربي التي خاضت تجربة ديمقراطية لأول مرة كما هو الشأن في مصر وتونس . وظهور الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي أقلق العالم الغربي الذي يتوجس من دين الإسلام بحكم لائكيته وعلمانيته التي يريد عولمتها لضمان وجوده واستمراره وهيمنته على العالم .ولقد أوعز الغرب اللائكي العلماني لمن يمكن اعتبارهم طوابيره الخامسة من العلمانيين في الوطن العربي بالتحرك من أجل منع ما يسميه زحف الإسلام السياسي ، ذلك أن فوز حزب الحرية والعدالة المصري المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين ،وهو حزب ذو مرجعية إسلامية أقلق الغرب كثيرا لأن مصر كانت دائما هي قاطرة الوطن العربي بل لم يكتف بالإيعاز إلى طوابيره الخامسة بمنع زحف الإسلام السياسي بل تدخل لقلب الموازين عن طريق انقلاب عسكري مكشوف في مصر بتوظيف واستعمال أنظمة عربية إقليمية تتوجس هي الأخرى من أن تصيبها حمى ثورات الربيع العربي خصوصا مع وجود تيارات إسلامية في أقطارها ترى أنها تتربص بها لتحل محلها وقد أنست من شعوبها رغبة واضحة في خوض تجربة حكم الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بعد تجارب أحزاب ذات توجهات مختلفة باءت بالفشل وكرست الاستبداد والفساد والتبعية ووضعية ما بعد النكسة ونكباتها المتتالية .وعلى غرار الانقلاب العسكري في مصر وقعت أشكال أخرى من الانقلابات في أقطار الربيع العربي على غرار الانقلاب الانتخابي في تونس حيث تراجعت حصة حزب النهضة التونسي ذي المرجعية الإسلامية بعدما كان صاحب حصة الأسد في أول انتخابات ما بعد الثورة التونسية ، وانقلبت موازين الانتخابات بين عشية وضحاها في تونس لصالح خليط من الأحزاب التي لم تثبت في الانتخابات الأولى أمام حزب النهضة وشكلت عوضا عن الحزب الحاكم الذي أطيح به بل صارت نسخة جديدة له كما صار الانقلاب العسكري في مصر نسخة جديدة للنظام المطاح به في ثورة يناير . وعلى غرار الانقلاب العسكري في مصر والانقلاب الانتخابي في تونس حدثت انقلابات أخرى يمكن أن ننعتها بنعوت معينة إلا أن القاسم المشترك بينها هو أنها انقلابات ضد ثورات الربيع العربي أو هي ثورات مضادة أو هي تحريش طائفي بين الأطراف المشاركة في ثورات الربيع العربي . ففي سوريا تدخلت قوى دولية وإقليمية لحماية نظام حزب البعث من السقوط كما سقطت أنظمة مشابهة له في الوطن العربي حيث استخدم الروس والصينيون الفيتو لمنع سقوطه بل تورط الروس عسكريا لمناصرته ، كما تورطت إيران أيضا عسكريا لتمديد وجوده في غمار حوارها مع الغرب بخصوص امتلاك الطاقة النووية .وفي اليمن تدخلت أنظمة عربية لإنقاذ النظام المطاح به عن طريق ما سمي مبادرة صلح مع رئيس طالح سرعان ما تحولت إلى تحريش طائفي بين أبناء اليمن أفضى إلى حرب أهلية الله وحده يعلم متى ستضع أوزارها . ولم ينج العراق وليبيا من التحريش الطائفي بين أبنائهما . ولجأ الغرب إلى حيلة جهنمية لإضرام نيران الفتن في الأقطار العربية خصوصا التي شهدت ثورات ساخنة حيث صنع مخابراتيا عصابات إجرامية مثل داعش لترتكب أفظع الجرائم باسم الإسلام، وذلك لتلطيخ سمعته ولصرف شعوب الربيع الغربي عن التطلع إليه كبديل عما يريد الغرب تسويقه من علمانيته . وبسبب بث العصابات المخابراتية الإجرامية في بلاد ثورات الربيع العربي اختلط الحابل بالنابل والدارع بالحاسر كما يقال ، وصارت كل جهة تتبنى الطرح الإسلامي في مناهضتها للاستبداد والطغيان والفساد تحسب على العصابات المخابراتية الإجرامية ، وهو أمر يعطي الأنظمة العربية المستبدة الذريعة للتضييق على الإسلام ، وهذا ما يمكن أن نسميه انقلابا داعشيا أو إجراميا لا يختلف عن أنواع الانقلابات الأخرى العسكري منها كما هو الشأن في مصر أو الانتخابي كما هو الشأن في تونس أو التحريشي كما هو الشأن في ليبيا واليمن والعراق وسوريا .
وعلى ضوء هذا الوضع الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي والتي منع الغرب اللائكي العلماني نجاحها بشتى أنواع الانقلابات يفهم النقاش الدائر اليوم حول الإسلام بين أوساط العلمانيين . وتحرص الطوابير الخامسة العلمانية في الوطن العربي والتي تدين بالولاء للغرب على تشكيك الإنسان العربي المسلم في جدوى الرهان على الإسلام للخلاص من وضعية ما بعد النكبة ونكساتها وما صاحب ذلك من استبداد وظلم وفساد وتخلف مادي ومعنوي . وإذا كان الحوار في بلاد الربيع العربي ذات الحراكات الساخنة والدامية يعتمد لغة السلاح ، فإن الحوار في البلاد ذات الحراك الفاتر أو الكامن يعتمد لغة التجريم والتجريح والتخوين والتخطئة كما هو الحال في المغرب حيث يحاصر حزب العدالة والتنمية بسبب مرجعيته الإسلامية حصارا من كل جانب بحيث لا يسلك مسلكا ولا يفوه بقول إلا كان موضع اتهام مع أنه كسب رهان الانتخابات ككل حزب سياسي ، وهو رهان يخول له أن يقضي مدة حكمه القانونية ، ويطبق مشاريعه وفق مقتضيات ما يسمى اللعبة الديمقراطية . والملاحظ أنه ما كاد الإعلان يصدر عن فوز هذا الحزب حتى رفضت أحزاب كانت سببا في ثورة الشعب على فسادها لرفض هذا الفوز بل ذهب البعض بعيدا من خلال المطالبة بالانقلاب العسكري عليه كما حدث في مصر . وهكذا وقع انقلاب إعلامي على حزب العدالة والتنمية المغربي حيث جند خصومه معظم وسائل الإعلام للنيل منه ، فحتى وسائل الإعلام الرسمية ،والتي من المفروض فيها أن تتحدث باسم حكومة يديرها هذا الحزب صارت أبواق دعاية يديرها خصومه لتكيل له النقد في كل قرار يتخذه أو سعي يسعاه ، ولأول مرة في تاريخ المغرب تتمرد وسائل الإعلام الرسمية على حكومة مغربية بعدما كانت في عهد حكومات سابقة تسبح بحمدها وتقدس لها . وهذا يعكس مدى الرغبة في إقصاء ما يسميه الغرب إسلاما سياسيا حتى لو كان نتيجة حراك سلمي كما هو الشأن في المغرب .
ولنعد الآن إلى التجني على الإسلام كدين ارتضاه الله عز وجل للعالمين نكاية في الأحزاب التي تتخذه مرجعية سواء أصابت في ذلك أم لم تصب ، وهو تجن تعكسه السجالات الساخنة في الساحة المغربية خصوصا والساحة العربية عموما بين أوساط العلمانيين . والملاحظ أن العلمانيات العربية أخذت تعقد الملتقيات ، وتستقبل منظريها من أجل تسويق فكرة صرف الشعوب العربية عن الإسلام كخيار وكحل للخروج من وضعية ما بعد النكبة ونكساتها والاستبداد وفساده . ولقد استغل العلمانيون في المغرب مؤخرا فرصة زيارة علماني مصري للخوض في موضوع الإسلام بغرض تحييده وإقصائه من الساحة ليخلو الجو للنمط العلماني وما يترتب عنه من حياة لا يحكمها الإسلام . ويقوم هذا الخوض على أساس فكرة اختزال الإسلام في مجر د طقوس تعبدية خلاف ما أراد له الخالق سبحانه بحيث يكون منهاج حياة يوجهها في كل المجالات والأحوال . ومن أجل توضيح ذلك نشير أولا إلى أن الاختزال لغة يعني الحط ورد الكثير إلى القليل . واختزال الإسلام من طرف العلمانية سواء الغربية الحقيقية والصريحة الإلحاد أو العربية المزورة و الهجينة والمنافقة التي لا تجرؤ على التنكر للإسلام علانية خوفا من أبنائه ، ولأنها بذلك تحكم على نفسها بالإقصاء من مجتمعات تدين بالإسلام هو تقليص دوره وحصره في العبادات دون المعاملات، علما بأن الإسلام يعلن نفسه بكل وضوح دين معاملات توجهها العبادات بل لا اعتبار فيه لعبادات لا تفضي إلى معاملات موفقة وفق قاعدة :" من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له " فالفحشاء والمنكر يكونان في المعاملات ولا تصح عبادة الصلاة إذا هي لم تمنع فاحش المعاملات ومنكرها .وحصر العلمانية الإسلام في الطقوس التعبدية هو اختزال له ورد الكثير منه إلى قليل والاقتطاع والحذف منه وجعله ناقصا معيبا خصوصا وأنه من معاني اختزل في اللغة العربية معنى عاب أيضا . ولا يمكن لمن يختزل شيئا أن يزعم أو يدعي العلم به . ودين الإسلام كما يقدمه كتاب الله عز وجل ينزع نحو الكمال والتمام . وليس من قبيل الصدفة أن يقول الله عز وجل في آخر ما نزل من القرآن الكريم : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) فالله عز وجل لا يرضى ويقبل لعباده دينا مختزلا مقتطعا منه أو دينا ناقصا معيبا لا يستطيع تغطية مجال من مجالات حياتهم وإلا لا معنى لتمام النعمة التي أنعم بها.
وإذا ما وقفنا عند المادة اللغوية في اللسان العربي لكلمة دين نجدها تحيل على دلالات تفيد تغطيته الشاملة لكل نواحي ومجالات الحياة . فمن دلالات هذه المادة اللغوية الجزاء ، والقضاء ،والملك ،والسلطان ،والحكم ،والتدبير ،والحساب أو المحاسبة، ومن ذلك يوم الدين أو الدينونة أي الحساب والمحاسبة . فهذا الاتساع في دلالة كلمة دين لا يمكن اختزاله . والحياة في نظر الإسلام لها خالق سبحانه وتعالى هو ديانها أي خالقها والقاضي فيها بمشيئته والحاكم القهار الذي لا معقب لحكمه، ومن ثم هو المعبود الذي يعبده فيها عباده وعبيده وهو يحكمهم ،و يراقبهم ويختبرهم فيها ويحاسبهم على اختبارهم ، وهو الذي أحسن إليهم ، والإحسان من دلالات لفظة دين أيضا . ولا تعدم لفظة دين ـ بكسر الدال ـ وشيجة القرابة مع لفظة دين ـ بفتح الدال ـ وكلاهما من جذر لغوي واحد وهو فعل دان يدين بمعنى استعبد وأذل وحمل على ما يكره ، وبمعنى اتخذ حالا أو شأنا أو سيرة أو عادة أو ديدنا أو مذهبا أو ملة ، وبمعنى أطاع ، وبمعنى اقترض قرضا إلى أجل معلوم . وليس من قبيل الصدف أن يكون المدين هو المقترض المحتاج إلى قرض ، وهو في نفس الوقت العبد الذي يذله العمل أو الخدمة ، ويكون الدين ـ بفتح الدال وتضعيفه ـ هو صاحب الدين ـ بكسر الدال ـ المتمسك به . ويتبين من خلال الوشائج بين المادة اللغوية لكلمة دين ـ بكسر الدال ـ وهو كل ما يعبد به الله عز وجل ، وبين الدين ـ بفتح الدال ـ وهو الاقتراض أن الخالق سبحانه دائن يقرض الخلق ويعطيهم وهو بذلك سيدهم ومالكهم ،وهم مدينون له ، وبذلك هم دينون أي عابدون يتذللون له بالطاعة والعبادة والخضوع له في كل أحوالهم ، وهو ديانهم أي القاهر فوقهم . ولا يستقيم ولا يصح بعد هذا أن يختزل الدين، وهو طاعة الخالق سبحانه في أمور دون أخرى كما تزعم العلمانية التي تقدم الإنسان المخلوق المستعبد لخالقه حرا أو متملصا من العبودية له بل مؤلها لنفسه، وذلك بمنازعة خالقه الديان في ديانة أي في حكمه . وما قدرت العلمانية الخالق سبحانه حق قدره، ولا قدرت دين الإسلام حق قدره حين تجعل الإنسان خارج تغطيته الشاملة لجميع نواحي الحياة ومجالاتها . ونظرا لتهافت الفكر العلماني يعمد أصحابه إلى أساليب الاستخفاف بالطرح الإسلامي ونسبته لفترة زمنية معينة فينعتونه بالفكر القروسطي نسبة للقرون الوسطى ،وتشمل زمن البعثة النبوية الشريفة مع العلم أن الإسلام وهو خاتمة الرسالات جاء لتغطية ما بقي من عمر البشرية، ولا مندوحة لها عنه مهما بلغ تطورها المادي والتكنولوجي الذي قد يبهرها ويطغيها ويجعلها تتأله . وأخيرا نختم بالقول إن الإسلام في الحياة بمثابة الدم في الجسم بحيث لا يمكن لأي عضو فيه أن يستغني عنه، وهذا يعني أن السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ... وغير ذلك مما يوجد في الحياة لا يمكن أن يكون خارج دائرة حكم الإسلام . وهذا الطرح هو ما يزعج العلمانية الغربية والعلمانيات العربية الهجينة الخاضعة لها خضوع تقليد أعمى بسبب الانبهار بتفوقها المادي والتكنولوجي ، وهو تفوق مطلوب في دين الإسلام بل واجب خلاف ما يظن العلمانيون، وظنهم لا يغني من الحق شيئا . ولقد آن الأوان بتعقد المؤتمرات الإسلامية لتسفيه الطروحات العلمانية المتربصة بالإسلام مستغلة تداعيات ثورات الربيع الغربي ، وعلى رأسها حرص الغرب على منع وجود الإسلام في البلاد العربية لتبقى علمانيته هي سيدة الموقف والقرار المهيمنة .
وسوم: العدد 629