الربيع العربي : المتهم البريء
في شهر تموز من العام المنصرم ( ٢٠١٤) كتبت مقالة سياسية تتعلق بالربيع العربي ، وأرسلتها للنشر في أحد المواقع الإلكترونية ، وفوجئت برد بعثه إلي أحد الذين استشارهم الموقع في إمكانية نشر هذه المقالة من عدمه ، بوصفه أحد معارفي والقريبين مني . لقد كان مضمون رد هذا الرفيق هو الاعتذار عن نشر المقالة في الموقع المعني ، ذللك أنها (المقالة) تدور حول " الربيع العربي " الذي نعتبره نحن ( والكلام للصديق ) " ربيعا صهيونيا " (!!) .
لقد كانت إجابة ذلك الصديق مفاجئة وصادمة ، بل وغريبة ، وبما أنني كنت وما زلت أحترم ذلك الصديق، وأحترم ال " نحن " التي حشدت الإمبريالية (أمريكا وبريطانيا خاصة) قوتها العسكرية التدميرية الهائلة للقضاء عليها ذات يوم ، فقد وضعت تلك الإشكالية التي تضمنها جواب الصديق على جدول أعمالي اليومي بحثا عن جواب مقنع لها . هذا ويمثل عنوان هذه المقالة ، الجواب الأوّلي الذي أمكنني الوصول إليه للوقوف على الأبعاد الحقيقة لجواب ذلك الصديق في وصفه ل " الربيع العربي " ب " الربيع الصهيوني " . إن ثورات الربيع العربي التي افتتحتها تونس عام 2011 ، لايمكن لبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر وعبد الملك الحوثي وقاسم سليماني ، أن يقرأوا على قبرها سورة " الفاتحة "، ذلك أن جذورها غائرة في أعماق التاريخ العربي والوعي العربي ، القديم منه والحديث ،
1. يعتبر من أبرز نتائج الحرب العالمية الأولى ، فيما يتعلق بالوطن العربي ، أولاً ، تجزئة هذا الوطن ( سايكس - بيكو ) وتحويله من دولة واحدة إلى أكثر من عشرين دولة ودويلة ، وإخضاعها للانتداب والاحتلال وبالتالي لهيمنة الدول المنتصرة في الحرب ، ولا سيما الدول الرأسمالية الكبرى منها . وثانياً ، تنفيذ إنكلترا وعدها للصهيونية العالمية ( وعد بلفور ) بإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين ، والذي كان واقعياً مشروعا امبريالياً عامّاً وليس بريطانياً خاصّاً . حيث مثل الكيان الصهيوني في فلسطين " مسمار جحا " النظام الرأسمالي العالمي في الوطن العربي ، من حيث تحويل هذا الكيان ، إلى ثكنة عسكرية كاملة التجهيز والتسليح ، وظيفتها الحيلولة دون أن يخطر ببال أي عربي إمكانية العودة إلى ماقبل سايكس - بيكو ، سواء فيما يتعلق بالوطن العربي عامة ، أو مايتعلق بفلسطين خاصة .
2. لقد ترتب على قيام الوحدة السياسية بين سورية ومصر ( جمال عبد الناصر ) عام ١٩٥٨ انقسام الفكر الأيديولوجي في سورية على نفسه حول مسألة الأولوية بين الوحدة والحرية ( الديموقراطية ) ولا سيما أن الدول الرأسمالية التي باتت توصف بالدول الديموقراطية ، والتي تعتبر الكيان الصهيوني واحداً منها ، أصبحت هي حامية التجزئة (سايكس - بيكو)وحامية الأنظمة العسكرية والقبلية والطائفية ( الديكتاتورية / اللاديموقراطية ) التي انبثقت عن هذه التجزئة ، والتي تلاعبت الدول المنتدبة بالحدود الجغرافية لها بما يتلاءم مع مصالحها الاستعمارية ، ويرسخ تبعية هذه الكيانات القطرية الجديدة لها ، حتى بعد أن تتحول إلى دول مستقلة ( ذات سيادة !! ) .
3. إن الديموقراطية الحقيقية ، عادة ماتستلزم كلّاً من التعددية و التبادلية ، وكلاهما يتناقض مع الاستبداد والديكتاتورية ، أي مع حكم الحزب الواحد ، والقائد الواحد ، والأسرة الواحدة ، والقبيلة الواحدة ، والذي هو تطبيقياً شكل من أشكال ( الأحكام العرفية ) وتهميش لدور الشعب ، وذلك بغض النظر عن كون هذا الديكتاتور ( المستبد ) عادلا أو غير عادل . لا شك أن حكم " المستبد العادل " ينطوي على بعد ديموقراطي نسبي ( حكم الحزب الواحد يختلف عن حكم الفرد الواحد )،وعلى بعد أخلاقي نسبي ( العدل والنزاهة) ، ولكن ذلك لايغير من أمر تهميش الشعب ومؤسسات المجتمع المدني كثيراً، حيث تبقى الجماهير تشعر بالغبن وبالتهميش ، أمام حكم / تحكم الأقلية ( الحزب الواحد ، الأسرة الواحدة ، القبيلة الواحدة ، القائد الواحد ... الخ ) والتي ربما تكون مخترقة من الدول الإمبريالية ،التي تظهر لها مالا تبطن .
4. لقد شهدت سورية في المرحلة التاريخية مابعد الحرب العالمية الثانية ،( مابعد الاستقلال 1946) إشكالية جديدة مثلثة الأبعاد : البعد الإسلامي ، البعد القومي العربي ، البعد القطري ، وهي أبعاد متداخلة ومتمايزة في آن واحد ، الأمر الذي ترتب عليه نوع خاص من الصراع السياسي والاجتماعي ، أدّى إلى تجذر وتعمق البعد القطري على حساب البعدين الآخرين ( الإسلامي والقومي العربي ) ، بل إن الدولة القطرية نفسها بدأت تتمايز داخلها الأقوام ( عرب ، كرد ) والمذاهب ( إسلام ، مسيحية ) والطوائف ( سنة ، شيعة ) والرؤى الفكرية ( العلمانية ، الدينية )، بعد أن غيب ( وإن بدرجات متفاوتة) البعد القطري الجديد
( التجزئة )، البعدين التوحيديين السابقين ( الإسلام والعروبة ) ، وذلك بالمعنى السياسي و الأيديولوجي في آن واحد .
5.لقد شهدت مرحلة مابعد رحيل الجيش الفرنسي وانتهاء الانتداب ، ظهور اربعة تيارات سياسية وأيديولوجية رئيسية هي : التيار القطري ( الحزب القومي السوري ، الأحزاب والجماعات الليبرالية ) والتيار القومي العربي العابر للقطرية ( حزب البعث ، القوميون العرب ، الناصريون ) وتياران أمميان عابران لكل من القطرية والقومية معاً هما : التيار الديني ( جماعة الإخوان المسلمين ) ، والتيار الماركسي اللينيني (الحزب الشيوعي) . وبما أن الرأسمالية هي بدورها نظام عالمي عابر بدوره للقطرية والقومية ( كالتيارين الديني والماركسي ) ، فقد اعتبرت هذين التيارين العالميين ، المختلفين معها سياسيا وأيديولوجيا ، العدوّين الرئيسيين لها . حيث استطاعت أن تسقط الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن المنصرم ، وهي اليوم تضع كافة إمكانياتها المادية والمعنوية في محاربة كل من الفكر والتيارالإسلامي ، و الفكر والتيار القومي ، وقد تجلّى ذلك في العراق عام 2003 ( الغزو الأمريكي ـ البريطاني) وفي مصر عام 2013 ( انقلاب السيسي على مرسي ) ، وفي فلسطين بعد اتفاق أوسلو (التنسيق الأمني بين سلطة محمود عباس وإسرائيل ) حيث تعاونت الأنظمة العربية والحكام العرب مع الغزو الخارجي ضد أبناء جلدتهم في العراق وفي فلسطين ، ومع الديكتاتورية ضد الديموقراطية في مصر ، ومع الأقلية ضد الأكثرية في سوريا .
6. إن ثورات الربيع العربي إذن إنما جاءت لتصويب اتجاه البوصلة العربية ، وتصحيح مسارها ، وهو ماأثار حفيظة الغرب وإسرائيل ، ومعهم عدد من الأنظمة العربية ، ودفعهم إلى " التحالف " ضد هذا الربيع ، ولكن بعد استبدال تعبير الربيع العربي بتعبير " الإرهاب".إن محاربة الإمبريالية العالمية لثورات الربيع العربي بعد عام 2011 ، إنما هي في حقيقتها ، من جهة حرب ضد التيارين الإسلامي والشيوعي في الوطن العربي ، ومن جهة أخرى حرب استباقية ضد التيارالقومي العربي، الذي يمكن أن يكون البديل الموضوعي للتيار الإسلامي في الوطن العربي ، في مرحلة لاحقة من مراحل ثورات الربيع العربي .
لقد أخذت محاربة الغرب ( أمريكا خاصة ) لكل من التيارين الإسلامي والقومي في دول الربيع العربي ،عدة أشكال ، تراوحت بين استخدام القوة الغاشمة في العراق عام 2003 في فترة بوش الإبن، والقوة الناعمة ( الجزرة وأخواتها ) بمصر بزمن أوباما ،وأيضاً مابين هاتين القوتين من الكذب والتضليل واللعب بورقة البنية الاجتماعية للدول المعنية ( الأقلية والأكثرية )، والبنية الأيديولوجية ( الليبرالية مقابل التمسك بالتراث ) والتظاهر الكاذب بالحرص على الديموقراطية وحقوق الإنسان ، وبالذات حقوق المرأة والطفل ، الأمر الذي فضحه و يفضحه ، الصمت المطبق ( لاعين رأت ولا أذن سمعت !! ) على مجازر بشار الأسد في سوريا ولا سيما مجازر الأطفال والنساء في الغوطتين !! .
7. إن وصف صديقنا الذي أشرنا إليه أعلاه ، الربيع العربي بالربيع الصهيوني ، إن هو على مايبدو ، وعلى مانأمل ، ليس أكثر من ( كبوة فارس ، ونبوة سيف ) ، أعرف من جهتي أسبابها البعيدة والقريبة ، وأعرف بعدها الأخلاقي عند ذلك الصديق ولكن ، ومع ذلك ، لايمكنني إلاّ أن آخذها منه على محمل الجد . فلو كان الربيع العربي ربيعاً صهيونياً ، ـ أيها الصديق ـ لما جندت الصهيونية العالمية مافوقها وما تحتها للقضاء عليه ، ولما عادت الولايات المتحدة الأمريكية ، بقوتها الخشنة والناعمة إلى العراق اليوم ،( بعد طردها منه ) لتدافع عن نظامه الطائفي ، ولتحميه من لهيب ثورات الربيع العربي . إن سكوت الغرب على الدور الإيراني في العراق وسورية واليمن ، إنما هو ـ من وجهة نظرنا ـ واحد من أشكال التآمر الغربي على ثورات الربيع العربي ، التي يخشون أن يمتد لهيبها إلى الدول العربية العميلة لهم ، والتي تقع تحت حمايتهم . كما أن تعاملهم (الرمادي) مع ظاهرة " الدواعش " في سورية والعراق ، إنما هو جزء لايتجزأ من موقفهم الحقيقي من خلق وتأجيج الصراع المذهبي والقومي والطائفي ، وبنوعيه ( السلمي والمسلّح )، وإطالة مدته ماأمكن . لقد مثلت ثورات الربيع العربي بشعاراتها الوطنية المخرج الديموقراطي الآمن من هذا المأزق التاريخي ، الذي وضعت ( بضم الواو ) بلادنا بعد الحربين العالميتين فيه ، الأمر الذي أقضّ مضاجع الإمبرياليين وعملاءهم في المنطقة ، وسارعوا إلى دمغ هذا الربيع العربي ومماهاته بالإرهاب ، والإرهاب منه براء .
لقد عكست ثورات الربيع العربي موقف الجماهير الشعبية عامة ، وموقف جماهير الشباب خاصة من الآستبداد والفساد والهيمنة ، هذا الموقف الذي جسده شعار شباب بيروت يوم أمس والموجه للسياسيين اللبنانيين : " طلعت ريحتكم" ، وهتاف شباب البصرة في ساحة التحرير : " إيران برا برا بغداد تبقى حرة " ، و هتافات شباب سوريا في كافة المدن والقرى : " الموت ولا المذلة " ، " سورية بدها حرية " .
وسوم: العدد 631