الإسلام وعصر الأنوار الأوروبي
انتقل الاسلام بأوروبا من ظلمات عصورها الوسطى الى عصر أنوارها، فكيف، ونحن ورثته نعجز ان نحقق به التنوير والاصلاح اللازمين لنهضتنا؟ وكيف، ونحن اكثر خلق الله قراءة للقرآن واستماعاً له لا نخرج من ذلك بأقباسٍ تنير حياتنا في شتى جوانبها؟
كان هذا التساؤل – على نحو أو آخر – وراء تأليف كتابين بالغيْ الأهمية، اولهما كتاب العلاّمة الهندي – عربي الاصل – أبو الحسن الندوى: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وكان ثانيهما كتاب شكيب ارسلان الملقب بأمير البيان: (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم) وقد صدرت طبعات متتابعة من الكتابين، وكانا موضعَ استشهاد كثير من الكتاب حيناً من الدهر، ثم مضيا – على أهميتهما، في مسار الزمان، لم ينحتا في صخرة التخلف، لا قليلاً ولا كثيراً..
اما كيف امكن ان يكون للاسلام دور في نهضة اوروبا، وفي التهيئة لعصر الأنوار فيها، فقد كتب المؤرخون في ذلك كثيراً، وثمة كتاب للعقاد في ذلك بالغ الأهمية على صغره، وثمّة أبحاث لمحمد عبد الهادي أبو ريده ضمتها اعماله غير المنشورة التي تولى تحقيقها ثم اصدارها في اربعة اجزاء الدكتور (فيصل بدير عون) وهي ابحاث عظيمة القيمة ولا سيما المتعلق منها بعوامل الاصلاح الديني في أوروبا، ذلك الاصلاح الذي ما كان لِتتهادى تباشيره لولا اثر الجامعات الأندلسية في أوروبا. ولولا اطلاع الأوروبيين على أعمال ابن رشد وابن حزم وابن طُفيل وابن سينا وابن خلدون والغزالي وغيرهم من أعلام الإسلام.
ولقد يطول بنا الحديث لو اردنا الوقوف بازاء واحدٍ واحدٍ من هؤلاء، لكننا نكتفي هنا بالاشارة الى عالم مثل ابن خلدون الذي يرى الدكتور ابو ريده انه واضع علم الحضارات وفلسفتها، الى جانب (علم الدولة) وفلسفتها، وعلم التاريخ وفلسفته، وعلم الاجتماع وفلسفته؛ فقد تبيّن للدارسين ان (أُوجست كونت) قد اطلع على مقدمة ابن خلدون التي كان الأوروبيون قد ترجموها قبل ان يؤسس)؟) كونت علم الاجتماع بأكثر من مئة عام، وأنه أفاد – لا ريب – منها.
ونحن لا نملك أن نتتبّع آثار حضارة العرب والمسلمين في أوروبا، منذ مطلع نهضتها الى يوم الناس هذا، كما لا نملك ان نتتبع آثار الثقافة المصرية القديمة والبابلية والكنعانية في الحضارة الاغريقية الرومانية، فتلك مهمة تنوء بحملها المؤسسات، ولكننا نملك ان ننبه قرّاءنا والمشتغلين منا بالمعرفة الى ما كتبه الدكتور حسن حنفي في موسوعة تراث الانسانية عن (القاموس الفلسفي) للفيلسوف والاديب الفرنسي (فولتير) ففيه دليل لا يُدحض على اثر الاسلام في (فلسفة الأنوار)، وهو دليل من مئات الادّلة التي يمكن الظفر بها لو تمت ترجمة نصوص فلاسفة الأنوار، على نحو ما قام به الدكتور حسن حنفي نفسه في كتابه (علم الاستغراب).
لقد كان مما نادى به فولتير ان (التوحيد) والتنزيه هما نتاج العقل المستنير، وان الاخلاق هي الدين الصحيح، وان العقل هو اساس الشرع، وان ما حسّنه الشرع حسّنه العقل من قبل، وان اليقين لا يتعدى ثلاثة: الرياضي والطبيعي )ولعله يقصد البدهي) والخبري عندما يتواتر الخبر المتفق مع مجرى العادات.. فهل هذا كله الا اثر من ثقافة الاسلام في صاحب (القاموس الفلسفي)؟
ويستشهد فولتير بعبارة لماكسيم المادوري في خطابه الى اوغسطين صاحب (الاعترافات) تقول: (انه لانسان فظ غبي هذا الذي يشك في وجود إله عظيم أزلي لا نهائي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً احد.. فهل يمكن ان نرى الى ذلك بمبعدة عن اثر القرآن الكريم، ولو كان ذلك في حدود الترجمات القيمة التي عرفتها أوروبا آنذاك؟
ونحن العرب، على أية حال، لم نجرد حملة علمية تجوب البلدان الاوروبية وتفتش مكتباتها ومتاحفها ومراكز المخطوطات فيها، ولم نقم بترجمة أمهات كتب عصر الانوار الاوروبي، ولم يكن لنا حضور مثل حضور (القبالا) اليهودية في الاكاديميات الغربية.. ولو كان لنا قدر من ذلك معقول لكنا ظاهرين على دور حضارتنا في نهضة الغرب، ولعدنا الى أنفسنا منيبين متدبرين، ولاستقر بنا الأمر على ان ما أفادت منه اوروبا بلون فهمٍ قريب او بعيد عن حقيقته هو موجود بين ظهرانينا، نملك ان نفهمه حق الفهم وان نتنوّره، وان ننهض به، وان نصدع برسالته في العالمين..
لقد كان القرآن ذكراً )اي شَرَفاً) للعرب حمّلهم الله سبحانه مسؤوليته، والعرب هم اولى الناس بأن يكونوا (أهل هذا الذكر) والقيّمين عليه.
والعرب، بعدُ، هم مادة الاسلام، وهم الأمة التي تجتمع اليها الشعوب التي سعدت بالدخول فيه، والتي تهوي اليها أفئدة سائر الخلق الذين تضمهم والمسلمين رحم انسانية واحدة والذين يتوقون الى معمورة يعمها السلام، فسبحانك اللهم: أنت السلام، ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام
وسوم: العدد 632