أضواء على الحضارةالغربية المتوحشة - والموصولة المكررة

أوروبا المتحضرة ومحاكم التفتيش تداعيات من «أوراق الموريسكي» لحميد سعيد

الموريسكي، هو العربي الذي تنصّر راغماً بعد سقوط الاندلس، ولعل مطلع قصيدة حميد سعيد الشاعر العراقي الكبير «الموريسكي» أن يكونَ جذوة من عذاب العربي المعاصر بعد احتلال الاميركان للعراق ومكرهم الكبّار في طمس معالمه الحضارية ونهب مذخوره الثقافي العريق.

يقول حميد سعيد:

مطارداً في اللغة الأولى، وفي القصيدة الأولى.

وفي الحدائق البيض، وفي الآل، وفي فردوس عبدالله.

في مملكة الماءِ وفي اليبابْ.

مطارداً فيما رأى.. وما أحب.

مطروداً الى ما لا يرى من حجر او شجر.

أدخله العلقمُ فيما لا يحبّ.

فأقام في الخراب.

وهذه الاقامة في الخراب لها شروطها أو اكراهاتها التي ينبغي ان يرتضخ لها الوريسكي المعاصر على نحو ما كان من سَلَفه الاندسي؛ وأول ذلك محو الذات وانكار الصفات، كما جاء في وثيقة أوردها مؤرخ ديوان التفتيش الإسباني «الدون روني» حيث «يُعتبر الموريسكي قد عاد الى الاسلام اذا امتدح دين محمد و(نذكر هنا قصيدة حميد سعيد عن النبي)، أو قال ان يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلاّ رسولاً، أو وصف العذراء بغير ما تصفها الاناجيل، ويجب على كل نصراني – وهيهات لهم النصرانية الحقة «والتعليق لي» – ان يبلغ عن ذلك، ويجب عليه ايضا ان يبلغ عما اذا كان قد رأى او سمع بان احدا من الموريسكيين يباشر بعض العادات الاسلامية.. او يُسمّى أبناءه بأسماء عربية، او يقسم بالقرآن أو يصوم رمضان ويتصدّق خلاله، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة، وأن يوجه وجهه نحو الشرق ويركع ويسجد ويتلو سورا من القرآن، أو ان يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الاسلامية، او ينشد الاغاني العربية، او يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، او ان يستعمل النساء الخضاب في أيديهن او شعورهن.. الى آخر هذه المحظورات التي اقامت الموريسكيين الأوائل «في الخراب» على حد تعبير الموريسكي العراقي حميد سعيد.

على أن اضطهاد الموريسكيين لم ينته عند هذا الحد، بل تعداه الى اقامة سجون للتعذيب، تماما كما كان في «أبو غريب» في العراق الحديث. لكأن تاريخ الغرب المتوحش يعيد نفسه، وكأن ماضي الغرب الأسود سيظل هو مستقبله الأسود على بني الإنسان..

ولقد استمرت محاكم التفتيش قرونا، وعندما احتل نابليون اسبانيا اصدر مرسوماً عام 1818م بإلغاء محاكم التفتيش في اسبانيا،–ولعل هذا المرسوم ان يكون تكفيرا منه على المذابح التي قام بها جنوده في المشرق العربي الاسلامي، ولا سيما في «يافا» حيث قتل ثلاثة آلاف يافاوي على شاطئ المدينة بعد أن اعطاهم (باسم مبادئ الثورة الفرنسية) الأمان! – لكن رهبان (!) الجزويت اصحاب المحاكم البشعة استمروا في القتل والتعذيب واهانة الكرامات، الامر الذي اضطر معه الكولونيل «ليمونكي» بأمر من حاكم مدريد الفرنسي لاقتحام «دير الديوان» (انظر: دولة الموحدين للدكتور محمد علي الصلابي، مؤسسة اقرأ، وسقوط غرناطة لشوقي ابو خليل، دار الفكر).

حيث اكتشفت اقبية للتعذيب، يقول الكولونيل الفرنسي عنها في مذكراته:»واذا نحن في غرفة كبيرة مريعة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، رُبطت بها سلاسل، كانت الفرائس تُقيّد بها رهن المحاكمة، وامام ذلك العمود عرش الدنيوية كما يسمونه، وهو عبارة عن دكة عالية يجلس عليها رئيس الديوان (ديوان محكمة التفتيش) والى جانبه مقاعد أُخرى أقل ارتفاعا مُعدّة لجلوس جماعة القُضاة، ثم توجهنا الى غرفة آلات التعذيب وتمزيق الاجسام البشرية, وقد امتدت تلك الغرف مساحات كبيرة تحت الارض، وقد رأيت فيها ما يستفز نفسي ويدعوني الى التقزز ما حييت، رأينا غرفاً صغيرة في حجم جسم الانسان، بعضها عمودي وبعضها افقي، فيبقى سجين الأُفقية ممدا بها حيث يموت، وتبقى الجثة في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من الأجداث البالية تُفتح كوة صغيرة الى الخارج، وقد عثرنا على عدة هياكل بشرية ما زالت في اغلالها سجينة.

ويمضي الكولونيل ليمونكي في مذكراته قائلاً:

«والسجناء كانوا رجالاً ونساء، تختلف اعمارهم بين الرابعة عشرة والسبعين، واستطعنا فكاك بعض السجناء الاحياء وتحطيم اغلالهم وهم على آخر رمق من الحياة، وكان فيهم من جُنّ لكثرة ما لاقى من العذاب، وكان السجناء عرايا زيادة في النكاية بهم (تذكروا «أبو غريب»)، حتى اضطر جنودنا أن يخلعوا اريدتهم ويستروا بها لفيفا من النساء السجينات.

ثم انتقلنا – وما تزال الرواية للكولونيل ليمونكي – الى غُرف أُخرى فرأينا هنالك ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات لتكسير العظام.

تذكروا الجنود الصهاينة وهم يكسرون عظام أطفال فلسطين) وسحق الجسم، وكانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل ثم عظام الصدر والرأس واليدين، وذلك كله على سبيل التدرّج حتى تأتي الآلة على البدن المهشم فيخرج من الجانب الآخر كتلة واحدة».

ويستأنف الشاهد الفرنسي قائلا: «وعثرنا على صندوق في حجم رأس الانسان تماما، يوضع فيه راس المعذب بعد ان يُربط بالسلاسل في يديه ورجليه فلا يقوى على الحركة، وتقطر على رأسه من ثقب في اعلى الصندوق نقط الماء البارد فتقع على رأسه بانتظام نقطة نقطة، وقد جُنّ الكثير من ذلك اللون من العذاب قبل ان يموتوا على تلك الحال».

ويمضي الكولونيل ليمونكي قائلا، فيما نعدّه من علائم التحضر الاوروبي (!) الذي تحدّر الى «ابو غريب» و»غوانتانامو» وغيرهما مما لا نعلم الان من علمه شيئا، ومما ستكشفه الايام.. يقول: «وعثرنا على آية للتعذيب تسمى «السيدة الجميلة» وهو عبارة عن تابوت تنام فيه صورة فتاة جميلة، مصنوعة على هيئة الاستعداد لعناق من ينام معها وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة، وكانوا يطرحون الشاب المعذب فوق هذه الصورة ثم يطبقون عليه باب التابوت بسكاكينه وخناجره فاذا أُغلق مُزّق الشاب وتقطع إربا إربا.

كما عثرنا على جملة آلات لِسل اللسان، ولتمزيق اثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة، ومجالد من الحديد الشائك لضرب المعذببين وهم عرايا حتى يتناثر اللحم عن العظم.

تلك صورة من تحضر الغرب وانسانيته الغريبة وهي صورة المسيحية الغراء منها براء، وإن كانت تجري فظائعها تحت دير الاصل ان يكون للتعبد وصفاء النفس وخلاص الروح.

وهنا لا بد من كلمة نقول بها إن الغرب لم يكتف بتشويه المسيحية وحشر ارثه الوثني فيها، بل اتخذها ذريعة لمآربه وأطماعه وواجهة يوارى بها وحشيته.

ونختم اخيرا بآخر مقاطع قصيدة «احوال الموريسكي» من ديوان «من اوراق الموريسكي لشاعرنا العروبي الكبير حميد سعيد» حيث يقول:

ذات أندلسٍ

ساعيد الى السهرة الغجرية ما ضاع من كهرمان المساء

وأعيد الى الطلع طلعته

والى سفن الليل رجع الغناء

واخط على الماء آخر ما كان عندي من القول

ليس سوى الماء من سيعود اليّ كما كان

يُشرِكُني في ارتجال مواسمه

ويشاركني ما سأقرأ

كنا معا ذات أندلس، فهلا نكن معا ذات يوم؟

*ملاحظة: لقد نذرت كتابي «الكتابيون في ظلال الاسلام» لتقديم مشاهد من

«التحضر العربي الاسلامي» في مقابل هذه الوحشية التي تعرّض لها الموريسكيون.

وسوم: العدد 632