المأساة السوريّة ومبادرة دي ميستورا: إنها آفاق مسدودة
شاركت في لقاءات المعارضة السورية، مع المبعوثين الدوليين الثلاثة الذين كُلّفوا تباعاً من مجلس الأمن بالملف السوري. كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي والمبعوث الحالي ستيفان دي ميستورا. كوفي عنان كان أكثرهم جدية وجرأة ومسؤولية. فالرجل هو الذي وضع خطة النقاط الست الشهيرة، التي عُرفت بخطة عنان، وأصبحت لاحقاً أساساً لبيان «جنيف 1» 2012. لكنه أدرك بحدسه الديبلوماسي المخضرم، وبفعل اطلاعه على خفايا الآليات المتحكّمة بمجلس الأمن، أن المعادلة التي كُلّف بحلّها مستعصية على أي حل، فاستقال بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على تسلّمه مهامه.
أما الأخضر الإبراهيمي فأرهق نفسه باجتماعات مطوّلة، ورحلات مكوكية كثيرة، واستمع كثيراً، لكنه أدرك، بعد نحو سنتين من تسلّمه المهمة، أن من المستحيل تغيير الموقف الروسي باتجاه الحياد على الأقل، فاستقال بعد انتهاء الجولة الثانية من «جنيف 2» الكرنفالي، في شباط (فبراير) 2014.
أما دي ميستورا، فيبدو أن اعتداده بنفسه المبنيّ على خبرته الديبلوماسية الطويلة، وتعامله مع العديد من الملفات المعقدة، يمنعانه من الاقتداء بجرأة عنان وحكمته، وهو لم يصل حتى الآن إلى قناعة الإبراهيمي باستحالة الوصول إلى حل مقبول، طالما أن العوامل السلبية ذاتها ما زالت تتحكّم بالموقفين الروسي والأميركي.
لقد بدأ دي ميستورا، كما هو معلوم، مهمته بفكرة وقف القتال وتجميد الوضع في حلب. ولتسويق تلك الفكرة، أعطى بعض الإشارات الإيجابية للنظام، متجاوزاً حدود الصلاحيات الممنوحة له، ومنها أن الأسد جزء من الحل، ما أفقده ثقة المعارضة، بخاصة الميدانية منها. فسعى جاهداً الى كسب ودّ الأخيرة عبر محاولة إقناعها بأن الفكرة لصالحها، وذلك منعاً لسقوط حلب بيد النظام، الأمر الذي لم يحدث، ولا نعتقد أنه سيحدث.
وبعدما قطع دي ميستورا الأمل بمشروع حلب، أجرى مشاورات ماراتونية مع حشد من الشخصيات السورية على اعتبار أنها تمثّل المعارضة، وهي في قسم كبير منها لا تمثّل سوى نفسها، ولا يدفعها في جهودها هاجس كيفية إيجاد حلّ لمحنة الشعب السوري، بقدر البحث عن موقع ما في وضع لم تتحدّد ملامحه بعد. كما أن قسماً كبيراً ممن شاورهم كانوا وما زالوا على علاقة وثيقة بالنظام.
وجاءت مذكّرة المبعوث الدولي بخصوص الآلية التنفيذية لبيان جنيف التي قدّمها إلى مجلس الأمن، لتحصل على موافقة مبدئية عامة غير ملزمة عبر بيان رئاسي، وهو عادة مخرج لتجاوز الخلافات بين أعضائه الدائمين من دون إلغائها، أو الحدّ من فاعليتها. والقراءة الأولية للمذكرة تبيّن أنها لا تركّز على النقطة المحورية الخلافية التي يتمفصل حولها بيان «جنيف 1»، وهي المتعلّقة بكيفية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وصلاحياتها، وموقع الأسد من أية عملية سياسية انتقالية مقبلة.
فمنذ البداية، كان التباين كبيراً بين تفسيرين: الأول روسي، لا يلغي صراحة دور الأسد، والثاني خاص بمجموعة أصدقاء الشعب السوري، تم تأكيده في اجتماع لندن في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 للدول الأساسية في تلك المجموعة، وفحواه أن بشار لن يكون جزءاً من العملية.
لكن يبدو أن مشروع دي ميستورا يقوم على أساس تجاوز النقطة الخلافية تلك، عبر إرجائها، وإغراق مختلف الأطراف بتفاصيل كثيرة ستأخذ وقتاً وجهداً، وتكون وسيلة للتسويف، وربما للإلغاء النهائي لفكرة هيئة الحــكم الانــتقالي بكامل الصـلاحيات التنفــيذية.
تتحدث المذكرة عن مهام «شرفية بروتوكولية» غير مسوّغة وغير مفهومة، لن تتمتع بها هيئة الحكم الانتقالي. وهذا معناه أن المهام اقتُطعت لإعطاء دور ما للأسد ومجموعته المسؤولة عن قتل السوريين وتدمير سورية، وأن هذا الأخير سيظلّ فاعلاً مؤثراً، يمارس دوره التخريبي من موقع رسمي، وليس في الظل كما فعل ويفعل علي عبدالله صالح في اليمن.
ومن بين التناقضات الداخلية الكثيرة التي تعاني منها المذكرة، أنها تتحدث عن صلاحيات كاملة تمتلكها هيئة الحكم الانتقالي في جميع الشؤون العسكرية والأمنية، لكنها تتحدث من جهة أخرى عن إشراف للهيئة المعنية على المجلس العسكري المشترك الذي يُفترض أن يضمّ ممثلي جميع البنى العسكرية المحلية القائمة، التي ستجتمع لمحاربة الإرهاب، الأمر الذي يعيدنا إلى الإصرار الروسي في «جنيف 2» على استبدال مصطلح الإرهاب بمصطلح العنف الذي جاء في بيان «جنيف 1». فالأولوية التي تتمحور حولها مذكرة دي ميستورا هي مسألة محاربة الإرهاب الذي كان أصلاً نتيجة إرهاب النظام، بل وبفعل جهود النظام التي استهدفت وضع الجيش الحر والفصائل الأخرى المعارضة التي تقاتل ضده بين فكّي الكماشة: هو من ناحية والإرهاب الداعشي في صورة أساسية من ناحية أخرى.
ولتجاوز عـــقدة البحث في كــيفية تشـــكيل هيئة الحكم الانتقالي التي يـــعلم دي ميســتورا أنها خارج المــتّفق عليه، يقترح جــملة ورش عمل تضمّ، وفق تصوّره، ممثلين عن النظام والمعارضة، من الائتلاف والتجمعات الأخرى التي حاولت كلّ من موسكو والقاهرة تشكيلها وتسويقها، إلى جانب ممثلين عن منظمات المجتمع المدني، يختـــارهم المبــعوث الـــدولـي، بناء على معايير نجهلها. وقد أثبتت التجارب في بلدان أخرى أن خيارات كهذه لا تكون عادة سلمية، لانتفاء سلامة مبادئ الانطلاق.
الوضع في سورية لن يعالح بمبادرات ترقيعية، يعرف أصحابها قبل غيرهم استحالة تطبيقها واقعاً على الأرض. المشكلة برزت نتيجة انسداد الآفاق أمام النظام القائم، ولن تحلّ عبر تقاسم السلطة بين المعارضة والنظام، وإهمال البواعث التي أدت إلى انطلاقة الثورة السورية قبل نحو خمسة أعوام.
محنتنا، التي لخّصتها صورة الطفل آلان كردي، ستستمر في التفاعل والتصاعد، والتأثير إقليمياً ودولياً، ما لم يتحرك المجتمع الدولي الفاعل، وأميركا تحديداً، لاتخاذ قرار واضح صريح جريء ينص على ضرورة ترحيل بشار ونظامه، وقطع الطريق على التدخل الإيراني في شؤون بلدنا وشؤون المنطقة، هذا التدخل الذي حوّل المنطقة إلى جحيم طائفي بغيض، سيلتهم الأخضر واليابس إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه راهناً.
فالتحرّك الأميركي مطلوب أكثر من أي وقت مضى، ومن دونه ستستمر الأزمة، وسيستمر القتل والتدمير والتشرد والغرق، وسيصبح كل حديث عن القيم الإنسانية والحضارية والتعاطف الإنساني الوجداني مع ضحايا بشار وحلفائه، مجرد تعمية استهلاكية.
* كاتب وسياسي سوري
وسوم: العدد 633