بين موت الطفل إيلان واغتيال الشيخ بلعوس

كان من المحتمل أن يمر موت هذا الطفل ذي الثلاثة أعوام بصمت، كموت آلاف الأطفال السوريين خلال السنوات الأخيرة بسبب قصف النظام للمناطق المأهولة بالبراميل المتفجرة أو الصواريخ أو غيرها من وسائل الإبادة الجماعية التي واظب على استخدامها، بما في ذلك السلاح الكيماوي الذي قتل بواسطته مئات الأطفال في غوطة دمشق قبل عامين. كما أنه لم يكن الطفل الأول الذي يموت غرقاً في بحر إيجة أو في البحر المتوسط، في الطريق إلى القارة الأوروبية. لكن موت إيلان المأساوي، مع أخيه الأكبر وأمه، جاء في سياق تفاقم مأساة اللاجئين السوريين بصورة غير مسبوقة، سواء من حيث ازياد أعدادهم أو المعاملة القاسية التي يتعرضون لها في بلدان العبور، كالمجر ومقدونيا، كما جاء ذلك بعد أيام قليلة على حادثة الشاحنة المغلقة التي تم اكتشافها على أحد الطرق العامة في النمسا وفي داخلها واحد وسبعون سورياً ماتوا اختناقاً، بينهم أطفال.  لا شك أن للصورة مفعولها الكبير. من الذي رأى صورة إيلان المستلقي على بطنه عند شاطئ البحر، وقد فارق الحياة بكامل أناقته، ولم يتأثر؟ وهكذا جرت تلك المقارنات بين صورة إيلان هذه وصور أخرى من كمبوديا والبوسنة والهرسك، كانت قد غيرت مجرى التاريخ. هل يكون لصورة إيلان المفعول ذاته؟ قد لا تزحزح هذه الصورة من المواقف المتباينة للقوى المتصارعة على أرض سوريا، أو قد يتأخر حدوث ذلك، لكن تغييراً مهماً حدث على أي حال. فقد تحولت مشكلة اللاجئين السوريين إلى قضية رأي عام وتصدرت اهتمامات الشعوب والحكومات التي سارعت إلى اتخاذ بعض القرارات التي من شأنها تسهيل وصول اللاجئين السوريين إلى وجهاتهم في أوروبا. وأعلنت كل من فرنسا وبريطانيا عن نيتهما في توجيه ضربات جوية لمواقع تنظيم داعش في سوريا، كأنما لصرف الأنظار عن المسبب الرئيسي لفرار ملايين السوريين من بلادهم، أعني نظام بشار الكيماوي، إلى إحدى نتائج التهاون الدولي مع هذا النظام المجرم: تنظيم الدولة الإسلامية، كما لتخدير الرأي العام المحلي لديهما بشأن مشكلة اللاجئين الملحة التي لم تقترح أية مساهمات جدية في حلها، على غرار ما فعلت ألمانيا والنمسا. فتركيز بعض الجهات على الموطن الأصلي لأسرة إيلان، بلدة كوباني، كانت الغاية منه توجيه الأنظار إلى داعش الذي حاصر البلدة، قبل عام من الآن، إلى أن تم دحر هجومه مطلع العام الحالي. هذا ما حاوله مثلاً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي زعم أن اللاجئين السوريين إنما يهربون من هذه المنظمة الإرهابية. في حين أن الأسرة المنكوبة هربت من البلدة بعد استقرار الوضع فيها تحت سيطرة وحدات حماية الشعب المحبوبة في موسكو. التطور الثاني البارز في المسألة السورية هو اغتيال الشيخ الدرزي المعارض وحيد البلعوس بعد سلسلة تصريحات له باسم «شيوخ الكرامة» أثارت نقمة النظام عليه. تم اغتيال الشيخ، وأربعين من رفاقه، في تفجيرين إرهابيين اتهم الأهالي النظامَ بارتكابهما، وبصورة محددة فرع الأمن العسكري الذي يرأسه وفيق ناصر. وسبق للشيخ أن تحدث، قبل أيام على اغتياله، عن تهديدات بالتصفية تلقاها من النظام، وبالذات من رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك. وكان رد الشيخ هو تلك العبارة التي تحولت إلى شعار ما يمكن تسميته بـ»ثورة الدروز»: «إما بكرامة فوق الأرض، أو بكرامة تحت الأرض». الواقع أن حركة «مشايخ الكرامة» بقيادة الشيخ وحيد البلعوس لا يمكن اعتبارها حركة معارضة بإطلاق الكلمة. بل هي أقرب إلى حركة مستقلة عن النظام وعن المعارضة معاً، دعت أهالي الجبل إلى النأي بالنفس عن الصراع الدائر في البلاد، بما في ذلك الاعتراض على تجنيد الشباب في الجيش إلا إذا كانت خدمتهم العسكرية داخل حدود المحافظة بحيث لا يشاركون جيش النظام في ارتكاب جرائمه بحق سوريا والسوريين. لكن هذا الموقف وحده كاف، من وجهة نظر النظام، لاعتبارهم معارضين و»عملاء لجهات خارجية» إلى آخر تلك الاتهامات الممجوجة التي يطلقها النظام بحق كل من لا يصطف معه بصورة لا لبس فيها، على مبدأ «من ليس معي فهو ضدي». وإذا كان أهالي السويداء قد اتهموا النظام صراحةً باغتيال البلعوس ورفاقه، وأطلقوا في الجنازة شعار إسقاط النظام ورأسه بالاسم، فقد لجأ النظام بدوره إلى الشيء الوحيد الذي يتقنه حينما يواجه اتهامات مماثلة. فقد عرض على شاشة تلفزيونه رجلاً يدعى وافد أبو ترابة، اعترف بأنه منفذ التفجيرين، وينتمي إلى جبهة النصرة. مع أن الرجل درزي معروف بمعارضته للنظام، وقد طالب المتظاهرون النظام بتسليم الرجل إليهم. ثورة الدروز هذه، تشكل إحراجاً كبيراً للنظام، إن كان هناك ما يمكن أن يحرجه، وهو الذي تصفه بعض القوى الداعمة له بـ«حامي الأقليات». أضف إلى ذلك سلمية المظاهرات التي خرجت تعبيراً عن غضب الأهالي على النظام القاتل، وما ينطوي عليه ذلك من استعادة أجواء الأشهر الأولى من الثورة السورية ضد النظام. هذه السلمية الواضحة، إضافة إلى الانتماء المذهبي الدرزي للأهالي، مما لا يتيح للنظام هامش مناورة للترويج لوجود «عصابات إرهابية تكفيرية» ليبرر لنفسه قصف المدينة المتمردة عليه ببراميل الموت كما يفعل كل يوم في مناطق أخرى من سوريا. تصدرت مشكلة اللاجئين السوريين اهتمامات الرأي العام العالمي، وأعادت بذلك المشكلة السورية إلى أساسها الأخلاقي: هناك «نظام» مجرم يجب أن يعاقب، ويشكل استمراره في البقاء والقتل وصمة عار في جبين البشرية، قبل أن نكون أمام مشكلة سياسية حلها سياسي أو عسكري. بالمقابل كسرت ثورة الدروز اللون الأكثري السني الذي أرادت بعض القوى تصوير الثورة السورية به للتبرؤ من متطلباتها.  تطوران إيجابيان، بثمن باهظ تمثل بموت الطفل إيلان والشيخ وحيد البلعوس ورفاقه، قد يسمحان بشيء من التفاؤل في الظلام السوري الحالك. 

وسوم: العدد 633