رسالة إلى الرسول " محمد"

أعلم أنه يحق لي مراسلتك هنا بين السطور، بعيد عن أي تهليل ديني يَلبِسُ وجوهً كثيرة في مدينتي. منذ زمن و أنا أفكر في مراسلتك، ولكني كنتُ أهاب شيئا ما، دائما أتراجع قبل الحرف الأول. ترهبني الفكرة ذاتها؛ كيف لصبية بعمري أن تراسل رسولها! و تملؤني ، والله راحة وسلام في الوقت ذاته.

اليوم؛ فقدتُ السيطرة على الرهبة تلك، شَعرتُني وحدي أحمل القلم و أخطو حرفا و اثنان ، سطرا و ثلاثة . مدينتي هي التي جعلتني أفعل ، فأنا أخاف و لا سواكَ يبعثرُ خوفي. 

زرتها اليوم، أخيرا فعلت بعد غياب خمسة عشر يوما، وأنا التي ما غبت عنها عصرا.

هل أخبرك يا رسولي، كيف تحيا القدس بالموت؟ 

****

أمام المرآة ، ظللتُ أروح و أجيء " أروح و لا لاء؟" 

ظل السؤال عالقا دون إجابة، تركته يتخبط بين جدران الغرفة الأربعة و يعود للمرآة يسألها ولا تجيب. 

في الخارج ؛ الشمس حارقة حد جهنم .

همستُ " مستاءة" ؛ متى يجيء الشتاء؟ 

في السماء؛ فَزعَ سرب الحمام من طائرة كذبابة، صوت و صورة. يا رسولي؛ بسبب هذه الحشرة الاسرائيلية التي تلوث سماء القدس بحضورها؛ أشتاق النوم.

هربت كل الحمامات ، ما عاد في السرب الا واحدة . 

****

أخيراً الحافلة ، " طلَ الزين" 

ثلاثة مقاعد مشغولة والثمانية عشر المتبقيات خياراتي للجلوس. عجبا، لطالما كانت أمنيتي الصباحية مقعد فارغ يحملني. اخترت المقعد المنفرد ورحت أشغل تفكيري عن الافكار البشعة بجمال مدينتي.  

 بين تلة و شجرة يظهر جندي بلون الزيتون، يكاد يعصر زند سلاحه، فتقع نبضة من القلب أرضا. أنا اعلم اني مذنبة ، فكيف يخاف صاحب الحق، و كيف أهاب جندي تفوق بخوفه- عليّ؟

يا محمد، يا رسول الله ؛ كل من في هذه المدينة يخاف، تُراهُ خوفه محصنا بالله و الحق. 

****

شردتُ في فكرة الموت، ماهيته؟لماذا علمونا الحياة قبل أن يعلمونا الموت؟

 انا والله، الموت لا يوجعني، يوجعني ما بعد الموت.

صاح جندي فوق رأسي؛ 

- إنتا.. هويتك .. هويتك ..إفتته شنتا ..

كان وسيما لدرجة الاشمئزاز و القذارة ، بيني و بينه مسافة متر، يحرك بطرف بندقيته حاجياتي في حقيبتي الخاصة. الحقيقة، صراخه لم يزعجني ، على العكس كان اختبارا أقيس فيه مصداقية خوفي الكاذب. 

حال القدس يشبه لعبة إلكترونية، في كل ازقة الشوارع و الساحات جنود مسلحة مستعدة لقتل اي فلسطيني يحمل في شرايينه انتماء لذرات تراب هذه الارض، انسانا كان أو قطا !

****

على الدرجات؛ كان امتحاني الاصعب، وقفت على اشارة المرور التي تمر بي الى الطرف الآخر حيث درجات باب العامود . أضاءت الاشارة اللون الاخضر لعبور المشاة ..

الاشارة حمراء ..

الاشارة خضراء .. 

و انا ملتزمة في مكاني ، كرجل آلي لا شيء فيّ يتحرك سوى عينيّ. كيف يا رسولي اقابل الدرجات؟ لونها سيكون أحمرا أم لونها المعتاد؟ سيستشهد أحدهم أمامي الآن ؟ ربما أكون انا.. أو بائع الكعك او العتال او سائق عربة الغاز .. ، الى اين يذهب هذا بعربة الغاز، سيفجر الجنود على الدرجات!!

لماذا يعدو هذا المراهق مستعجلا، هل احدهم نزف الكثير من الدماء؟ 

- خيتي ، الاشارة خضرا

بربك ،  كيف اقنع قدميّ بالعبور؟ تمسمرتا ! تخدرتا، شللت ، والله شللت. 

رأيت أحد اصدقائي على الطرف الآخر يبادلني بابتسامة سلام. 

" أيها الجبانة عليكِ العبور لا الاستسلام" همست لنفسي 

ما أطول الشارع، ما ابعد الطرف الاخر ، ما أبطء خطواتي! اقتربت من الحواجز الحديدية الحامية لمجموعة من الجنود ، فزادت قوتي.

سألني أحدهم 

- من وين إنتا ؟ 

تنفستُ الصعداء – أنا؟ 

- لا لا 

- تفحصت البقعة حولي، لم يكن احدا سواي .. أحقا خاف مني؟ 

ضحكت .

****

 الدرجة الاولى ، بداية الحكاية ، كل ما سبق محضُ إستهزاء، أنقل بصري بين الدرجات و السور ، تحديدا يسار السور ، لا أحد يعرف يا رسولي ماذا يعني لي يسار السور. 

شريط عشرة ايام يسير في الذاكرة هرولة ، أحدهم يركض ذعرا من اعلى الدرجات، و يختار الوسط ليستقر شهيدا. بأي حق أسير فوق درجات حملت من ذعره ما اشبعه موتا ؟. نبضة أخرى وقعت من القلب وأنا اتفحص لون الساحة ، أنسيّ احدهم قطرة دماء واحدة؟  عيناي سقطتا مني ارضا . 

توقفت، رفعت راسي الى السماء، تنهدت، حبست من الهواء ما يشبعني . حاولت ان اعثر على رائحة أخرى غير الدرجات، وعثرت، حبست الرائحة و باسرع خطواتي صرت عند البوابة . 

حاجز آخر! لماذا كلما اكون على قرب من الجنود يروح خوفي مني و اصير قوية يا رسولي؟ 

****

في زقاق البلدة ، كل الوجوه تنظر في وجهي مدققة، كلها ترسم  بنظراتها ملامحي. كلنا نحاول ان نحفظ ملامح العابرين، الساكنين، المحال، اصحابها، الوانها، الدرجات عند مدخلها، أسماؤها، كل ما في هذه المدينة ، قبل ان يموت.

 هذه النظرات تعيد لي خوفي و اطمئناني. فأعجب.

****

في بداية طريق الواد حاجز آخر، تعودت ، لا بأس.

أخذتُ جرعة قوتي حين مررت بجانبهم ، رفعت راسي مستقيما و تخليت عن الرجل الآلي الذي تلبسني، " الحمد لله".

وصلت باب المجلس، احد أبواب المسجد الاقصى. أصدقك القول يا رسولي، خفت ان أمنع من الدخول، خفت ان لا اعود آراه. 

إبتلعت ريقي و اقتربت من الباب، اوقفني على اليمين جندي قائلا 

- السلام عليكم 

- ها!

- هويتك 

راقبت تفاصيله العربية ، حاولت ان ادقق في ملامحه، ملابسه .. ما اوقحه يرمي عليّ السلام وهو يسلبه مني طوال  رحلتي الى الاقصى. 

فتحت حقيبتي لأخرج هويتي اللعينة ، ابتعد عني ثلاث امتار في الاتجاه الآخر موجها بندقيته نحوي.

ضحكت، " اي غباء امتلكني عندما فكرت أن اخاف اليوم؟" 

- تخافش معيش سكاكين 

- هاتي الهوية ، خدي الرقم و ارجعي من هاد الباب  " وهو يعطيني تذكرة بعد ان اعتقل هويتي حتى خروجي."

****

كأني ادخله لأول مرة.

يا رسولي؛ ما ابشعه من شعور جعلني اظن انها الاخيرة و ليست الاولى . و راح الدمع ينهمر سيلا . كل شيء فيه هذه المرة مختلف تماما، لم يشبه نفسه. كان أكثر تألقا ، لمعانا، جمالا و انبهارا ... و نُقي. 

التقيت هنا بسرب الحمام يا رسولي، فزدت اطمئنان.

الساحات ليست فارغة ، الفلسطينيون فيها من كل مكان، البلدة القديمة، الضواحي، يافا و حيفا ، عكا و النقب. 

أحدهم عن بعد ثلاث امتار ، خاطب آخرا 

- مش مروح الا ع المغرب .. خليك متخافش.

****

عند صلاة الظهر، كل فتيات مدرسة الشرعية تركوا حصصهن و معلماتهن و جئن يصلين في الاقصى. سألت إحدى الطالبات:

- كتير بجي اصلي الضهر و لا مرة انتبهت انكم بتتركوا المدرسة و بتجوا تصلوا ..

- علمونا اليهود آخر فترة كيف منخافش . ( ردت )

أرأيت عظمة أمتك يا رسول الله. 

 بقي في قلبي 1% من الخوف . 

****

في طريق العودة ، تجمع عدد كبير من الجنود عند نقطة البداية، تحديدا عملية الطعن التي قام بها الشهيد مهند الحلبي. 

على يسار الجنود جلس ثلاث شبان مقدسيين، يضحكون دون مبالاة لوجود الجنود حولهم. حين اقتربت منهم ، صحح الشباب جلستهم و راقبوا مروري بسلام . 

همس أحدهم : انتبهوا ع الصبية ، بلا ما يعملولها اشي. 

هنئني يا رسول الله فقدت آخر ذرة خوف ، أمتك يا حبيبنا ما زال الخير في نبضها ينمو. 

****

 عدت الى الدرجات ، نظرتي لم تكن تشبه النظرة الاولى ابدا، انا في البداية لم انتبه للشبان اللذين يتبادلون الكرة في الساحة، و لا للفتيات اللواتي يجلسن يتأملن السور و يتبادلن الاحاديث، لم انتبه لبائع الكعك الذي يتبختر بحرية و فخر و لم ارى العم ( ابو حطة و عجال) و هو يضرب بعصاه الارض مهنئا شهداء الدرجات بابتسامة نصر، لم يلقتني على يسار البوابة و يمينها تجمع الرجال كبار السن في حلقات تحدي. 

لم أرَ سابقا يا رسولي الا جنديا اخضرا و بندقية.

****

أحببت هذه المدينة أكثر، زاد عشقي للدرجات التي منحتني السلام، افتخر بشباب مدينتي و بلدي . اشتريت كعكا و قصدت احدى الدرجات و رحت أتأمله بدون خوف. 

#متخافش 

وسوم: 638