العقل السياسي الايراني (16)
النصوص الدستورية والتطبيقات العملية
1ـ الأحادية المذهبية:
إن الاحتماء تحت مظلة التأويلات الذاتية والقول (لا تبتني الحكومة – من وجهة نظر الإسلام – على الطبقية، أو على السلطة الفردية، أو الجماعية، بل إنها تجسد التطلعات السياسية لشعب متحد في دينه وتفكيره، حيث يقوم بتنظيم نفسه حتى يستطيع من خلال التغيير الفكري والعقائدي أن يسلك طريقه نحو هدفه النهائي وهو الحركة إلى الله) . [1]
إن هذه العبارات التي وضعها المشرع في صدر دستور جمهورية إيران الإسلامية لم تخف حقيقة نزعة الغلو العقائدي التي غمرت ألوانها الطائفية لغة الدستور فجاءت تكريسا للمذهبية الضيقة والنظرة الأحادية في أكثر من مادة من مواده.
هل من مسوغات الوحدة الإسلامية التي ترفع شعارها ولاية الفقيه النص على مذهبية الدولة؟ كما ورد في المادة الثانية عشرة (الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الاثنا عشري، وهذه المادة تبقى للأبد غير قابلة للتغيير)!! [2]
والمشرع الإيراني يعلم علم اليقين، أن الشعب الإيراني بحكم تنوع قومياته ومذاهبه الدينية لا يتبع مذهبا واحدا بعينه، فإلزام جميع مواطني البلاد بمذهب رسمي للدولة لا يعني إلا الإكراه الذي لا يجيزه الإسلام في دائرة الاعتقاد مع أصحاب الأديان الأخرى، فكيف يفرض جبرا وقسرا باسم المذهبية على الشعب الإيراني.
إن الإقرار الدستوري بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام هو النص المعمول به في دساتير أغلب الدول الإسلامية ومنها أقطار الوطن العربي، ومع ذلك لم تدع دولة لنفسها تطبيق نصوص الشريعة جملة وتفصيلا، نصا وروحا، أو تحكيمها في أمورها العامة ونشاطاتها المختلفة، ولا هذه الدول زعمت أن (الدستور إسلامي) بقدر ما اتخذت من تعاليم الإسلام وتشريعاته وأحكامه مثالا مطلقا تحاول الاهتداء به، والسير على نهجه والاقتداء به، قدر الممكن والمستطاع، فأية فضيلة تبقى للدستور الإيراني ومشرعيه قياسا بغيره حتى يدعي لنفسه ما لا يدعيه الآخرون؟!
فالنص على أن مذهبا بعينه هو المذهب الرسمي في إيران، يوحي بأن الدولة تنتهج نهجا طائفيا وأنها قامت على أساس (الخاص) وليس (العام)، بمعنى أنها خالصة لفئة قائمة بنفسها، وليست دولة لجميع المسلمين.
أما النص في المادة نفسها على أن (المذاهب الأخرى تتمتع برسمية في التعليم والتربية الدينية والأحوال الشخصية والدعاوى المرتبطة بالمحاكم..) فإنه من المفارقات التي لا تخطر على بال مؤمن مسلم حريص على وحدة الأمة، ذلك أن من شأن هذا التمييز الطائفي أن يكون مدعاة لأن يفرق المسلمين ويباعد بينهم، فالمسلمون أمة واحدة من دون الناس، وما يتبناه رئيس الدولة؛ خليفة كان أم إماما، يجب على جميع المسلمين الأخذ به والعمل بمقتضاه. لذلك يجب أن يكون التشريع والتعليم والتربية واحدا، حتى ينصهر الجميع في بوتقة واحدة، تجعل منهم وحدة متماسكة غير متنافرة.
وإذا علمنا أن في إيران حوالي (20%) من الشعب يتبعون مدرسة فقهية أخرى، فهل هذه المادة تعمل على الوحدة الإسلامية؟!
أليس هذا مخالف لروح الدستور الذي قرر في مقدمته: (الدستور يضمن زوال كل نوع من أنواع الدكتاتورية الفكرية) [3] كيف نفسر إذن فرض مذهب بعينه على بلد متعدد المذاهب أليست هذه دكتاتورية؟!
2 ـ الوقائع الميدانية والتطبيقية :
وتشير الوقائع من داخل تجربة ولاية الفقيه وتطبيقاتها الميدانية على هذه المادة وبعد مرور أكثر من (36) عاما على الدستور- إلى أن الصدام الطائفي مع قسم كبير من الشعب (20%) لا زال قائما حتى اليوم، وأن الأحادية المذهبية فرضت قيودًا غليظة على أصحاب الفقه الآخر، ومنعت الدولة بقوة الدستور حرية التعبد بغير مذهبها الرسمي في العاصمة طهران ومراكز المدن الأخرى، وما كان من الحظر قائمًا في عهد السيد الخميني تم تعميقه وتوسيع مدياته في ظل ولاية السيد علي خامنئي، بعد أن انصرف التمييز المذهبي من الدين إلى السياسة، ومنها إلى الإعلام، الذي لا يكف عن ترويج الوعي الزائف، عبر التشويه المتعمد للتاريخ العربي الإسلامي وعن تجريح الشيخين والرموز الإسلامية الأخرى.
فالأحادية المذهبية الحكومية (الدستورية) وطوال العقود الثلاثة الماضية تنشغل بإسقاط كل ما عداها من الفرق والمذاهب الإسلامية، ولا تقيم لها وزنًا. كما يعتقد المنظرون الإيرانيون والموالون لنظرية الفقيه (بأن كل من لا يؤمن بالإمامة على طريقة السيد الخميني يكون كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدًا من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم). [4]
وهذه الأحكام القاطعة التي أطلقها الخميني في جحود وتكفير مسلمين من أهل القبلة لم تتخل عنها الثورة الإيرانية، فالخميني أفاض في شرح الحديث الثالث والثلاثين الخاص بالولاية، من كتابه: الأربعون حديثًا، فقد كرر الحكم بتكفير كل المذاهب الإسلامية حين يقول: (ومن المعلوم أن هذا الأمر يختص بشيعة أهل البيت، ويحرم عنه الناس الآخرون؛ لأن الإيمان لا يحصل إلا بواسطة ولاية علي وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السلام، بل لا يقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية). وعزز الخميني منقولاته بالاستناد إلى كتاب (الكافي) في تأكيد قوله: (ذِروة الأمر وسَنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورِضى الرحمن الطاعة للإمام بَعد معرفته.. أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيُواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان) [5]
والأخبار في هذا الموضوع وبهذا المضمون كثيرة، ويستفاد مجموعها أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه، بل هو شرط في قبول الإيمان بالله والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
3 ـ فكرة التقريب بين المدارس الفقهية:
وفي ظل الأحادية المذهبية القاطعة وما يقترن بها ويترتب عليها من إقصاء وتمييز للمدارس الفقهية الأخرى، والتضييق على أصحابها، في ظل ذلك كله، أنشأت إيران واحدة من أكبر مؤسساتها تحت عنوان (مؤسسة التقريب بين المذاهب) ولا ندري حتى الآن حجم إنجازات المؤسسة بقيادة الشيخ التسخيري، وهل بوسع الرجل الفقيه وهو من كبار علماء إيران أن يفسر لنا المفارقة بين الخاص المذهبي والعام الإسلامي؟ وهل يتفضل الشيخ الجليل بإفادتنا عن تطبيقات فلسفة التقريب في الواقع الإيراني؟ ونعلم أن الرجل أجهد نفسه في حمل شعار الوحدة الإسلامية منذ ثلاثة عقود.
4 ـ المنهج الأبدي:
يتوالى اللون الطائفي السياسي في الدستور الإيراني، بوصفه منهجًا أبديًّا ففي المادة الثالثة والسبعين مثلا المتعلقة بمجلس الشورى (لا يحق لمجلس الشورى الإسلامي أن يسن القوانين المغايرة لأصول وأحكام المذهب الرسمي للدولة) ويضفي الدستور في مادته الـ(121) اللون ذاته على منطوق القسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية: (إنني باعتباري رئيسًا للجمهورية أقسم بالله القادر المتعال في حضرة القرآن الكريم أمام الشعب الإيراني أن أكون حاميًا للمذهب الرسمي..).[6]
ويبرز البعد الفقهي الواحد في الشأن العسكري المادة (144) (يجب أن يكون جيش جمهورية إيران الإسلامية جيشًا إسلاميًّا وذلك بأن يكون جيشًا عقائديًّا، وأن يضم أفرادًا لائقين مؤمنين بأهداف الثورة الإسلامية) ـ[7]
5 ـ الوحدة الإسلامية والنزعة التجزيئية:
حسب المادة (115) لا بد لرئيس الجمهورية (الإسلامية): (أن يكون إيرانيًّا ويحمل الجنسية الإيرانية) مادة (115). [8] فهل في الوحدة الإسلامية هناك مكان للإقليمية والقطرية؟ ثم أليس في الشيعة من هم من غير الإيرانيين فما الذي يمنع أن يكون رئيس جمهورية إيران الإسلامية شيعيًّا عربيًّا أم أن القضية لها بعد قومي؟
والمرجح أن الدستور وضع لدولة قومية وليس لدولة إسلامية، طبقا لقضيتي اللغة والتاريخ. فما ورد في منطوق المادة الخامسة عشرة يؤكد على (اللغة والكتابة الرسمية والمشتركة هي الفارسية)!! وما جاء في المادة السابعة عشرة (بداية التاريخ الرسمي للبلاد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتبر التاريخان الهجري الشمسي والهجري القمري كلاهما رسميين) ـ[9]
ولعل فقهاء الدستور كانوا على علم بأن للإسلام لغة واحدة، هي اللغة العربية، لا باعتبارها لغة للأمة العربية، بل لأنها لغة القرآن الذي أنزله الله بها، ولغة السنة النبوية المطهرة التي هي بيان للقرآن، ولغة التراث الفقهي الإسلامي على مدى العصور، ولأن دين الله لا يمكن أن يفهم بغير لغته ولا يمكن الاجتهاد، واستنباط الأحكام الشرعية للحوادث الجديدة إلا باللغة العربية، والدولة الإسلامية في عهد النبي والخلفاء والأئمة لم تستعمل لغة أخرى غير العربية، حتى إن جميع من أسلم من الأقوام العربية كانوا يتعلمون العربية، وكانت جميع مؤلفاتهم ومتونهم بلغة القرآن، ولم يتقن هؤلاء العربية ويؤلفوا بها لأنها لغة العرب، بل على أساس أنها لغة التوحيد، فالإسلام واللغة العربية متلازمان، ولا يجوز الفصل بينهما. ولذلك كان على واضعي الدستور الذي يحمل (الصفة الإسلامية) أن تكون لغة الدولة هي اللغة العربية وأن يكون التاريخ الهجري هو التاريخ الإسلامي وليس التاريخ القومي.
د. عبد الستار الراوي
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
المراجع
[1] راجع :
ـ دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية. طبعة وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
ـ الإمام الخميني. الحكومة الإسلامية. طبعة القاهرة – تقديم الدكتور حسن حنفي.
ـ الإمام الخميني. الأربعون حديثا. لجنة إحياء تراث الإمام الخميني. قم 1994.
ـ الدكتور عرفان عبدالحميد وآخرون. نهج الخميني في ميزان الفكر الإسلامي.
دار عمار. عمان 1985.
[2] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، المقدمة
[3] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية
[4] عبدالستار الراوي ، أوراق إيرانية ، ص 17
[5] الكليني . أصول الكافي. (م2 ج5 ص513)
[6] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، المقدمة
[7] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، مصدر سابق
[8] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، مصدر سابق
[9] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، مصدر سابق
وسوم: 640