من أكل ناسياً بطل صومه! (فصل في الأطعمة الإندونيسية)

بعد سفر ثلاثين ساعة من بيت جامعة السلطان قابوس بمدينة مسقط العمانية، وصلت إلى فندق الحديقة الحميم بمدينة جوكجاكرتا الإندونيسية، صباح الثلاثاء 7/10/2014، فدعاني أخي الفاضل الدكتور تولوس (المستقيم بالإندونيسية) مصطفى رئيس اتحاد مدرسي اللغة العربية بإندونيسيا، إلى الإفطار بمطعم الفندق ومعنا تلميذه الأثير الدكتور مهاجر، وكنت شبعان من أطعمة الطائرات، ولكنه شهاني بأطعمة الفنادق؛ فتشهيت، فإذا أطعمة إندونيسية غريبة، أرز ومكرونة وسمك ولحم متخفية بحجاب الإندونيسية الثخين، وعجين نضيج وتوابل وسوداني وفول صويا محمصان وخضراوات مجهزة للخلط، وخضراوات مطبوخة، وقطع بطاطس وعجائن فولية صويائية مقلية، وشرائح خبز سمكي وسلطة خضراء، وقطع بطيخ وشمام وشيء كأنه من أولاد الشمام والمانجو فاكهي مركب، وشرائح خبز توستي وجبن زبدي ومربى عسلية ومكسرات شيكولاتية، وعصائر الجوافة الحمراء والبيضاء، وشاي أخضر معطر وشاي أعشاب أصفر دوائي لا يصنعه غير صوانع ماهرات تمر به على البيوت!

ندمت على ما فرط من تشهي، واجتزأت بقليل من المكرونة والبطاطس والسمك والسلطة والفواكه وعصير الجوافة الحمراء والشاي الأخضر المعطر، وقبلت نافراً رشفة تعريفية من شاي الأعشاب دعاني إليها الدكتور تولوس، واعتذرت عن الأرز الذي يأكله الإندونيسيون إفطاراً وغداءً وعشاءً ولا يعدون آكلا من لم يأكله – مهما أكل – ويسمونه الناسي، ولا يأبون أن يكون منسوباً إلى الناس الذين به حياتهم، غير بعيد مما يسميه له الخليجيون عيشاً، ولا مما يسمي المصريون الخبز، ويُعايُوننا بقولهم: من أكل ناسياً (أرزاً) بطل صومه!

وعلى رغم غلبة الأرز عليهم حتى أكلوه كل وقت طبيخاً وحلوى، تراجع إنتاجهم له حتى صاروا في مستورديه، وخدعم عنه بعض رجال الأعمال الفاسدين بأنواع من البطاطس الوافدة!

تركني الدكتور تولوس على أن يأخذني مساء إلى غداء خارجي بعدما أرتاح من عذاب سفر الثلاثين ساعة، فارتحت، ثم ارتحت، ثم ارتحت ولم يأت، فاضطررت إلى مطعم الفندق، فلم أجد النظام المفتوح، وجاءتني بالقائمة النادلة، وأقبلت تشرح لي الأطعمة المصورة، فلم أفهم عنها شيئاً لا بالإندونيسية ولا بالإنجليزية، وفررت إلى غرفتي أنتظر الفرج، فلما تأخر وعضني الجوع بنابه – "ليت ما حلَّ بنا به"، كما قال البدوي الأول – أقبلت على مطعم الفندق إقبال متوجس من الفوات، وجاءتني بالقائمة نادلة أخرى – وهذا أول التوفيق – فطلبتُ ثلاثة أطباق، واشتغلت بالقراءة، فلم تلبث أن جاءتني تباعاً، وإذا أولها ربع دجاجة بلدية وقالب أرز أبيض وشرائح سلطة خضراء وصلصة توابل حمراء وإذا ثانيها سمكة بلطي كبيرة عريضة مشققة مقلية بشرائح ليمون وشرائح سلطة خضراء، وإذا ثالثها قطع بطيخ وشمام مكسوة بشرائح الجبن وسوائله على فرائش الخس! ولا والله ما اجترأ على ذلك ظني، ولكنه أجر الصبر؛ فمضيت فيها ذهاباً وإياباً ولم أدر أستغفرت لي أم مني!

وطلبتُ وثيقة التوقيع، فجاءتني النادلة بوثيقة الدفع وفيها 100000 روبية ( 60 – 65 ج. م.ع) – ويا ما أرخصها! – فنبهتُها، فجاءتني بوثيقة التوقيع بالمبلغ ومواضع إثبات رقم الغرفة واسمي وتوقيعي.

جاءني الدكتور تولوس عشاء يعتذر باستقبال ضيوفه، فعذرته ولكنه بالغ في اعتذاره بكيس أسود قائلاً: هاك بعض المياه! وإذا فيه قارورة ماء وعلبة عصير تفاح كبيرتان، وعلبة مربى عسلية، وشرائح جبن معروفة وشرائح خبز توستي وحشية غريبة، فتدللتُ بها على طوارئ الجوع الطارئة.

ومن صباح الغد حملني وزملائي إلى إدارة جامعة سونان كاليجاكا الإسلامية لنشهد افتتاح ندوتنا ثم نحاضر محاضراتنا في قاعة مناقشة الرسائل العلمية. ولكنه انعطف بنا يساراً إلى مجلس وثير لقينا فيه الدكتور محمد أمين عبد الله مهندس هذه الجامعة التكاملية الفذ ورئيسها المتنحي قريباً بعد مدتين رباعيتين لا تتيسران لغيره، وبعض نوابه، وتشاركنا في مثل الشاي الأخضر المعطر الآنف، والعنب الأحمر المعروف وموز ضئيل مُشربٍ حُمرةً لذيذ وهرائس أرز بيضاء وحمراء محشوة وغير محشوة وهرائس جوز هند محشوة، فلم نرتح إلا إلى العنب والموز!

ومساءً دعانا الدكتور تولوس إلى غابة تيمبوراسو (ظهور الطعم بالإندونيسية) الصناعية السياحية التي ساعدت هي نفسها صُناعها على صناعتها، فتسابقت إليهم أشجارُ الكلابا (جوز الهند) السامقة ومياه الوديان الحافلة بالأسماك، فعرَّشوا على هذه تحت تلك تعريشاتٍ ساحرةً غامضةً، أوينا إلى بعضها حتى جاءتنا كؤوس الشاي الأخضر المعطر والزنجبيل، وأطباق الفوق السوداني الأخضر ذي الثمار المُثلثة الحبات اللؤلؤية في قشورها، وطواجن الأرز الخشبية المستطيلة العميقة، وعجائن الصويا، وأطباق الأسماك والجمبري والدجاج والسلطات المتعددة المختلفة، وثمار الكلابا المشقوقة للمواصِّ والملاعق، فافتَتَنَّا بالفول السوداني الأخضر مع الشاي الأخضر المعطر، ثم اكتفينا بقليل من الأرز، وأكثرنا من الأسماك والجمبري والسلطة الخضراء – وظننت الدجاج بلدياً فخاب ظني – ثم ارتوينا بمياه جوز الهند، وتلذذنا بكَشِيطه حتى اضطرَّنا منتهى التاسعة؛ فسلكنا له مضايق الغابة الساحرة، ساخطين على حجاب الظلام والظالم!

بعدما قضينا من إندونيسيا كل حاجة حملني إلى المطار الدكتور تولوس وتلميذه الأثير الدكتور مهاجر، وانتظرنا وصول طائرة جاكرتا بمطعم رجال الأعمال، ودعواني إلى الطعام، فإذا طبقة فاخرة من الأطعمة الإندونيسية السابقة نفسها لا الغربية المقحمة – وكنت قد أفطرت – فألح علي أن أتعرفها، فلم أجبه إلا إلى الفول السوداني الأخضر ذي الثمار المُثلثة الحبات في قشورها، فتلذذتُ بحباته اللؤلؤية مِسك ختام، وفصوص مودة منسلكة بسلك وصال الطيبين الكرام!

وسوم: 640