الإسلام في أفريقيا الحلقة الرابعة
زهير بن قيس يواجه الروم والبربر
بعد استشهاد عقبة أصدر الخليفة عبد الملك بن مروان أوامره بتولية زهير بن قيس قيادة حملة لاستعادة إفريقية والثأر لعقبة من كسيلة، وأنجد عبد الملك زهيراً بقوة عسكرية كبيرة، وبعث إليه بالأموال من مصر، فنهض في سنة (69هـ/688م) متوجهاً إلى إفريقية، فدخل ناحية (قمونية) وعسكر بقواته فيها، وأسرع كسيلة لجمع قوة ضخمة من البربر والروم وسار بها لملاقاة زهير، وخامرت زهير فكرة الانسحاب وهو يرى الجموع الهائلة التي جمعها كسيلة، ولكن بعض القادة نصحوه بالثبات وحفّزوه على الزحف لملاقاة العدو.
وتقدم كسيلة بقواته وانتظر في موضع يسمى (ممس) قريب من الجبل، وكان ذلك المكان عامراً بالآبار الكثيرة التي سترتوي منها عساكره.
وقدم زهير برجاله ودار القتال في ممس، وكان قتالاً ملحمياً رائعاً لم تشهد له إفريقية من قبل مثيلاً في الشدة والعنف والمصابرة من كلا الطرفين. وثبّت الله المسلمين وأعانهم بجنود لم يروها، فأعملوا القتل في صفوف أعدائهم، وتمكنوا من قتل كسيلة ونفر من أعيان رجاله، وانتصر زهير وفئته القليلة المؤيدة بنصر الله على جموع الروم والبربر، وطارد المسلمون فلولهم المنهزمة إلى مسافات بعيدة، ودخل زهير القيروان منتصراً وأصلح من شأنها وشأن جامعها، ثم أرسل حملة استولت على بلد هام في شمال القيروان يعرف (بالكاف أو الكف) ويسميه العرب (شقبنارية).
وعمل الروم خلف زهير على إنزال أعداد كبيرة من قواتهم في برقة ليستعيدوها ويقطعوا على زهير خط العودة وطرق الإمداد، وتحصن الروم في (درنة) وأخذوا ينقلون إلى سفنهم الأسلاب التي غنموها في إفريقية وكذلك الأسرى والسبايا من المسلمين.
ويعود زهير مصوبا وجهته إلى المشرق - ليس عودة منهزم أو منسحب - بل لاستنقاذ برقة والمسلمين من الغزاة الروم، فيصل إلى قرب درنة والحال على تلك الصورة، وكان جيشه يسير ببطء نظراً لوعورة الأرض وطول الطريق وثقل أحمال الغنائم، فكان زهير في سبعين من رجاله فقط عندما وصل إلى قرب درنة فرأى الروم يسوقون أسرى المسلمين إلى مراكبهم، وأراد زهير انتظار وصول جيشه وهو في قلة لا تستطيع فعل شيء أمام عدو كثير العدد، فغمز فيه بعض الشباب المتحمس متهمين إياه بالجبن والخور من لقاء العدو، مما اضطره إلى خوض معركة غير متكافئة، بل كانت أشبه بعملية انتحار أقدم عليها زهير مرغماً حتى يدفع عن نفسه اتهام الآخرين له بالجبن والخوف، وكانت النتيجة استشهاده واستشهاد كل من كان معه، في ملحمة بطولية لا تقل بطولة عن ملحمة عقبة بن نافع.
وفاجأت هذه الأخبار السيئة عبد الملك، وهو عاجز عن فعل أي شيء وهو مشغول في حربه مع ابن الزبير في الحجاز.
وبعد أن انتهت أزمة ابن الزبير بمقتله سنة (72هـ/691م) واستقر الأمر بلا منازع لعبد الملك بن مروان شرع في السعي لاستعادة إفريقية ومواصلة الفتوح فيها، فاختار حسان بن النعمان الغساني على رأس جيش جرار قوامه (40,000) مقاتل ليقوم بهذه المهمة.
وخرج الجيش من دمشق سنة (73هـ/692م) ووصل إلى مصر وأقام فيها زمناً ريثما يكتمل تجمع الرجال وتكتمل عدتهم، وقد أمر عبد الملك بأن تؤخذ نفقات الجيش من خراج مصر، ولم يخرج هذا الجيش إلى إفريقية إلا في سنة (74هـ/693م)، حيث دخل حسان في تلك السنة القيروان، وأخذ يصلح من شؤونها ومن شؤون المسلمين الذين بقوا فيها ويرسم خططه للعمل المستقبلي.
وقرر حسان بداية القضاء على كل أثر للروم وسلطانهم في إفريقية، وكانت (قرطاجنة) عاصمة إفريقية البيزنطية ما زالت عامرة بالروم وحلفائهم من الأفارقة، فسار إليها ووقع بين المسلمين والروم معركة عنيفة أسفرت عن هزيمة الروم، فاقتحم المسلمون المدينة وأسروا العديد من الروم، وفر من نجا من البيزنطيين وحلفائهم إلى مراكبهم الراسية في الميناء، فحملتهم إلى صقلية وجزائر البحر. وأمر حسان بتخريب الميناء حتى لا تعود إليه مراكب الروم.
وهكذا تم لحسان القضاء على كل أمل للبيزنطيين في العودة إلى إفريقية عن طريق ميناء قرطاجنة، كان ذلك في سنة (74هـ/693م).
وبعد أن أراح حسان جنده من خلال منحهم مهلة لاستعادة قواهم وقد أنهك العديد من رجاله الجراحات التي أصابتهم في المعارك السابقة، وتيقن من جاهزية رجاله نهض للقضاء على البربر الذين ناصروا الرومان وحالفوهم ضد المسلمين.
وَيُفاجأ حسان بأمر لم يكن قد حسب حسابه، فقد ظن أن المقاومة الحقيقية تكمن في الروم وقد استطاع اجتزاز شأفتهم من بلاد إفريقية والقضاء عليهم، ليجد في مواجهته (الكاهنة) التي استطاعت تزعم البربر من قبيلة (جراوة الزناتية) فقد تجمع حولها بربر الأوراس (جبال أطلس الشرقية) متحدية المسلمين تحديا حقيقيا لم يخطر لهم على بال.
وسوم: 642