ما بدا من جبن الإسرائيليين في الانتفاضة الثالثة

 

أبغض العنصرية بغضا لا لين  فيه بحكم تكويني النفسي وتربيتي الإسلامية المنبثقة من الهدي القرآني الفذ " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " بأعرض معانيه حتى ليتسع عندي لغير المسلمين ، ولا أستثني من ذلك حتى الإسرائيليين عدونا الألد الذي نكبنا بما لم يُنكب به شعب في التاريخ ، أي سرقة وطننا واعتداده وطنا لهم ، واصطناع أقذر صنوف العنصرية ضدنا .

وأؤمن بأن " الإنسان هو الإنسان في كل مكان " ، وأن سلوكه خلاصة تربية وتوجيهات ثقافية وإن بدا لنا أن ثمة صفات لدى البشر ناتجة عن مكونات وراثية أو جينية ، لكن لا شك في أن التربية والتوجيهات الثقافية تهذب هذه الوراثيات وتنحو بها السلوك المراد على تباين في الاستجابة بين الأفراد . والثابت في ثقافتنا العربية أن اليهود ليسوا شجعانا ، وبكلمة أصرح " جبناء " ، وأقول " اليهود " تفرقة بين الهوية السياسية والهوية العرقية لسكان " إسرائيل " ؛ فمصطلح " الإسرائيليين " يشمل الفلسطينيين الذين يحملون  الجنسية الإسرائيلية ، وهذه هوية سياسية ، بينما هويتهم العرقية عربية فلسطينية . وتكونت ثقافة الاقتناع العربي بجبن اليهود من التجارب التاريخية القديمة التي تخلو من أي انتصار لليهود على العرب ، ومن توصيفات القرآن الكريم لسلوكهم  في الحرب : " لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ... " ( الحشر : 14 ) ، وتوكيد حرصهم  الشديد على الحياة : " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ... "   ( البقرة : 96) ، والشجاعة تقتضي أحيانا التضحية بالحياة ،  والإقدام قتال  بعبارة  المتنبي  . وتساءل مرة كاتب أميركي  أظنه الفريد ليلنتال : " متى كان أولا يعقوب محاربين ؟ ! " . والمفاجأة الكبيرة أن التاريخ الأخير لليهود قدم صورة مناقضة لكل ما سبق حين انتصروا تقريبا في كل حروبهم على العرب ، وثبتوا دولتهم في فلسطين بقوة السلاح ،  رغم ما يشوب هذه الحروب من نواقص ومآخذ في جانب العرب لا تليق بعددهم وقوتهم الكامنة، وأكبر هذه النواقص أن العرب لم يحاربوا اليهود جبهة واحدة ، ولم يعادوهم جبهة واحدة وإلا لاستحال انتصار اليهود عليهم ، ولاستمرت مسيرة التاريخ القديم . فانتصارات اليهود الحديثة لا تنفي قلة حظهم من الشجاعة ، وبداهة لا نخرج في حساب انتصاراتهم الانقلاب الهائل الكلي في وسائل الحرب الحديثة  وخططها وتعقد أساليبها من سياسية واقتصادية ودبلوماسية وإعلامية ونفسية . انفصل السلاح في الحرب الحديثة عن شجاعة المقاتل أو جبنه . جبان واحد برشاش يقتل ألف شجاع مسلحين بمسدسات مثلا ، وضاقت دائرة المناورة على  المفهوم الحربي الذي عبر عنه المتنبي : " إن السيوف مع الذين قلوبهم  * كقلوبهن إذا التقى الجمعان " . ومن بين ما علل به انتصار القوات الإسرائيلية على القوات المصرية في  معركة الدبابات  في حرب 1973 أن  مدافع  الدبابات الإسرائيلية الأميركية الصنع تنخفض 10 سنتيمترات أكثر من الدبابات المصرية مما جعل الإسرائيلية  أكثر فاعلية وفتكا عند الالتحام بين الطرفين . ومع التطور والتغير الكاملين في وسائل  الحرب الحديثة وأساليبها تظل ثغرات لفاعلية الشجاعة أو سلبية الجبن فيها ، وظهرت هذه الثغرات حين اضطرت القوات الإسرائيلية النظامية لمحاربة مقاومة تتبع أساليب قتالية مغايرة لما أعدت تلك القوات تدريبا وتسليحا  لمواجهته ، مثلما حدث في لبنان مع حزب الله ، وفي الأراضي الفلسطينية مع المقاومة  في كل المواجهات بين الطرفين . وشهدت الانتفاضة الثالثة  على قصر مدتها حتى الآن حالات صارخة الدلالة على جبن اليهود أصابتهم قبل غيرهم بالصدمة والخيبة والخزي في عين ذاتهم  قبل الآخرين ، وقد تدفعهم إلى إعادة النظر في مسلماتهم عن أنفسهم وعن الفلسطينيين وعن مجمل صراعهم معهم . وأقوى تلك الحالات فرار الجنود الجماعي في محطة الحافلات في بئر السبع عند سماع إطلاق النار من مهند العقبي ، وفرار جندي إسرائيلي بسلاحه أمام إياد العوادة في الخليل ، والحادثة التي أسقط فيها شاب مقدسي أعزل جنديا إسرائيليا مسلحا كان يسير خلف اثنين من زملائه ، والزيادة الكبيرة في عدد طالبي الاستشارات في العيادات النفسية من اليهود . وأقوى تعبيرات الصدمة والخيبة والخزي لديهم  مما انفضح  من جبنهم كانت على لسان مجندة إسرائيلية قالت متحسرة : " أتمنى لو خلقت فلسطينية لأكون حبيبة أو زوجة أو أخت أحد هؤلاء الشبان الأبطال ، وقتها فقط سأشعر أنني بين رجال ، وليس كما أشعر به في خدمتي في الجيش الإسرائيلي ؛ فأنا فيه أنثى بين قطيع من الإناث ليس بينهن فحل واحد " . بعد انتصار " إسرائيل " الصاعق على بعض العرب في حرب 1967 تعملق الشعور بالعظمة لدى يهودها ، وصبوا على العرب سيولا من السخرية والتحقير ، وقال طيار إسرائيلي لمجلة " تايم " الأميركية إن الطيارين العرب يستغلون مزايا طائرات الميج السوفيتية في الفرار من المعارك الجوية مع الطيارين الإسرائيليين ! وكسرت حرب 1973 كثيرا من غطرسة اليهود وغرورهم ، وفي الجبهة السورية ، في تلك الحرب ، جرى ضابط إسرائيلي ( يبدو أنه فقد بعض  عقله ) نحو المدرعات السورية ، وصرخ رافعا ذراعه : " قولوا لي كيف تقاتلون بهذه الشجاعة ؟! " ، ووا ضح أنه  كان أسير قناعة اليهود بجبن العرب التي ترسخت بعد حرب 1967 ، وزلزلت حرب 1973تلك القناعة زلزلة فاجأته وفاجأت مجتمعه ودولته ، ولكنهم لم يتحرروا منها تحررا كافيا ، ويبدو أن المقاومة اللبنانية  ممثلة في حزب الله ، والمقاومة الفلسطينية  بكل أشكالها قربتهم  كثيرا من هذا التحرر ، ودفعتهم  ، دون مبالغة ، إلى شفا فقدان الثقة في الذات ، ونأمل أن تعيدهم إلى مراجعة كل مسيرتهم في المنطقة ، وأن يحدقوا جيدا وبإخلاص مع النفس في الحقيقة التالية : إن الشعب الفلسطيني هو صاحب هذه الأرض انتماء وقانونا وتاريخا ، وإن شجاعته في حماية حقه فيها لن تغلبها قوة سلاحهم ، وإنه لن تنفع الحيل والحلول المؤقتة في إخفاء هذه الحقيقة إلى ما لا نهاية . باعث على السخرية ، وغباء خالص، وخداع نفس فريد أن يرد يهود " إسرائيل " مقاومة الشعب الفلسطيني لاغتصابهم لوطنه وحقه في الحرية والكرامة إلى " التحريض " . الطريق إلى الحل يبدأ بالاعتراف الصادق بالحقيقة التي وصفناها .

وسوم: 642