العهد الإسرائيلي الجديد

نتساءل بمناسبة بدء انتفاضة الأقصى الثالثة: كيف تم اكتشاف الهوية الإسرائيلية المسيحية للحضارة الغربية؟ وكيف تم إبعاد هذه الحضارة عن جذورها الإغريقية الرومانية التي أنتجتها ثقافة التنوير في العصور الوسطى؟ وكيف حدث إقحام الهوية اليهودية في قلب العالم الغربي؟ ومن ثم تم إقحامها في العالم العربي؟ وكيف أصبحت هذه الثنائية الجديدة (اليهودية والمسيحية) تتداولها وتعترف بها الدوائر الثقافية والسياسة الغربية؟ وكيف حدث الانزياح عن التراث الاغريقي الروماني واللجوء إلى مرجعية جذورها مسيحية - يهودية؟.

الأسباب هي: محاولة الغرب لاستعمال هوية مزيفة من أجل تحقيق توازن اجتماعي في تركيبته في مجتمع غربي مثل: (أمريكا) أصبحت الجالية اليهودية مؤثرة فيه، وأيضاً لمحاربة اللاسامية التي ظهرت في مناطق أخرى ضد اليهود، ولنقض الخطاب الكنسي الذي يضع اليهود موضع اتهام بقتل المسيح، وللتكفير عن المذابح الجماعية التي تعرض لها اليهود على أيدي النازيين، وهو شعور تاريخي بالذنب، وانتهز اللوبي الصهيوني ذلك، وصوره بأنه هولوكوست ومحرقة يجب على أوربا أن تكفر عن ذنبها بمساعدة اليهود في استيطان فلسطين بدعم غربي بريطاني أولاً، ثم أمريكي أخيراً، وكذلك لما أنتجه الطلاق البائن الذي استمر عشرين قرناً في أوربا بين الدين والعلم، وتوج هذا الزواج غير الشرعي بمولود هجين اسمه دولة إسرائيل التي أصبحت تمتلك شرعية تاريخية ودينية مدّعاة تبرر نشأتها؛ لكن الضمير الغربي، ممثلاً في مؤسساته الثقافية والسياسية والرسمية، أراد التخلص من أزمته التاريخية، وعوّض اضطهاده لليهود المشردين عبر التاريخ بإعطائهم وطناً ليس لهم، بل لغيرهم (من جيب غيرك محسناً يا بلفور).

وهكذا لم يجد الغرب حرجاً في تبني إنشاء دولة ذات أسس دينية وعرقية في فلسطين على حساب تاريخ وهوية شعب فلسطين، والدعم اللامشروط الذي تحظى به إسرائيل من طرف كثير من دول أوربا وأمريكا هو الثمن الذي يجب أن يدفعه الغرب، ليحدث مصالحة بين مذهب يدين الديانات، ويحملها مسؤولية مآسي الإنسان وحروبه، وبين هوية دينية تطهر المسيحية من تهمة اللاسامية. وهذا الأمر، قيام إسرائيل بهذا المعنى، مهّد الطريق لعولمة غربية لم نجد مثيلاً لها بعد انهيار الكتلة الشرقية، وهذه العولمة اتهمت الشرق الإسلامي باللاعقلانية والتزمّت والعنف بعد أن استثنت اليهودية، وضمتها إلى خندقها الغربي، وهذا ما أنتج مآسي إنسانية للشعب الفلسطيني المهجر، المغتصبة أرضه، المحرف تاريخه، الفاقد لحقوقه في العودة إلى وطنه بسبب موجة الصهيونية العارمة التي انتصرت على العرب في حرب 1948، وحرب 1967، فكونت دولة إسرائيل الأولى على أنقاض هوية الفلسطينيين، وها هي تريد أن تكوّن دولة إسرائيل الثانية بعد أن احتلت كافة المناطق الفلسطينية، ونهبت كل، وليس جزءاً من المقدرات الفلسطينية مثل: الأرض والمياه، وما فوق سطح الأرض وما تحتها، وما في أعماق البحار المحيطة بها، واحتلال ما تبقى من أراضٍ عربية ظلت جيوباً في داخل دولة إسرائيل المنشأة، فاستولت على الآلاف من الدونمات كان يستثمرها بدو النقب وبئر السبع، وشفطت كل مخزون مياه الضفة وغزة الجوفي، ومياه الأنهار العليا مثل: الحاصباني وبانياس ونهر الأردن، وجففت بحيرة الحولة، وفي طريقها لتجفيف بحيرة طبرية، وقننت المياه على ما تبقى من عرب فلسطين في الضفة وغزة، ولا بدَّ في مخططات الصهيونية أن تستولي على أراضي الضفة الغربية، والتي تدعي أنها (يهوديا وسماريا).

وبعد مرحلة التهويد والاستيطان التي بدأت منذ أن حطت أقدام المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين، جاءت مرحلة التهويد الكبرى لما تبقى من أراض ومصادر ومياه ومقدرات، والمناداة بفكرة الدولة اليهودية العرقية الخالصة، واحتلال القدس، وتحويلها إلى عاصمة لدولة إسرائيل التاريخية التوراتية المدعاة، والضغط على ما تبقى من عرب فلسطين للاعتراف بيهودية هذه الدولة، أو قل، اعترافهم بحكم الاعدام بروح مرحة وخلاقة، الاعدام في الهوية، وفي الحقوق في الاقامة في أراضي إسرائيل الخالصة لليهودية الصهيونية الجديدة التي ستحل محل الهوية الفلسطينية العربية الإسلامية البائدة، ومَن يرفض عليه أن يختار بنفسه مهجره، وعليه أن ينسى أن له أو لأولاده أو أحفاده حق العودة إلى أرض فلسطين المهودة.

وهذا هو المشروع الصهيوني الثاني الذي يجري في فلسطين المحتلة الآن، حيث بدأت انتفاضة الأقصى الثالثة، وفيه يتم خلق مبررات إسرائيلية كافية لإبادة الشعب الفلسطيني، أو ما تبقى من الفلسطينيين داخل القدس والأراضي المحتلة، أو ما تبقى منهم داخل إسرائيل الأولى عام 1948، وهناك آلاف الأمثلة على هذه الخطة التهويدية الثانية والأخيرة للصهاينة، حيث يسمونها (استكمال استقلال إسرائيل)، ويدعون أن إسرائيل لم تستقل كلية عام 1948، أو عام 1967، وأنها تريد أن تستكمل استقلالها بإعلان إسرائيل دولة يهودية خالصة لهم، لا وجود لأي عربي بها، ولا أرض ولا غذاء ولا ماء ولا هواء ولا مواد أولية في باطن الأرض، أو في أعماق البحر أو النهر، حتى ولا شبر أرض تبقى، وإلا فإن يهودية هذه الدولة لم تستكمل بعد.

إذن، ما فائدة المفاوضات؟ وما فائدة اللخ والعجن؟ وما فائدة التمسك بحق العودة؟ أو التمسك بشبر من أرضنا ما دامت يهودية الدولة على أرض فلسطين التاريخية قد تحققت في خطوتها الأولى عام 1967 عندما احتلت القدس وباقي الضفة الغربية وغزة؟ ثم شرعت إسرائيل في تهويد صحراء النقب والسبع، وتحديد إقامة هؤلاء الرعاة المتنقلين (من وجهة نظر إسرائيل) بحجة أنه لا أرض لهم، ولهذا، فقد هدمت السلطات العسكرية الإسرائيلية مجموعة عشوائيات لهم 90 مرة، وأعاد أهل الأرض الأصليون إقامتها (تجمع أو قرية الحضر البدوية في صحراء بئر السبع)، وإلا فما جدوى مقاومة عرب الثمانية والأربعين، وانضمامهم إلى مقاومة زملائهم في الضفة والقطاع بعد أن شعروا أن مرحلة التهويد الكلي القادمة ستطولهم؟ وأن الترانسفير القادم سيوجه لقلعهم من أرضهم؟ وما دام التهويد قادماً فلا جدوى من المقاومة، وعلى العرب الباقين أن يستسلموا، وأنه يتم الآن قلع جذورهم من أراضهم التي بقيت تحتهم، فعرب القدس الذين تبقوا مستهدفين، ويتم قلع معظمهم بمصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم بحجة أنها غير مرخصة، ولن ترخص، ومَن رخص بناؤه سيتم هدمه أيضاً في مرحلة قادمة، وأنهم إذن لا حق لهم في الإقامة، فهم سكان مؤقتون، وحتى مقابرهم التاريخية هدمت، واقتلعت، وتحولت إلى حدائق توراتية، وموجة التهويد الكبرى قادمة لا محالة ما دام الغرب يصادق على هذه الهوية الجديدة التي حلت محل هوية عربية قديمة، وكل ما يقال عن حفريات ومحاولات لهدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث المزعوم، وما يجري في شوارع القدس من منع الوصول للمسجد الأقصى المبارك، وتهويد أراضي القرى العربية المحيطة بالقدس، وبناء مستوطنات جديدة مكانها، وإطباق المستعمرات الجديدة على خنّاق أهالي القدس وما حولها، ما هو إلا خطة تهويدية جديدة لتصحيح ما سبق من افرازات ضارة للصهيونية بعد حرب الاستقلال الأولى عام 1948م. وإلا، فما الفرق بين "بن غوريون" مؤسس إسرائيل الناقصة، وبين "نتنياهو" الذي يتحكم بوسائل الإعلام الغربية، ويحظى، بكذبه وافترائه، على قبول لدى الغرب الساكت على تبديل الهوية والشخصية الفلسطينية العربية الإسلامية إلى هوية يهودية نقية تحل محلها، ويؤيد ذلك تصريح الرئيس الأمريكي "أوباما" الجديد بأنه لا يتوقع حدوث سلام بين العرب وإسرائيل حتى نهاية فترته الثانية، وأنه يحث على دولة يهودية نقية إلى جانب دولة تقام على المناطق الفلسطينية، أما أن تصمم إسرائيل على دولة نقية يهودية تضم كل شبر من فلسطين بما فيها الضفة الغربية والقدس وعرب الداخل، فإن هذا سيثير نقمة العالم عليهم، وأوباما هنا يمثل دور الناصح لإسرائيل، الخائف على مستقبلها، الحريص على بقائها ووجودها.

ولم يتبق على نتنياهو إلا أن يثير السخط، ويلصق تهمة الارهاب بالرموز الفلسطينية وقياداتها السابقة بدءاً من الحاج أمين الحسيني، ومروراً بياسر عرفات، وانتهاء بأبي مازن، وتلويث سمعة هؤلاء الزعماء إنما هو وسيلة من وسائل خطة التهويد الكاملة لفلسطين، أو قل الهوية اليهودية الكاملة بالاستيلاء على باقي الأرض وباقي الماء وباقي مقومات الهوية الفلسطينية والغاء حق العودة، والغاء حق الإقامة في الجليل والنقب والقدس، وابدال عاصمة إسرائيل الأولى تل أبيب بالقدس عاصمة أبدية موسعة وموحدة لإسرائيل الثانية التوراتية التاريخية التي تشمل الهلال الخصيب كله.

وقد انتهز الصهاينة الفرصة التاريخية، لتحقيق استكمال هويتهم اليهودية وابدالها محل الهوية العربية الفلسطينية الإسلامية، فرصة الانشقاقات العربية والانقسامات الطائفية، ووجهت أمريكا مجموعات من تمردات وثورات الربيع العربي التي مسخت فيها الهوية العربية الإسلامية، وكرّست وضعاً مأساوياً في أرجاء الوطن العربي والإسلامي ما حدا بأحد المتولين للسلطة وهو مدير الاستخبارات الفرنسية "برنار باجوليه" بالقول خلال مؤتمر أمريكي أوروبي حول الاستخبارات عقد في تشرين ثاني عام 2015 في واشنطن: (إن الشرق الأوسط الذي نعرفه قد انتهى إلى غير رجعة)، مؤكداً أنه على سبيل المثال فإن دولاً مثل: سوريا والعراق لن تستعيد أبداً حدودها السابقة مؤكداً أن سوريا والعراق مقسمتان على الأرض بين الشيعة والأكراد والسنة وداعش.. لصالح مّن سينتهي هذا التقسيم؟ لصالح هوية يهودية جديدة فرضتها الهوية الغربية المهيمنة المتسلطة، ويرأسها أمريكا، وأمريكا هي التي تتلاعب بأحجار الشطرنج في سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس وفلسطين، وهي اللاعب الوحيد، ومن ورائه تنتظر حليفتها المدللة لاستلام رقعة الشطرنج كلها، في سبيل تغيير الهوية وإنشاء إسرائيل التوراتية الموسعة الكبرى النقية الخالصة من حب الزيوان (العرب)، وفي هذه الخطة، وفي جوها المشبع بالكراهية والعنصرية والنظرة الاستعلائية على العرب وكل ما هو إسلامي، وظهور (فوبيا الإسلام)، أو الخوف من الإسلام في بلاد الهوية الغربية المتسلطة، وظهور فوبيا الارهاب الذي ألصق بالإسلام، وظهور الرسوم الكاريكاتورية الساخرة من شخص النبي محمد عليه السلام، وتصوير عمامته بأنها قنبلة موقوتة ستنفجر في الغرب، وبتصريح نتنياهو الأخير من أن الحاج أمين الحسيني هو المحرض لهتلر لحرق اليهود، وأن ياسر عرفات سمّ لتحريضه على اليهود، وكذلك أبو مازن الذي يخططون للتخلص منه، كل هذا يمهد للعهد الإسرائيلي الجديد!.

وسوم: العدد 644