فهل من يتعظ.....
الخرطوم – عبدالرحمن العاجب
يا حليل أيام زمان، والماضي التليد، والعصر الذهبي والمثل الشعبي الذي يقول (الماعندو قديم ماعندو جديد) عبارات ظل يرددها الرعيل الأول من جيل العمالقة عندما يتحدثون عن كل الأشياء الجميلة التي فقدتها البلاد ولا زالت تدفع فواتيرها يوما تلو الآخر.. وعندما يتذكر كل منهم معهد بخت الرضا أو معهد المعلمين العالي بأم درمان أو جامعة الخرطوم أيام العصر الذهبي للتعليم في السودان، فإنه يتحسر بكل حق وحقيقة على ضياع المجد التليد الذي فقدته البلاد لأسباب عديدة..
التردي الذي وصل له حال التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد والذي لا يكاد يتصوره كائن من كان.
التردي الذي صاحب المسألة المطروحة تجاوز مدخلات ومخرجات العملية التعليمية والبحثية على شقيها النظري والتطبيقي، ووصل إلى مرحلة الخطر بعد أن أطلقت الدكتورة سمية أبوكشوة وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي صرخة داوية من داخل قبة البرلمان وأمام ممثلي الشعب، وحذرت أبوكشوة من موجة جديدة لهجرة أساتذة الجامعات، وتوقعت أن تكون الموجة الأكبر من نوعها وأنه بحلول شهر سبتمبر القادم لن تجد الحكومة من يقوم بالتدريس بالجامعات بعد أن فتحت دولة قطر الباب على مصراعيه لاستيعاب أساتذة الجامعات السودانية.
أبوكشوة التي ظهرت تحت قبة البرلمان بدت أكثر تشاؤما في الورشة التي نظمتها لجنة التربية والتعليم والبحث العلمي بالبرلمان أمس الأول (الاثنين) بعد أن كالت سيلا من الانتقادات للجهاز التنفيذي وتجاوزته إلى أبعد من ذلك، ووجهت اللوم الأكبر للبرلمان.. الجهاز التشريعي والرقابي لاعتبار أنه لم يلزم الحكومة بتطبيق القانون الذي صادق عليه من قبل والذي يقضي بتحسين أوضاع وأجور أساتذة الجامعات، وقالت إنه من الأسباب التي دفعت الأساتذة إلى الهجرة، وحذرت أبوكشوة من تدهور مؤسسات التعليم العالي. وقالت حال استمرار التدهور لن يجدوا من يقوم بالتدريس في الجامعات بحلول شهر سبتمبر القادم، وأكدت أن انهيار التعليم العالي سيقود بدوره إلى انهيار الدولة.
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي هي الأخرى كشفت في تقرير لها قبل عامين عن هجرة عدد (625) عضو هيئة تدريس من حملة الدكتوراة من الجامعات السودانية بعد تركهم العمل، وأرجعت الأمر إلى أنه جاء بغرض تحسين أوضاعهم المعيشية، وحذرت الوزارة وقتها من خطورة المسألة وعدتها من العقبات التي تواجه التعليم العالي، وطالبت بتدخل الدولة لتحسين أوضاع أساتذة الجامعات حتى لا تفقد البلاد علماءها الذين قامت بتأهيلهم، وأبانت أن حملة الدكتوراة في التعليم العالي بلغ عددهم 53% معظمهم هاجروا بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة التي ظل يعاني منها الأساتذة، ويعود الأمر إلى شح التمويل الذي اعتبرته الوزارة يشكل عقبة أساسية، وأقرت الوزارة أن من أهم القضايا التي تواجهها تتمثل في وضع الأستاذ الجامعي وهجرته.
لك أن تتصور مستوى الهجرات التي ظلت تتوالى منذ فترة ومن خلالها بإمكانك أن تحكم على الحال. وبحسب التقرير السابق أن هناك (180) أستاذا فقدتهم الجامعات السودانية في أسبوع واحد بعد أن قرروا الذهاب إلى إحدى الجامعات السعودية.
وفي ذات السياق، أشار تقرير غير رسمي قبل عامين إلى أن عدد أساتذة الجامعات الذين هاجروا بلغ عددهم حوالي (2) ألف، وأن هناك جامعة سودانية واحدة هاجر منها (163) من حملة الدكتوراة في عام واحد فقط، وكشف ذات التقرير عن هجرة (345) أستاذا من جامعة أم درمان الإسلامية في فترة وجيزة لم تتجاوز بضعة شهور. وما ذكر في التقرير ربما يكون قليل من كثير ويعبر عن نماذج لجامعات محددة، وما خفي أعظم.
مشهد التعليم العالي في عمومياته يؤكد أن المشكلات التي يعاني منها كثيرة ومعقدة. ولكن هنالك آراء تقول إن مؤسسات التعليم العالي تدهورت بعد إعلان ثورة التعليم العالي التي قادت إلى إنشاء عدد من الجامعات بلغ عددها حسب إحصاءات التعليم العالي للعام 2012 حيث تقول إن مؤسسات التعليم العالي بلغ عددها (109) مؤسسات، منها (40) جامعة تقدم خدماتها لأكثر من (600) ألف طالب وطالبة، إلى جانب أن المشاكل التي لازمت تلك المؤسسات بدورها قادت إلى تدهور التعليم العالي وقلة التمويل والنقص الحاد في الأساتذة وعدم دعم البحث العلمي ومشاكل البيئة الجامعية التي قادت بدورها إلى هجرة الأساتذة الجامعيين.
شكوى متكررة ظل يرددها طلاب الجامعات السودانية تقول في مضمونها (نحتاج لدكاترة مؤهلين وأصحاب خبرات) إلى جانب الشكاوى المكتررة الأخرى من المشاكل الأخرى المتمثلة في الدعم المادي وتأهيل المعامل والأجهزة والأساتذة المؤهلين والمراجع الجديدة والبيئة الجامعية المهيأة للبحث العلمي. ولكن واقع الحال في الجامعات الحديثة والمتطورة أو(العالمية) يشير إلى أن نسبة الأستاذ للطالب (1- 30) وفي بعض الجامعات (1-25) أو (1-20) وذلك أن التعليم الحديث يتم في مجموعات صغيرة. وكي تعود مؤسسات التعليم العالي لعصرها الذهبي يحتاج القسم الواحد في الكلية على الأقل إلى أكثر من عشرة أساتذة من حملة الدكتوراة، وعشرة أساتذة من حملة الماجستير في جامعات عالمية، الأمر الذي يصعب تحقيقه في الراهن بسبب هجرات الأساتذة التي ظلت تتزايد يوما بعد يوم.
القضية في ظاهرها تبدو حديثة النشوء، لكنها بحسب الواقع قديمة متجددة، وذلك لأن تدهور التعليم مرتبط بتدهور المجالات الأخرى (السياسية، الاقتصادية والاجتماعية) ولكن الأمر في عمومياته لا يخلو من السياسات العامة للدولة التي يشوبها كثير من القصور، الأمر الذي دفع بعدد من المختصين أن ينتقدوا سياسات التعليم العالي ويطالبون بضرورة تطوير وتحسين بيئته التي من بينها تحسين الأوضاع السيئة التي يعاني منها الأستاذ الجامعي، مطالبين الجهات المختصة وعلى رأسها رئاسة الجمهورية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي بضرورة مراجعة الأمر حتى يتسنى لها إيقاف الهجرة التي ظل يتعرض لها الأستاذ الجامعي الذي أصبح وضعه في واقع الأمر صعبا للغاية وبحاجة إلى تحسين.
حسنا, الأمور مضت في الاتجاه الخطأ والقضية تجاوزت المعقول إلى حيز اللامعقول وكادت أن تصل مرحلة الظاهرة. وهذا ما دفع عدد من المختصين للمطالبة بضرورة إجراء مراجعة شاملة للتعليم العالي ومعالجة مشكلات البحث العلمي وتمويله ودعمه ورفع نسبته في الميزانية العامة لتصل إلى نسبة ثلاثين بالمائة على الأقل، إلى جانب تحسين وضع الأستاذ الجامعي وتدريبه مع تقييم وتقنين هجرته، وذلك أن الوزارة لا تستطيع إيقاف هجرتهم إلا بتحسين أوضاعهم وأجورهم للحد الذي يرضيهم ويكبح جماح تدفق الهجرات.. وإلى أن تفلح الحكومة في معالجة قضية هجرة الأستاذ الجامعي سيظل الحال كماهو عليه إلى أن ترفع الأقلام وتجف الصحف في مستقبل الأيام بعد أن تصدق نبوءة أبوكشوة ويقع (الفاس في الراس...يجب تلافي الوضع قبل ظهور المستور للعامة التى تعصف بكل شيء حتى المنشاءات العامة والبنية التحتية ليصبح السودان دولة بلا شعب او شعب بلا حكومة واخبار الربيع العربي ليست بعيدة عنا ...فهل من يتعظ ..
وسوم: العدد 644