الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 45-50

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (45)

جوجل ويوتيوب محركات كراهية وأدوات عدوان

دخلت شركة جوجل العملاقة ومعها شركة يوتيوب الضخمة الحرب إلى جانب العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ووظفتا معاً قدراتهما الجبارة وأدواتهما الخلاقة وانتشارهما الواسع ونفوذهما الكبير لصالح العدو الصهيوني، وهم جزءٌ أصيلٌ منه، الذي طلب منهما محاربة الفلسطينيين والتضييق عليهم، ومنعهم والعرب ومن يؤيدهم من استخدام محركاتهم العملاقة في نشر الكراهية والعنف، والتحريض والدعوة إلى محاربة الإسرائيليين، وتشويه صورتهم وفضح أسرارهم، وطالبتهما بمنع نشر وتداول الصور والمشاركات التي ينشرونها ضد شعب وحكومة إسرائيل، ودعتهما إلى عدم تقديم أي خدماتٍ أو تسهيلاتٍ إلى الجهات المشبوهة والمتهمة بالتحريض على العنف والإرهاب.

نائبة وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي تسيفني حوتوفيلي، المعروفةُ بتطرفها وتشددها، ومواقفها العنصرية الحاقدة ضد الفلسطينيين، التي تحمل الحكومة الإسرائيلية التي هي جزء منها، المسؤولية عن ضياع حقوق الشعب اليهودي، وتتهمها بأنها تتنازل عن الإرث اليهودي المقدس، وتحرم الشعب من حقه في أن يقيم حيث يشاء في أرض يهودا والسامرة، قامت مؤخراً بتوقيع اتفاقية مع شركتي جوجل ويوتيوب تلزمهما بتطبيق إجراءات جديدة وقاسية لمواجهة مظاهر التحريض الإليكتروني الفلسطيني، وحملتهما في حال عدم التزامهما بالاتفاق المسؤولية عن تأجيج الأحداث وتوتير الأوضاع في البلاد، والإضرار بالمصالح الإسرائيلية، وقد رأت أن الصورة والخبر التي تنقلهما شركات الإنترنت تساهم في المعركة بصورة سلبية، وتخدم الجانب الفلسطيني على حساب المواقف الإسرائيلية.

اتهمت الحكومة الإسرائيلية في معرض دفاعها عن قرارها، وتأكيدها على طلبها، جهاتٍ فلسطينية وعربية بأنها ترعى الإرهاب، وتزوده بأفكار ومفاهيم عنصرية، وأن خطر هذه الجهات أشد وأكبر من خطر الممولين أو المنفذين والمخططين، لأن هذه الجهات أصولية العقيدة، ومتطرفة الفكر، ومنغلقة على نفسها والمجتمع، وترى في الآخرين جميعاً أعداءً لهم ولشعبهم وأمتهم، ولهذا فإنهم يجيزون لأنفسهم وغيرهم أعمال القتل والاعتداء التي تمارس على الشعب اليهودي، ويستغلون ما تتيحه شركات التواصل الاجتماعي المختلفة، وشركات الإنترنت العملاقة، من أدواتٍ وآلياتٍ في نشر مفاهيمهم، وتعميم أفكارهم، وتوسيع شبكاتهم، وتجنيد عناصرهم، فضلاً عن استغلالهم لها في اختراق المؤسسات الإسرائيلية، والسطو على أسرارها وسرقة بياناتها ومعلوماتها، والدخول على الحسابات الفردية للمواطنين.

استجابت على الفور إدارة الشركتين إلى الطلب الإسرائيلي، وبدأتا تنفيذ سياسة حازمة ضد المشاركات العربية والفلسطينية المصنفة بأنها معادية للكيان الصهيوني، وحرضت على إلغاء استضافتهم وتزويدهم بالخدمة، وبدأت المخابرات الإسرائيلية تزود إدارة الشركتين بما توفر لديها من عناوين ومساهماتٍ، وحساباتٍ ومجموعاتٍ، ومواقع ومراكز، يرون وجوب شطبها، ولزوم إخراجها من الشبكة العنكبوتية وصفحات التواصل الاجتماعي، لأنها تضر بأمن كيانهم، وتحرض على العنف ضدهم، وتعرض مصالحهم للخطر، وقدمت الجهات الإسرائيلية المعنية إلى الشركة نماذج صارخة من المساهمات الفلسطينية، ودعمتها بالصوت والصورة المنشورة، وكشفت عن الحسابات النشطة والجهات الراعية والممولة.

كما طالبت الحكومة الإسرائيلية هذه الشركات بضرورة إزالة الصور ومقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية المختلفة، التي تبرز العنف الإسرائيلي، وتكشف عن جرائمهم، وتبين اعتداءاتهم الفاضحة، وتظهر حقيقة إعدامهم وقتلهم المتعمد للفلسطينيين، خاصةً صور المستوطنين الذين يعتدون على منفذي عمليات الطعن أو المشتبه بهم، فيقتلونهم بمسدساتهم أو يعتدون عليهم بعد قتلهم ويسيئون إليهم بوسائل مختلفة، ويتظاهرون بإساءاتهم علناً، ولا يخفون اعتداءاتهم، وترى الحكومة الإسرائيلية أن بعض هذه الصور تسيئ إلى سمعة كيانهم لدى المجتمع الدولي، وتشوه صورتهم النمطية الديمقراطية الإنسانية التي يدعون اتصافهم بها.

في الوقت الذي تستجيب فيه شركات الإنترنت العملاقة إلى المطالب الإسرائيلية، وتغلق حسابات، وتشطب صفحات، وتلغي اشتراكاتٍ، وتسحب مساهماتٍ، وتحجب معلومات، وتعطل محركاتٍ، فإنها تسهل عمل مجموعات السايبر الإسرائيلية، وهي مجموعات طلابية كبيرة جداً، تديرها المخابرات الإسرائيلية، وتستخدم فيها القطاعات الطلابية على اتساعها وانتشارها، وتستفيد من أصحاب الطاقات والخبرات والمواهب، وتوظفهم جميعاً، ذكوراً وإناثاً في متابعة صفحات التواصل الاجتماعي، وخلق صداقاتٍ جديدة مدروسةٍ وهادفةٍ مع نشطاء عربٍ وفلسطينيين، وتدفعهم لتشويه الصورة وتغيير القصة، وإعادة نسج خيوط الحكاية، بما ينسجم مع الرواية الإسرائيلية ويخدم أهدافها، وبما يتعارض وينسف الرواية الفلسطينية ويضر بها، أو يشطب مكاسبها ويلغي منافعها.

الحكومة الإسرائيلية التي تنادي بوقف خدمة الإنترنت كلياً عن الفلسطينيين، وقد أعلنت أنها تأذت من نشاط العرب والفلسطينيين والمؤيدين للقضية الفلسطينية على الشبكة العنكبوتية، فهم يشاركون ويساهمون، وينقلون وينشرون، ويتقنون كل اللغات، وينشطون في كل البلاد والساحات، وعندهم جيوشٌ تطوعية تعمل بلا كللٍ ولا مللٍ، ربما أنها تعمل بلا تنسيقٍ أو تنظيم، ولكن كثافة المساهمات وكثرة الاشتراكات تقلقهم، والصور التي ينشرونها والأخبار التي يبثونها تضر بهم وتضعف روايتهم.

هذه ليست المرة الأولى التي تتقدم فيها الحكومة الإسرائيلية بطلبٍ إلى شركات التواصل الاجتماعي المختلفة، وإلى شركة جوجل تحديداً، للتضييق على الفلسطينيين وتحجيم نشاطهم وفعاليتهم على الشبكة العنكبوتية، بل تقدمت إليهم بطلباتٍ كثيرةٍ مشابهة، وقد استجابت لهم الشركات كثيراً، ونفذت رغباتهم بتفاوتٍ فيما بينهم، وأصغت إلى نصائحهم وتوجيهاتهم، ولكنها اليوم تواجه خطر استمرار الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي يعني استمرارها الإضرار بمصالحهم، والانشغال بها عن قضاياهم الأخرى، وتدهور اقتصادهم، وتوقف مرافق حياتهم المختلفة، فضلاً عن إحساسهم بأنهم سيكونون في نهاية المطاف في حال استمرار الانتفاضة، مضطرين إلى دفع أثمان باهظة إلى الشعب الفلسطيني، لذا فإنهم يطلبون العون من هذه الشركات، التي تستطيع أن تؤذي وأن تضر، وأن تحجب الصورة وتغير الحقيقة، وتخفي الأدلة والقرينة.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (46)

مساعي إسرائيلية خبيثة لإنهاء الانتفاضة

صحيحٌ أن العدو الصهيوني يعتمد القوة، وأحياناً القوة المفرطة في محاولة سيطرته على الانتفاضة الفلسطينية، التي يصنف أنشطتها وفعالياتها بأنها أعمال عنفٍ، وأنه ينبغي مواجهتها بالقوة، وإن لم تُجدِ القوة في قمعها وإخمادها، فإن المزيدَ من القوة كفيلةٌ بالوصول إلى الحلول المرجوة والغايات المنشودة، وتستطيع أن تحقق ما لا يستطيع غيرها أن يحققه، وعلى أساسها برز قادتها العسكريون الكبار، الذين اشتهروا بالوحشية والعنف، والقسوة والتشدد، أمثال أرئيل شارون ورفائيل إيتان، وموشيه أرنس، وباراك وموفاز وغيرهم كثير.

وهي ذات السياسة التي اعتمدها موشيه يعالون عندما كان رئيساً لأركان جيش الاحتلال، وهو اليوم وزيراً للدفاع، حيث كان يدعو جيشه وأجهزته الأمنية إلى كي الوعي الفلسطيني، وذلك من خلال عملياتٍ عسكريةٍ عميقةٍ وموجعةٍ وذات أثرٍ بعيدٍ وطويلٍ، بحيث لا يستطيع السكان نسيانها أو تجاهل نتائجها بسهولة، بل تبقى هي وآثارها عالقةً وماثلةً في الأذهان، ويتناقلها المواطنون فيما بينهم، بشئٍ من الخوف والرعب والقلق من مصيرٍ مشابهٍ وخاتمةٍ أليمةٍ، مما يجعلهم والأجيال التالية لا يفكرون بالقيام بأي أعمالٍ مخلة بالأمن، أو تضر بالمصالح الإسرائيلية، مخافة ردود فعلٍ قاسيةٍ ومؤلمةٍ، تمس حياتهم ومستقبلهم ومؤسساتهم واقتصادهم وغير ذلك من نواحي الحياة المختلفة.

لكن هذه السياسة الدموية التاريخية المعتمدة، لا تمنع التفكير في سياساتٍ أخرى، ومناهج مختلفة، خاصةً أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تغير من منهجها العنفي المتشدد منذ تأسيس كيانهم حتى اليوم، ولكنهم لم يحصلوا على النتيجة التي يريدون، ولم يتمكنوا من كي الوعي الفلسطيني كما يطمحون، ولم ينجحوا في إخماد انتفاضات الفلسطينيين، ولا وقف عملياتهم، ولا منع مقاومتهم، بل على العكس من ذلك فإن عنفهم يولد عنفاً أشد لدى الفلسطينيين، وتطرفهم يخلق تطرفاً أعمق وأكثر أصوليةً من تطرفهم، مما يجعل سياستهم فاشلة، ومناهجهم عقيمة، وحلولهم غير مجدية.

لهذا فإن أصواتاً إسرائيلية وصهيونية، توصف بالعقلانية والمنطقية، والهدوء والحكمة، رغم أنها أكثر مكراً وأشد دهاءً، وأكبر خطراً على الشعب الفلسطيني وقضيته، ولعل أحدهم وعلى رأسهم شيمعون بيريس الرجل المتعدد المناصب والكثير الكفاءات، الموصوف عندهم وعندنا بأنه الثعلب العجوز المكار، تنادي بضرورة العمل الهادئ والتخطيط الصامت، والتغيير البطيء العميق، الذي يتجذر في الأرض، ويكون له آثار حقيقية وملموسة يصعب تجاوزها وإنكارها، ذلك أن ما يأتي بسرعة يذهب بسرعة، وما يتحقق ببطء يترسخ ويثبت، ويصمد ويقاوم، والتغيير في أرض "يهودا والسامرة" يلزمه سنواتٌ، كما لزم العودة إلى أورشليم مئات السنوات، وكما احتاج الرشاد بعد الضلال، والجادة بعد التيه عشراتُ السنوات.

يقول هؤلاء وهم أشرارٌ خطرون، وشياطين متمرسون، وعندهم خبرة محلية وأخرى أجنبية مكتسبة، علماً وممارسةً، ونظرية وتجربة، ينبغي إعادة فرز الفلسطينيين وتصنيف مناطقهم، وفق جدولةٍ أمنية ونفسيةٍ، علميةٍ اجتماعية، تلحظ الفروقات، وتعرف الخصائص والمميزات، وتلمس الرغبات والحاجات، فتميز المشاركين المتورطين، والعاملين الفاعلين، والقادة الموجهين، فتعاقبهم وأهلهم، وتحاسبهم وأفراد عائلاتهم، وتكون قاسيةً عليهم ولا ترحم ظروفهم، ولا تتردد في محاسبتهم وفق القانون، بشدةٍ تكون درساً لهم ولغيرهم.

كما ينبغي تمييز المناطق المتوترة، التي تشهد عنفاً واضطراباً، وتساهم في حالة الارتباك التي تسود المناطق، ويثبت مساهمتها في نقل شرارة الأحداث والعمليات العنيفة إلى مناطق أخرى، وعزلها وفصلها، ومعاقبتها كما الأفراد بشدةٍ وعنفٍ، فتفرض عليها السلطات حظر التجوال، أو تغلق مناطقهم وتحاصر بلداتهم، وتمنعهم من السفر والانتقال، ومن العمل والتجوال، ومن الممكن أن تحرمهم من الخدمات العامة، فتقطع عنهم الكهرباء والهاتف، وتحجب عنهم خدمة الإنترنت، أو تمنع تزويدهم بمياه الشرب، وغير ذلك من أشكال العقاب الجماعي الذي يدفع بأبناء البلدة إلى الحراك الإيجابي والمحاسبة الذاتية، ليمنعوا مجموعةً منهم، صغيرةً أو كبيرة، من إفساد حياتهم، والتضييق عليهم في عيشهم.

بالمقابل يفكر هؤلاء بضرورة مكافأة الأشخاص النظيفين، وتحفيزهم على المزيد من "النظافة" من خلال تسهيلاتٍ تمنح لهم، وعطاءاتٍ تقطع من أجلهم، فلا يمنعون من السفر، ولا يعتقلون أو يضيق عليهم، كما يتم تجنب الاعتداء الجسدي والمادي عليهم، لئلا يقتل أو يجرح أحدهم، فينتقل هو ومحيطه العائلي والمنطقة إلى المربع الآخر، حيث أن الممارسات العنيفة العمياء التي لا تميز ولا تفرق بين الخصوم، تساعد في نقل شرارة الأحداث، وتأصيل العنف بين الجميع، على ألا يتم وسم هذا الفريق بالعمالة والارتباط، والتعاون والتخابر مع الجانب الإسرائيلي، إذ أن هذا الإحساس يقتل أي مجهودٍ، ويجهض أي فكرة، فالفلسطينيون لا يقبلون فكرة التعاون، ولا يرضون بأن يوصفوا بهذه الصفة، التي هي عندهم مهينة ومعيبة، وشائنةٌ ونقيصة.

وبالمثل يتم رفع الحصار عن المناطق الهادئة، والابتعاد عن استفزاز سكانها، أو الاقتراب منها، بعد أن تزود بحاجتها من الكهرباء ومياه الشرب، وتفعل خدمات الهاتف والإنترنت، ويسمح لهم بالسفر والعلاج، والعمل والتجوال ضمن مناطقهم وغيرها، كما تسهل فيها أعمال البناء والعمران، والصيانة والترميم، ولا تحرم من التجارة البينية مع مثيلاتها، ويتم تشجيع تجارها ورجال الأعمال فيها على بناء علاقاتٍ اقتصاديةٍ متينةٍ مع رجال أعمالٍ إسرائيليين، يستطيعون مشاركتهم، وعندهم القدرة على تزويدهم بحاجتهم، وتوفير ما يلزمهم، لقاء تجارةٍ رابحةٍ، ومنافع متبادلة.

هؤلاء الإسرائيليون الذين يصفون أنفسهم بالحكماء، والذين يدعون الذكاء، ويعتقدون أنهم يفهمون أكثر مما يفهم العسكريون والدهماء، يتذاكون ويتشاطرون، ويوهمون أنفسهم بالفهم والفذلكة، ويحاولون –كما يقال- بيع الماء في حي السقايين، ونسوا بأن الشعب الفلسطيني متماسكٌ ومترابطٌ، وواعٍ ومدرك، وفاهمٌ وخبير، وعنده من التجربة الكثير، وهو أكثر من يعرف خبث الإسرائيليين ومكرهم، وسوء طويتهم وفحش سريرتهم، فهم لا يصدقونه ولا يؤمنون بأفعاله وإن بدت بريئة أو نظيفة، ويقولون له بعالي الصوت إنكم تزرعون في الهواء، وتصرخون في الوديان، اذهبوا أنتم وأفكاركم عنا بعيداً، وتعلموا من مثلنا العربي الأصيل "روحوا خيطوا بغير هذه المسلة".


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (47)

تصدعات في القيادة وبلبلة في الشارع الإسرائيلي

يخطئ من يظن أن العدو الإسرائيلي مرتاحٌ وغير قلقٍ، وأنه لا يواجه خطراً حقيقياً ولا مأزقاً حرجاً، وأن العمليات التي يتعرض إليها كل يومٍ لا تؤثر فيه ولا تهز كيانه، ولا تضعف قوته ولا تشتت صفه، ولا تصدع جبهته، وأنه على العكس من ذلك، يقتل كل يومٍ عدداً من الفلسطينيين الشبان، ويطالب المجتمع الدولي بالاعتراف بحقه في الدفاع عن نفسه، ويدفعهم لوصف عمليات المقاومة الفلسطينية بأنها عملياتٌ إرهابية.

يبدو العدو كأنه يريد أن يخرج من هذه المعركة "الانتفاضة" منتصراً، فمن جانبٍ يقتل فلسطينيين ويضيق عليهم، ويدفعهم إلى مربعات اليأس والقنوط، ومن جانبٍ آخر يكسب الرأي العام الدولي الذي يجيز له استخدام القوة لصد العنف والإرهاب التي يتعرض له ومواطنوه، ويأخذ على ذلك مكافأة وتقديراً دولياً، عندما يعطونه الحق بقمع الفلسطينيين وقتلهم.

لكن الحقيقة التي لا يقوى العدو على إخفائها، ولا يستطيع إنكارها، مهما بلغت درجة المكابرة عنده، وحالة التبجح والعناد التي يعيشها، إذ تفضحه الصورة وتكشف عن حقيقته التقارير المنقولة من شوارعه، أن مستوطنيه صاروا خائفين وقلقين، وأنهم لم يعودوا يشعرون بالسلامة والأمان رغم المسدسات التي يحملون، والشرعية التي منحوها بالقتل والتصفية، ومظاهر الاحتفال التي تصاحب كل جريمةٍ يرتكبونها، وكل اعتداءٍ ينفذونه، ومحاولاتهم إغلاق الشوارع، والاعتداء على البيوت واحتلالها طرد سكانها، وغير ذلك من مظاهر استعراض القوة، والتباهي بالسيطرة والتفوق والهيمنة.

ما يقوم به الجيش والشرطة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية لا يصنف ضمن الأنشطة العامة والمهام الاعتيادية لجيش الاحتلال، ولا يستطيع رئيس أركانه ولا هيئة ضباطه الكبار وصف عمليات الانتشار الواسع لجيشهم، ومواجهاتهم اليومية مع الفلسطينيين في كل المدن والبلدات الفلسطينية، وما يتعرضون له من احتمالات الطعن والدهس المفاجئ، بأنها أنشطة اعتيادية تأتي ضمن البرامج والدورات التي يتدرب ويتأهل عليها عديد الجيش، بل إن الكثير من الأطباء النفسيين والمشرفين الاجتماعيين في الجيش، وكلهم من الضباط المختصين علمياً في هذه المجالات، يرون أن ما يتعرض له الجنود شيءٌ خطيرٌ للغاية، ولا يستطيع الجندي أن يتعايش أو يتكيف مع هذه الأخطار، فالهجوم بالسكاكين والأدوات الحادة شيءٌ مرعبٌ ومخيف، ويترك في النفس أثراً سلبياً يصعب نسيانه، كما يصعب تخيله وتحمله، فضلاً عن أن عائلات الجنود والعناصر الأمنية يبدون خوفاً أكثر من الجنود، ويرفضون أن يكون مصير أبنائهم القتل بالسكين.

يرى فريقٌ من الضباط أن المواجهة مع الفلسطينيين لا تقوم على أساسٍ من التفوق والسيطرة، إذ أن القوة لا تحمي، والاستعدادات الهائلة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية لا تجلب الأمن، ولا تحقق السلامة، بدليل أن العمليات نفسها تتكرر كل يومٍ في الأماكن نفسها أو في أماكن ومناطق جديدة، والمنفذون قد يقتلون أو يعتقلون ولكن غيرهم يحل مكانهم بسرعةٍ، وتكون الدوافع عند المنفذين الجدد أقوى، والعزيمة أكبر، والرغبة في الانتقام والثأر أكثر وضوحاً، ويزيد في توتر الجنود والمستوطنين الإسرائيليين تصريحات قيادتهم التي تقول، أننا لا نستطيع أن نمنع شخصاً يريد أن يموت.

وغيرهم يقول أن الفلسطينيين قد نجحوا كلياً وبذكاءٍ شديدٍ في تحييد القوة العسكرية للجيش والأجهزة الأمنية، فأقصى سلاح بمكن للجيش والمخابرات استخدامه هو المسدس، وفي أحيانٍ قليلة ونادرة يمكن استخدام البندقية، وبذا جعل الفلسطينيون سلاح المعركة في حده الأدنى، فلا قوة تقمعهم، ولا سلاح يخيفهم، ولا قدرة للجيش على المبادرة باستخدام سلاحه الفتاك في مواجهة طفلة تحمل سكيناً، أو صبيٍ يتجول قرب مستوطنةٍ، أو على الطريق العامة التي يسلكها المستوطنون، الأمر الذي جعل الفلسطينيين يطمئنون إلى أن التفوق العسكري الإسرائيلي تعطل، وأنه لن يدخل المواجهة، ولن يحسم المعركة.

أما الفصائل الفلسطينية فإنها لسببٍ أو لآخر لم تتمكن من الدخول على خط الانتفاضة، ولم تستطع أن تترك بصماتها عليها، فلا مشاركة لها في التخطيط، ولا تقوم بعمليات المساندة والحماية، ولا تمول المنفذين، ولا تشرف على عملياتهم، ولا تنصحهم ولا توجههم، ولا تنتقي لهم أهدافاً أكثر دقة وأضمن نتيجة، بل تركتهم وحدهم يخططون وينفذون، ويجتهدون ويقررون، وبذا بإرادةٍ أو عن غير قصدٍ منهم، فقد انسحبوا من المواجهة، وسحبوا الذرائع من الجيش للفتك بهم، وتركوا المعركة قائمة بين جيشٍ مكفوف اليد وبين شعبٍ ماضٍ بأقل ما يملك وأبسط ما يستطيع أن يقاتل به، فلا أبسط من سكين المطبخ، ولا أكثر وفرةً من السيارات الخاصة، وكلاهما بات متوفراً بين أيديهم، ولا يمكن حصارهم لمنعهم من حيازة سكينٍ أو قيادة سيارة.

المواطنون الإسرائيليون يسألون حكومتهم بكثيرٍ من الضيق والتبرم والغضب والسخط، عن مآل الأحداث ومصير الأوضاع في المناطق، فقد اقتربت الانتفاضة من إنهاء شهرها الثاني، ولا يوجد في الأفق ما يدل على قرب التوصل إلى حلٍ بشأنها، إذ لم تجد المساعي السياسية التي بذلها وقام بها وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، كما يبدو أن الاستعدادات والحيطة والحذر غير قادرة على إخماد الانتفاضة، أو التخفيف من فعالياتها اليومية التي تزداد ولا تنقص، وقد بدا أن ذوي الشهداء أكثر من ينبري للثأر والانتقام، بدليل أن العديد من منفذي عمليات الطعن والدهس أقاربٌ وأشقاء، وكأن الحزن يمنحهم المزيد من الطاقة، والألم يولد عندهم المزيد من القوة والأمل.

اضطرابٌ وقلقٌ شديدين في الشارع الإسرائيلي على المستويين الشعبي والرسمي، وحيرةٌ كبيرة بين المسؤولين السياسيين وقادة الجيش والمؤسسات الأمنية، فلا الأول يستطيع أن يجلب حلاً سياسياً سحرياً يهدئ الأوضاع، رغم أنه يتمنى ويأمل، ويستعين بمن يستطيع ويقوى، ولا الثاني قادر على أن يلبي طلبات حكومته وأماني شعبه في قمع الانتفاضة، وإجبار الفلسطينيين على أن يعودوا إلى بيوتهم ومزاولة أعمالهم، رغم القوة التي يملكون، والسلاح الذي يحوزون، والفلسطينيون ماضون في خيارهم، ومصممون على نهجهم، فلا يوقفهم دمٌ، ولا يخيفهم قتلٌ، ولا يمنعهم عدوٌ من الإصرار على المطالبة بحقوقهم، والحفاظ على وجودهم.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (48)

الانتفاضة تميز بضائع المستوطنات الإسرائيلية

رغم أن دول أوروبا جميعها، وعلى رأسها فرنسا وبلجيكا التي يوجد فيها مراكز قيادة وإدارة دول الاتحاد الأوروبي، مشغولة بالعمليات الإرهابية التي اجتاحتها مؤخراً، وتسببت في قتل العشرات من المواطنين الأوروبيين، ونشرت الرعب في أنحائها، وأثرت كثيراً على الجاليات الإسلامية فيها، وعلى حركة اللجوء العربي الأخيرة إليها، إلا أن هذه الأحداث وما سبقها وما رافقها، وما ترتب عليها من إجراءاتٍ أمنيةٍ قاسية، وسياساتٍ جديدة ومتشددة، طالت المقيمين والوافدين العرب والمسلمين وغيرهم، إلا أن هذه الأحداث لم تستطع أن تخطف الأضواء عن الانتفاضة الفلسطينية، ولم تتمكن من جرف العالم إليها، واندفاعه نحوها رغم خطورتها ودمويتها، ولم تستطع أن تجعل منها مركزاً للاهتمام والرعاية على حساب ما يدور في فلسطين المحتلة.

فقد بقيت الانتفاضة الفلسطينية هي القضية الأكثر سخونة والأشد تأثيراً، فهي تتصدر الأحداث، وتتقدم على كل الملفات، وتسبق الأخبار، وتفرض حضورها على الجميع، لهذا فقد كان قرارُ دول الاتحاد الأوروبي بتمييز مختلف البضائع المستوردة من المستوطنات الإسرائيلية، ووضع لاصقٍ عليها، وإشارةٍ تدل على منشئها وتبين مصدرها، توطئةً لاتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ بشأنها، أحد أهم تداعيات الانتفاضة الفلسطينية، بحيث يصعب تفسير القرار بعيداً عما يجري في الأرض المحتلة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي تعتدي وتقتل، وتخرب وتدمر، فالانتفاضة الفلسطينية هي التي فرضته وحركته، وهي التي عجلت به ودفعت باتجاه تنفيذه.

هذا القرار الهام والخطير، الذي يعتبر سابقة ودلالة، وقاعدةً للانطلاق في المستقبل نحو غيره، وأساساً لفهمٍ أوروبيٍ موحدٍ تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، ليس بالقرار العادي الذي يجوز المرور عليه بسهولةٍ، ولا بالقرار السهل الذي لا يوجب التوقف عنده، ولا بالقرار الإداري الذي يخلو من التبعات والانعكاسات السياسية والاقتصادية، بل هو قرارٌ له ما بعده، وقد أغضب الإسرائيليين واستفزهم، واستنفرهم وأخرجهم عن طورهم، ودفع عقلاءهم قبل حكمائهم للثورة والغضب، والاعتراض والاستنكار، رفضاً للقرار واستهجاناً له.

اتهم الإسرائيليون بغضبٍ شديدٍ الحكومات الأوروبية بممارسة التمييز العنصري، والانحياز إلى الفلسطينيين، واتباع سياسة عنصرية مقصودة ضدهم، وأنها بهذا القرار تمارس العقاب الجماعي دون تمييز بحق مواطنين يتعبون في كسب رزقهم، ويعملون كثيراً في عملهم، ويكدون ويجتهدون، ويتفانون في اتباع أفضل أساليب الإنتاج والتصنيع لتكون لهم الأفضلية في الأسواق التنافسية، ونيل مختلف شهادات الجودة الدولية والأوزو العالمية، التي تجعل من منتجاتهم بضائع تنافسية بقيمتها ومواصفاتها، وليس بمنشئها وبمن أنتجها، في الوقت الذي كانت تأمل فيه من دول الاتحاد الأوروبي أن تزيد مساعداتها للمستوطنات، وأن تقف معهم في ظل الأزمات الاقتصادية الكونية التي تعصف بالمنطقة كلها.

وعلى الفور دعا مسؤولون إسرائيليون، برلمانيون وإعلاميون وعسكريون وأمنيون متقاعدون وغيرهم، الحكومة الإسرائيلية إلى تعليق دور دول الاتحاد الأوروبي في عملية السلام، وعدم القبول بواسطتها، ولا الموافقة على الجهود التي تبذلها، واعتبارها طرفاً غير نزيهٍ ولا مقبول، وناشدوا حكومتهم فرض عقوباتٍ على مساعي ومساهمات دول الاتحاد الأوروبي في الأراضي الفلسطينية، وعدم تسهيل تقديمها مساعداتٍ ومعوناتٍ للسلطة الفلسطينية ومناطقها، أو فرض ضرائب ورسوم على ما تقدمه من مساعداتٍ وخدمات، والتوقف عن منحها ضماناتٍ وتأكيداتٍ بحماية مصالحهم، وضمان أمنهم في المناطق الفلسطينية، وأنهم ليسوا على استعداد لمنحهم حصانةً في البلاد لتحميهم من الأخطار المتوقعة، في الوقت الذي يحاربونهم فيه، ويقدمون المساعدة لعدوهم، الذي يقتلهم ويعتدي عليهم كل يومٍ طعناً ودهساً وقنصاً.

ربما أن القرار خطوةٌ عاديةٌ وإجراءٌ بسيطٌ، وإن جاء متأخراً وغير متوقعٍ، وقد لا يكون موجعاً مادياً ومؤثراً اقتصادياً، لكنه بالتأكيد مؤذٍ سياسياً، وسيكون له آثار سلبية عليهم، وقد يوحدهم ضد دول الاتحاد الأوروبي، وقد يمارسون عليهم الدور القديم في الدلال والشكوى والابتزاز، لدفعهم للتراجع عن القرار والتخلي عن هذه السياسة، والإحساس بخطورتها عليهم، وأنها تضر بهم وتكشف ظهرهم وتعرضهم لمزيدٍ من الإجراءات العقابية الأخرى، كون هذا القرار سيكون سابقةً وقاعدة انطلاقٍ جديدةٍ، وبداية مرحلة في فرض عقوباتٍ مؤلمة من معسكر الأصدقاء وتجمع الحلفاء، خاصةً أنه يأتي في ظل التحولات الجذرية التي تفرضها الانتفاضة الفلسطينية الواعدة، وهذا ما يخيفهم أكثر من أن يكون هذا القرار ممهداً لقراراتٍ أخرى وخطواتٍ أكثر جديةٍ مما قد تفرضها الانتفاضة عليهم.

قد يلتف الإسرائيليون على القرار وقد يحاولون تفريغه من مضمونه، وقد يزورون الوقائع ويزيفون الوثائق والمستندات، ويعيدون تصدير منتجاتهم بشكلٍ آخر، إرضاءً للمستوطنين وتجنباً للخسارة، لكن القرار يبقى خطوة سياسية بامتيازٍ، وهي ليست عبثة ولا مزاجية، وقرارها ليس صادراً عن مسؤولٍ اقتصادي أو مشرفٍ إنساني أو اجتماعي، إنما صدر عن القيادة السياسية للاتحاد التي تعرف ماذا تريد وماذا تقرر، وقرارها يدل بالتأكيد على شكلٍ من أشكال العقوبة وعدم الرضا، مهما حاول الإسرائيليون تجاوزها أو سعى الأوروبيون للتخفيف منها، والإسرائيليون الغاضبون أكثر من يعرف جدية وخطورة هذا القرار.

لولا الانتفاضة الفلسطينية الغضة الشابة، التي تروي عروق مسيرتها بالدم، وتغذي حركتها بروح الشباب، وتثري انطلاقتها بالشهداء الذين يتتابعون في سلسلةٍ ذهبيةٍ وضاءةٍ، ما كان للأوروبيين أن يلتفتوا إلى الشعب الفلسطيني وقضيته، ولا أن يغضبوا من العدو المحتل ويعاقبوه وإن كان حليفهم وصديقهم، وهم المجروحين بما تعرضوا لها، والمصدومين بما فوجئوا به من تفجيراتٍ واعتداءاتٍ، ولكنها الانتفاضة المباركة الخطى، والطيبة الثمر، تأبى إلا أن تكون ثمارها طيبة، وجناها ناضجاً، وزرعها يانعاً يؤتي أكله كل حينٍ خيراً وبراً، وعما قريبٍ حريةً ونصراً، ودولةً ووطناً.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (49)

الخليل مدينةٌ منكوبة

الخليل مدينةٌ منكوبةٌ بحقٍ، مبتلاةٌ عن جدٍ، ليس لأنها المحافظة التي قدمت أغلب الشهداء وحسب، ولا لأنها التي قدمت معظم الشهيدات، ولا لأن دماء أبنائها قد توزعت على كل المدن والبلدات الفلسطينية، ولا لأن أهلها دفعوا ضريبة حمل مشاعل المقاومة ومواقد الانتفاضة إلى كل أرجاء القدس والضفة، ولا لأنها المحافظة التي عانى أهلها كثيراً عندما حجزت سلطات الاحتلال جثامين أبنائها، وامتنعت عن تسليمها لهم لدفنها والصلاة عليها، ولا لأنها المدينة الأكثر سخونةً والأشد عطاءً، والأكثر مشاركةً والأسرع انخراطاً، والأسبق مواجهةً.

ولا لأن أهلها يعاندون ويصرون، ويصمدون ويصبرون، ويعضون على الجرح ولا يبكون، ويحتملون كل مصيبةٍ تنزل بهم وتحل عليهم ويقولون "بيهمش"، ولا لأنها الأكثر اجتياحاً والأقرب إلى فشة الخلق الإسرائيلية ومتنفس غضبهم، يجردون عليها الحملات الأمنية والعسكرية، ويداهمونها ويفتشون بيوتها وينكثونها، ولا لأن سلطات الاحتلال تغلقها دوماً وتحولها إلى مناطق عسكرية مغلقة، وتمنع الدخول إليها والخروج منها، فتعاقبهم جميعاً وتحاصرهم طويلاً، وتصادر بيوتهم، وتبني الأسوار العالية بينها، وتمنع أحداً من الاقتراب منها أو الدخول إليها، وتبقي على المستوطنين فيها أحراراً يجولون ويجوسون، ويخربون ويفسدون.

إنما هي إلى جانبِ كل ما مضى وسبق، وما يجد ويحدث، مدينةٌ منكوبةٌ لأنها المدينة الأكثر اختراقاً من المستوطنين، فهم يستوطنون قلبها وأطرافها، ويسكنون بيوتها ويغتصبون منازل أهلها، ويستولون على أسواقها ويحتلون متاجرها، ويسورون بعضاً من مناطقها، ويدعون ملكيتهم لها، ويضعون عليها بواباتٍ ومداخل، وينصبون فوقها كاميراتٍ وأجهزة مراقبة، ويفرد لهم جيش العدوان مئات الجنود لحمايتهم والدفاع عنهم، وتلبية حاجاتهم والسهر على راحتهم، وهم في المدينة قلة، وبين السكان العرب أقلية لا تذكر، فهم مئاتٌ يملكون كل شئ إلى جانب عشرات آلاف الفلسطينيين الذين يحرمون من كل شئ.

وهي مدينةٌ منكوبةٌ لأنها الأكثر إلى جانب مدينة القدس حضوراً لغلاة المتدينين المتشددين، الذين ينتشرون فيها كالفطر، ويتحركون خلالها كالزواحف، ويبتلعون الحقوق كالتماسيح، ويؤذون السكان كالحشرات، كما البق والقمل، والبعوض والذباب، لا يحتملهم أحد، ولا يقبل بوجودهم إنسانٌ، لكن الحكومة تطلقهم كالبغاث، وتنشرهم بين السكان كالجراد، ولا تعترض على سلوكهم، بل تحمي وجودهم، وتعزز اجتياحاتهم، وتفرح لهم إذا نالوا من سكانها العرب، فصادروا بيوتهم أو حرقوا أولادهم.

وهي كذلك لأنها المدينة الأكثر استيطاناً والأقدم اغتصاباً، وهي محل أطماعٍ يهوديةٍ قديمةٍ، وحولها تدورُ قصصٌ وحكاياتٌ، وأساطيرٌ وخرافاتٌ، أبطالها ملوكٌ وأنبياء، وقادةٌ وحاخاماتٌ، يروون عنها ما لا نعرف، وينسبون إليها ما لا نصدق، ويريدون من العالم كله أن يصدق خرفهم، وأن يؤمن بخبلهم.

 وفيها مستوطنة كريات أربع، التي تكاد تتفوق على جميع المستوطنات تطرفاً وتشدداً، وعنصرية وصهيونية، وفيها سكن وإليها ينتمي مائير كاهانا مؤسس حركة كاخ العنصرية، ومنها خرج المتطرف باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي فجر يومٍ من شهر رمضان المعظم، وما زال غيرهما منها يخرجون.

وهي منكوبةٌ لأن اليهود استولوا على حرمها، وأقاموا في مسجدها الإبراهيمي، واقتطعوا منه مساحاتٍ كبيرة، وخصّوا أنفسهم بأركانٍ كثيرةٍ، وزوايا متعددة، أقاموا فيها لأنبيائهم قبوراً، ولنسائهم مقاماتٍ، وأخذوا يزورونها في كل الأوقات، ويحرمون في الوقت نفسه المسلمين من الصلاة في مسجدهم، بل يطردونهم منه، ويمنعون المؤذن من رفع الآذان فيه، ويجبرون جيرانه على إغلاق نوافذ بيوتهم، وعدم استخدام أبوابهم المطلة على الحرم في الدخول والخروج منها، لتمكين اليهود من الصلاة في المسجد، وعدم التشويش على الرحلات المدرسية إليه، واحترام مراسم الزواج والختان التي يجريها اليهود وفقاً لعقيدتهم داخل بهو المسجد، في وقتٍ يخلو فيه بالأمر العسكري لأيامٍ من المصلين الفلسطينيين.

إنها مدينة منكوبة لأن الكابينت الإسرائيلي وهو مجلس الوزراء المصغر المعني بدراسة الشؤون الأمنية والعسكرية، قد قرر القيام ببعض العمليات الموضعية المحدودة في أكثر من مكانٍ في مدينة الخليل وبلداتها، وذلك لإجهاض أي مخططاتٍ عسكرية، وتفكيك الخلايا التنظيمية التي تتشكل قبل أن تقوى وتباشر عملها، وقرر أن يجعل منها مدينة السياجات والحواجز، والبوابات والمعابر، والحواجز ونقاط التفتيش.

مدينة الخليل لا ينجو أطفالها من القتل، كما لا ينجون أيضاً من الاعتقال، فقد اعتادت سلطات الاحتلال على معاقبة سكان المحافظة التي أوجعتهم بمشاركاتها في الانتفاضة، باعتقال أطفالهم وتوقيف صغارهم، وتقوم بنقلهم إلى المعتقلات والسجون، وتحقق معهم وتعذبهم، وتعرضهم على القضاء والمحاكمة، وتفرض عليهم بالإضافة إلى السجن غراماتٍ مالية عالية، بينما تقتل آخرين من الجنسين لمجرد الاشتباه بهم، أو الاقتراب منهم، ولو كانوا على أبواب مسجدٍ أو في داخل مستشفى، زيارةً لمريضٍ أو مرضى على أسرتها.

 مهما تحدثنا عن مدينة الخليل، المدينة والمحافظة، فلن نفيها حقها، ولن نجزيها على ما قدمت وأعطت، ولن نتمكن من تقديرها كما ينبغي، ومكافئتها كما يجب، فقد تجاوزت التوقعات، وتخطت التقديرات، وبات اسمها علماً، ومواطنها على العدو خطراً، ووجوده في أي مكانٍ إشارة على المقاومة، ودلالة على الفعل، يهابون من وجوده إذا حضر، ويتحسبون من غيابه إذا غادر، فهو في وجوده ثائرٌ، وإذا غادر وانتقل فإنه يحمل جذوة الانتفاضة، ويسعر شعلتها حيث يذهب.

ولكن ما أصابها بعد ذلك أكبر من قدرتها على الاحتمال، وأشد مما يتوقعه سكانها ويتخيله أهلها، رغم أنهم ليسوا ساخطين ولا غاضبين، ولا شاكين ولا متبرمين، فهم راضون بقضاء الله ومسلمون له ومتوكلون عليه، ويسألونه سبحانه أن يجزيهم على صبرهم خير الجزاء، وأن يعوضهم عن مصابهم خيراً، إلا أن العدو صب جام غضبه عليها، وتسلط على أهلها وشبابها، فلاحقهم وطاردهم، وقتلهم على الهوية، واستباح دمهم وحريتهم لمجرد أنهم ينتسبون إلى الخليل.

كل التحية للخليل وأبنائها، للمدينة والمحافظة، ولكل بلداتها وقراها ومخيماتها، ليطا والظاهرية والعروب والفوار ودورا وسلفيت، والسموع وحلحول، وصوريف وإذنا وسعير، وبيت عوا وبيت أمر وتفوح والشيوخ، وكل قراها وأحيائها وبلداتها الصغيرة والكبيرة، ولكل من سكنها وأحبها، وأقام فيها وعرف أهلها، وصلى في مسجدها الإبراهيمي وبكى على مآله، وحزن على ما أصابه.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (50)

ستون يوماً وشهرٌ جديدٌ

مضى شهران على انتفاضة القدس الثانية التي تأكد أنها انتفاضةٌ أصيلةٌ وليست هبة عابرة، لها تقاليدها وعاداتها، وأسلوبها ومنهجها، ورجالها ورموزها، وسمتها وشكلها، وسلاحها وعدتها، ومفرداتها وأدواتها، وضربت في عمق الأرض جذورها، وامتدت على مدى الوطن أغصانها، وانتشرت في عموم البلاد ظلالها، وسادت بين قطاعات الشعب كله، الذي انخرط فيها بروح الإيمان، وعقيدة الثبات، وصدق المؤمنين، تعبر عن إرادتهم لا عن يأسهم، وتترجم يقينهم لا شكهم، وتقصد الحرية لا التغيير، وتسعى للكرامة لا التزييف، وتتطلع إلى استعادة الوطن لا إلى التسول على موائد اللئام من أجل قطعةِ أرضٍ هنا، أو تسهيلٍ هناك.

شهران كاملان دمويان قاسيان مؤلمان متعبان مجهدان، أيامهما متواصلة، وأحداثهما متوالية، وفعالياتهما متشابهة، وأبطالهما هم الشباب، ومسعروهما هن الشابات، ووقودهما الدم، ومحركهما اليقين والإيمان، وفيهما روح الثأر عالية، والرغبة في الانتقام كبيرة، ولا يوقف توالي أيامِهما وكرَ لياليهما المضنية قهرُ العدو ولا صلفُ الاحتلال، ولا حقدُ المستوطنين ولا ضغينةُ المتدينين، ولا يضع حداً لهما دمٌ مهراق، ولا شبابٌ يستشهد، ولا بيوتٌ تهدم، ولا حصارٌ يفرض، ولا عقوباتٌ تطبق، ولا إحساسٌ بالوحدةِ، ولا شعورٌ بالغربة، يستغلهما العدو المحتل في الاستفراد بالشعب والنيل من الأهل.

شهران من عمر فلسطين وقضيتها العادلة لا ينسيان، هما عمر الانتفاضة المجيدة، قدم فيهما الشعب الفلسطيني مائة وعشرة شهداء من كل بقاع الوطن الحبيب، جلهم من الشباب، وفيهم ثلةٌ كبيرةٌ من الشاباتِ، فما ضنت منطقةٌ أو مدينةٌ على فلسطين بدمها، بل امتزج الدم الفلسطيني واختلط، وتوحد في شلالٍ واحدٍ، إذ ساهمت غزة وضحت الضفة واشترك الأهل في عمق أرضنا العزيزة، في ملحمةٍ بطوليةٍ تكاد تكون هي الأولى بين الانتفاضات الثلاثة، التي جعلت الوطن كله جبهةً واحدة، وسوحه كلها ميادين قتالٍ ومواجهة، فيها العدو واحد، كما أن الحق فيها كلها واحد، ومع كل فجرٍ جديدٍ هناك شهداء آخرون، يصعدون كما الشجرة الطيبة أصلها في الأرض وفرعها في السماء.

شهران ثقيلان صعبان مران مضيا، كان الشعب فيهما يخوض غمار المواجهة وحده، ويتحدى بنفسه العدو بقوةٍ وأمل، ويقينٍ وإصرارٍ، فكان يعمل وحده، ويخطط بنفسه، ويستطلع بقدراته الذاتية، ويتسلح بما أمكن تجهيزه من أدوات المطبخ، وآليات النقل والحركة، ولا يمده أحدٌ بسلاح، ولا يموله آخرون بمال، أو يزودهم بمؤونة تعينهم على مواصلة المقاومة وتعويض الخسائر التي تلحق بهم.

شهران طويلان أتمان، ستون يوماً من الكر والفر، والطعن والقتل، والنزال غير المتكافئ، والمعركة غير المتوازنة، بين شعبٍ أعزلٍ لا يملك قوةً ماديةً تعينيه وتمكنه من المقاومة، وعدوٍ شرسٍ عنيدٍ مغرورٍ متغطرسٍ ظالمٍ معتدي، يعتمد القوة ويستخدم السلاح، ويقاتل بأحدث ترسانته العسكرية شعباً أعزل، سلطته عنه مشغولة، وفصائله مهمومةٌ بغيره، ومنشغلة بمصالحها ومنافعها ومكاسبها عنه، ولا تملك الوقت للاهتمام به ورعايته، والصد عنه وحمايته، وهي لم تجرب مشاركته، ولم تحاول مساعدته، إلا أنها لا تقوى على اللحاق به إن أرادت، فقد أصابها العقم، وحل بها السقم، ونزل بها وباء المنافع والمصالح والتوظيف السياسي، ولو أنها أرادت لهذه الانتفاضة النجاح والاستمرار، لتنازلت عن بعض مصالحها وهمومها من أجل الوطن وقضيته.

ستون يوماً مضى على اندلاع الانتفاضة المباركة، ولا يوجد لها قيادة، ولم ينتج عنها ريادة، وما زال الفلسطينيون يقررون بأنفسهم ماذا يريدون، وكيف يصلون إلى أهدافهم ويريدون، وعلى الرغم من حكمة هذا الشعب الأبي، وقدراته الرائعة التي نفخر بها ونعتز، إلا أن شبابه الواعد، وأجياله الطالعة، وجنوده الجدد، وسواعده الأبية التي تحمل السكين والمدية ولا ترتجف ولا تهتز، ولا تتردد ولا تخطئ العنق والصدر، باتت عاجزة عن خلق قيادةٍ لها، أو إنشاء منسقيةٍ لفعالياتها، أو مكتباً ينظم جهودها ويوحد عملياتها ويستفيد مما تنجزه وتقدمه، لتترجمه على الأرض مطالب وحاجاتٍ، وأهدافاً وغاياتٍ.

شهران مضيا والعرب غائبون عن فلسطين وقضيتها وانتفاضتها، فلا دعم ولا سند، ولا معونةً ولا مساعدة، ولا إعلام ولا مناصرة، فقد اكتوى العرب بنيرانهم الداخلية، وفتنهم المظلمة، وحروبهم البينية، وتاهت حكمتهم، وضلت نخوتهم، وخارت قوتهم، وما عاد أحدهم ينشغل بغير همومه، وينهض لغير مصالحه، ولعل الشعوب العربية بهذا تظلم وعلى حقها نتجنى، فهي تحب فلسطين، وتفخر وتزهو بالانتفاضة، وتأمل أن تقدم لها وأن تساهم فيها بالجهد والمال والنفس والأرواح، ولكن حكوماتها قد شغلتها عن الجهاد والمعالي، وعن المقاومة والشهامة وسمو المعاني، وتركتهم يتخبطون في دمائهم، ويخوضون في أوحالهم، ويتوهون في بلادهم، ويضيعون في لجوئهم، ويغرق كثيرٌ منهم في بحورهم خلال مغامراتهم للهجرة والرحيل، بحثاً عن وطنٍ جديدٍ يشملهم، ورايةٍ تحميهم وتدافع عنهم، وحكوماتٍ تقدم لهم الأمن والأمان والاستقرار ولقمة العيش الكريم.

شهران يقطران دماً ويئنان جراحاً قد مضيا والعالم عن معاناة الشعب الفلسطيني غافلٌ، وعن مقاومته ساهٍ، وعن تضحياته وما يقدم غير قلقٍ ولا مهمومٍ، بل إن عواصم القرار الدولية الكبرى، وقادة العالم الليبرالي الحر، الذي ينادي بالديمقراطية ويحترم حقوق الإنسان، يصم أذنيه عن معاناة الفلسطينيين، ولا يرى مشاهد قتلهم، ولا صور المستوطنين وهم يعتدون عليهم، بل يرون المظالم التي تقع على الإسرائيليين، والاعتداءات التي يرتكبها الفلسطينيون في حقهم، فيعلنون وقوفهم إلى جانب العدو الظالم المحتل، ويصفون اعتداءاته بأنها دفاعٌ عن النفس مشروعٌ في مواجهة الإرهاب الفلسطيني المستنكر المرفوض.

شهران لا يشبهان الشهور التي مضت، ولا يماثلان الزمن الذي نعرف، فيهما العظمة تتجلى، والكبرياء ينهض، والإرادة تسمو، والشهادة رداءٌ من الكرامة يلبس، شهران فيهما أشعل الفلسطينيون أنفسهم كشمعةٍ تضيئ ولكنها لا تريد أن تذوي، ولا أن تنطفئ شعلتها ولو كانت بسيطة، فهي أقوى من لهيبهم، وأكثر اتقاداً من نارهم، ولن تطغى عليها الرياح ولو كانت هوجاً عاتية، ولن يستطيع أحدٌ أن ينفخ عليها بنفسه الحاسدة، أو بروحه الحاقدة، أو بمعارضته المريضة، أو بعدوانه البغيض، مهما اجتمعت أصواتهم علينا، أو تآمرت جهودهم ضدنا، بل ستبقى الانتفاضة شعلةً تتقد وتخيف، وقدراً يصنع النصر الذي نريد.

وسوم: العدد 644