العالم يضيق ذرعا بنظام الملالي
قال أفلاطون" من فكر في الشر لغيره، فقد قبل الشر على نفسه".
السياسة في معظم الأحيان يغلب عليها طابع المراوغة والمخاتلة والكذب والنفاق، وقد حاول بعض الساسة تعريف السياسة بطرق توائم متطبات العصر، والإبتعاد قدر الإمكان على التعاريف التي تنتقص من السياسيين عموما، بأن السياسة هي فن الممكن، وهذا الفن كما يُستشف من العبارة جُرد من صفة الخير والشر، (فن الممكن) يعني محاولة نيل الشيء أو تحقيق الهدف بأسرع أو أفضل أو أسهل الطرق الممكنة، بغض النظر عن ماهية الأسلوب الذي ينتهجه السياسي لنيل الهدف.
بعد قيام تركيا بمهاجمة طائرة روسية إنتهكت أجوائها وأسقطت على الحدود السورية التركية، تضاربت آراء السياسيين والمحللين والكتاب وفقا للميول والأهواء إلى جانب روسيا أو تركيا، وغالبا ما كانت التصريحات بعيدة عن الواقعية والمنطق، ان من ينظر إلى الأحداث بعاطفة وميول شخصية أو طائفية لا يمكن أن يصل إلى الحقيقة أبدأ. الغريب في الأمر أن من كان يرى في روسيا الشيوعية سابقا عدوة للعرب والإسلام، اخذ يدافع عن بوتين وسياسته، ومن كان البارحة في أحضان الرئيس أوباما، انتقل بلا خجل الى أحضان بوتين مع ان احضان الرئيس الأسود أدفأ من أحضان الرئيس الأبيض. والأغرب إن المسلمين سيما الشيعة وقفوا إلى جانب الرئيس الروسي الوثني ضد الرئيس التركي المسلم! وفات الجميع أن هذا المنظار الضيق لا يمكن أن يسع الحدث وينقل الصورة بمصداقية وشفافية.
قف على الحياد وأنظر للموضوع كالآتي: طائرة إنتهكت السيادة الجوية لدولة، وقامت الدولة بإنذار الطيار بأنه إخترق مجالها الجوي عدة مرات، الطيار تجاهل نداءات الإنذار، هاجمت الدولة الطائرة التي أنتهكت سيادتها وأسقطتها. رمى الطياران نفسيهما بالمضلة أحدهما مات، والآخر تم إنقاذه، الطيار الحي قال بأن تركيا لم تنذرهم إطلاقا. تبين أن الطيار كاذب من خلال التسجيلات الصوتية والصندوق الأسود. روسيا ترغد وتزبد عن إسقاط طائرتها ولكنها لا تتحدث عن إختراق سيادة دولة اخرى! الآن يمكنك الحكم وتحدد من الجاني!
لو إفترضنا حدث العكس، وقامت روسيا بإسقاط طائرة تركية أخترفت مجالها الجوي، هل كان ستحدث نفس المعمعة وردود الفعل؟ لماذا لا يتحدث أحد من أنصار الروس عن موضوع السيادة التركية؟ شيعة العراق وسوريا لا عتب عليهم فالعراق وسوريا بلا سيادة وهذا أمر معروف للجميع ولا يحتاج الى مناقشة، ساحتا البلدين تتواجد فيها قوات من عدة جنسيات ومرتزقة وميليشيات وعناصر مخابرات من القارات السبع تعمل بكل حرية فالبلدان سائبان، وكل زعيم يتصرف كأنه رئيس الدولة، لا بشار الأسد ولا حيدر العبادي قادران على التفوه بكلمة واحدة عن السيادة لأن مثل هذا الحديث سيثير التهكم والسخرية.
لكن العتب على نظام الملالي الحاكم في إيران، في تصريحات الرئيس الإيراني روحاني هناك خلط وتلاعب بالإلفاظ وتضاد وتناقضات تثير العجب، كأنك نشاهد مهرج في سرك يتلون مع كل دور. لا نعرف كيف يحكم هؤلاء بلد كبير ومهم مثل إيران! في تصريحاته عن إسقاط الطائرة الروسية، ذكر روحاني خلال جلسة لمجلس الوزراء" إطلاق الصواريخ وإسقاط الطائرات في الجو ليس لعبة وتسلية"! هذا صحيح ولكن من قال لك يا روحاني إنها لعبة وتسلية مثل اللعبة التي ابتكرتوها وهي تسب العرب وتدعو الى قتلهم! ولماذا تهددون من يتعدى على سيادتكم بأنكم سوف تبيدونه من الخارطة؟ هل تصريحاتكم فعلية ام تتسلون بنا نحن الشيعة العرب؟ من ثم يذكر بأن " المعلومات التي نملكها تشير إلى أن الطائرة کانت تقوم بعمليات في الأجواء السورية عند استهدافها". حسنا! الطائرة حربية فهل ستقوم بنقل مدنيين برحلة سياحية وترفيهية من موسكو إلى دمشق؟ أي عبقرية مخابراتية هذه؟ وبطريقة خلط السم بالعسل يدعي بأن" الحادث الذي جرى في أجواء سوريا، بالقرب من حدود ترکيا". مع أن التصاوير الجوية والأقمار الصناعية أكدت بأنها ضربت داخل الحدود التركية، وسقطت داخل الحدود السورية. يبدو أن مصدر معلومات روحاني روسيا فقط بغض النظر عن صحة المعلوماتـ،. فالتحالف مع الروس يعني الإيمان المطلق بكلامهم إن صدق أو كذب.
بكلام في غاية الغرابة يشير روحاني" إذا افترضنا أن هذه الطائرة اقتربت من حدود ترکيا، فإن الصاروخ والطائرة ليسا لعبة أطفال کي يقرّر أحد إطلاق النار". ماذا تفعل الدولة التي تنتهك سيادتها إذن يا روحاني؟ هل ترسل مناطيد إبتهاج، وتوزع طائراتها حلوى بهذه المناسبة السارة إحتفاءا بالسيادة والكرامة الوطنية؟ وهل إسقاط طائرة من قبل تركيا لطائرة إخترقت أجوائها هي من لعب الأطفال وفق النظرة الإيرانية؟ إنه تهجم وقح تجاه القيادة التركية من قبل الرئيس روحاني عبر هذا التشبيه البعيد عن الحقيقة.
لقد صرح نائب رئيس الوزراء التركي (نعمان كورتولموش) بأن " تحذير الطائرة الروسية تم عبر قنوات تواصل مشتركة بين الحلفاء، وأن الطائرة التي تنتهك الأجواء لا حلٌ سوى اسقاطها، اننا اسقطنا الطائرة الروسية لأنها لم تستجب لتحذيراتنا". وأن هذه ليست هي المرة الأولى التي تنتهك الطائرات الروسية المجال الجوي التركي، بدأت الإنتهاكات في الثالت والرابع من شهر تشرين الثاني الماضي وإستمرت، ونبهنا القيادة الروسية عدة مرات. إذن ماذا بعد يا روحاني؟
من جهة أخرى ذكرت وكالة تاس" أن موسكو أبلغت الحكومة العراقية بضرورة غلق مطارات محافظتي أربيل والسليمانية، استعدادا لشن عملية عسكرية كبيرة داعش بمشاركة 69 طائرة حربية من طراز "سوخوى"، وقاذفات عملاقة من الطائرات الاستراتيجية المدى توبلوف 160، وبمشاركة الغواصات الروسية فى البحر الأبيض المتوسط، وسُمّيت هذه العملية بـالدمار الشامل". حسنا! هل إحترمت روسيا ما يسمى بسيادة العراق؟ كيف تتخذ مثل هذا القرار دون الرجوع الى الحكومة العراقية؟ الغريب هو ما جاء على لسان مصدر مطلع لموقع (السومرية نيوز) بأن " تعليق شركات الطيران لرحلاتها بسبب العمليات العسكرية في شمال العراق، وبسببب اجتياح الطيران التركي الحدود العراقية لاستهداف حزب العمال الكردستاني". لا حظ الطيران التركي، وليس الطيران الروسي!
في عثرة روحانية أشد وطأة من التي سبقتها صرح روحاني" على الجميع أن ينتبه إلى أن هذه الإجراءات (التركية) استفزازية، وأن تبعاتها الكبيرة من الناحية القانونية يتحملها البادئ بها". عجبا هل إنتهاك المجال الجوي بدولة ذات سيادة لا يعتبر إستفزازيا، لكن الرد عليها هو الإستفزازي؟ أي منطق هذا؟ وهل الإجراءات القانونية الدولية مع الدولة التي أخترقت سيادة دولة أخرى، أو الدولة التي أخترقت سيادتها من قبل دولة أخرى؟ يبدو ان روحاني لم يطلع على القانون الدولي ولا ميثاق الأمم المتحدة. ونسأله بدورنا: إن كانت روسيا على حق! لماذا لم تعرض الحدث على محكمة العدل الدولية وتكسب القضية، وبنفس الوقت تكسب الرأي العام الدولي إلى صفها؟
الآن لنلاحظ التلون والمراوغة في كلام روحاني في نفس الجلسة وعن نفس الحدث، فقد ذكر" إيران تعتبر روسيا وتركيا بلدين جارين وصديقين لها"! صيغة الحديث عن روسيا كانت فعلا كجار وصديق كما ذكر روحاني، لكن هل صيغة الحديث مع تركيا كانت بصفة جار صديق؟ ثم بنفس الطريقة الحرباوية يذكر" إننا ترغب في أن تكون العلاقات بين الدول الجارة ودّية، ولن نرضى بنشوب الخلافات والنزاع فيما بينها". إنه يوقد النار من جهة ويخشى توسعها وصعوبة إطفائها من جهة أخرى!
كالببغاء تلقينا من الرئيس بوتين كرر نفس القول" بضرورة تحديد الجهة الغربية التي تبيع النفط للإرهابيين"، مع أن الرئيس التركي أعلن بكل وضوح ان تركيا لا تسمح كرامتها بشراء النفط من الإرهابيين! بل أنه في لقائه مع قناة (24 الفرنسية) ذكر بان روسيا تعلم جيدا انها " الدولة الأولى التي نشتري منها البترول والغاز الطبيعي، والمرتبة الثانية إيران". مضيفا" لدي وثائق من وزارة الخزانة العامة الأمريكية، تشير إلى أن الشركات الروسية بالتعاون مع تنظيم داعش تقوم ببيع البترول في سوريا، هل تعلمون لمن؟ تبيعه للنظام السوري، وهذا مثبت لدي بالوثائق".
وفي تحدِ صارخ بشأن النفط قال اردوغان" إن تمكّن بوتين من إثبات صحة ما جاء به، فإنني سأستقيل من منصبي، فهل سيستقيل بوتين من منصبه في حال لم يستطع من إثبات صحة ادّعاءاته؟ نحن نعيش بشرفنا، وسنبقى نعيش كذلك".
بالطبع الرئيس روحاني يدرك جيدا بأن نظام بشار الأسد هو من يشتري النفط من الإرهابيين بأسعار زهيدة، وهذه معلومة تنافلتها وسائل الإعلام الدولية ولم يعلق عليها أو ينفيها جزار دمشق.
كالعادة الساسة المعممون في إيران كأنهم يلعبون كرة المنضدة واحد يرفع الكرة وآخر يكبسها، لا تعرف اين الحقيقة ومن يعبر عنها. على العكس من تصريحات روحاني المتشددة جاءت مواقف لينة من قبل وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي عبر عن قلقه بشأن الأحداث الأخيرة، معتبرا الحادث مقدمة لتفاقم الأزمة السورية، علاوة على حساسية الظروف الراهنة في سوريا، وتأثيرها على السلام العالمي، وضرورة المكافحة الدولية المتحدة للإرهاب"، مؤكدا أن "النجاح لن يتحقّق في مواجهة الإرهاب إلّا من خلال وجود إرادة إقليمية ودولية موحدة".
في نهاية المطاف حذر اردوغان نظيره بوتين من مغبة اللعب بالنار! والنار كما نعلم جيدا سوف لا تصيب الطرفين بإذى كبير، بل ان سياطها اللاهبة ستلسع العراقيين والسوريين على وجه الخصوص، هذان البلدان المنكوبان هما مسرح الأحداث وتصفية الحسابات بين الكبار. يا ويلنا من شر إقترب!
وسوم: العدد 644