السّقوط إلى الهاوية

واضح أنّه كلّما تقدّم الفلسطينيّون خاصّة والعرب عامّة مترا في الطّريق إلى السّلام المنشود، كلّما ابتعد نتنياهو وحكومته كيلومترات، وهم يؤكّدون سياسات قديمة ويشرّعونها على اعتبار أنّها أمر واقع، ويغلّفونها بغيبيّات دينيّة ظنّا منهم بشرعيّتها، فمثلا الاستيطان بدأ في المعسكرات تحت مسمّيات اسكان عائلات الجنود الذين يخدمون في الأراضي الفلسطينيّة، وتطوّر إلى اعتباره "نقاط أمنيّة متقدّمة" وتطوّر إلى مدن وبلدات زراعيّة وصناعيّة، ونتنياهو ووزارة خارجيّته الآن يعتبرونه حقّا مشروعا، وهذا يجيء ردّا على دول الاتحاد الأوروبّيّ الذي أعلن مقاطعته لمنتوجات المستوطنات، وفي نفس الوقت الذي ينشط فيه دعاة مقاطعة اسرائيل لارغامها على الرّضوخ لمتطلّبات السّلام العادل فإنّ الكثير من الأسواق العربيّة مفتوحة أمام الصّادرات الاسرائيليّة، تماما مثلما قامت بعض الدّول العربيّة بفتح قنصليّات اسرائيليّة في عواصمها، في نفس الوقت الذي قطعت فيه بعض دول أمريكا اللاتينيّة علاقاتها مع اسرائيل؛ لما ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيّين، كما يقوم بعض كبار رجالات الدّول العربيّة بالاجتماع سرّا مع مسؤولين اسرائليّين.

ويبدو أنّ "الصّديقة أمريكا العظمى" قد طلبت من بعض الدّول العربيّة تقديم دلائل على "حسن النّوايا" لاسرائيل كي ترضخ لمتطلبات السّلام، وكي تتعامل مع المبادرة العربيّة للسّلام التي أعلن عنها بمؤتمر القمة في بيروت عام 2002. ومعروف أنّ اسرائيل قبلت منها بندا واحدا "وهو اقامة علاقات كاملة مع الدّول العربيّة والاسلاميّة" وتجاهلت الانسحاب من الأراضي العربيّة المحتلة في حرب حزيران 1967، بل إنّها ردّت على "حسن النّوايا العربيّة" من اعتبارها "أراضي متنازع عليها" لتصبح "أراضي يهودية يحق لليهود استيطانها."

 وابداء "حسن النّوايا" العربيّة الرّسميّة مُهّد له بتمويل وتدريب وتسليح منظّمات الارهاب التي تتدثّر بعباءة الدّين، لتدمير سوريّا، العراق، ليبيا، اليمن، لبنان ومصر، وقتل شعوبها واستنزاف جيوشها، بمال ودماء عربيّة مسلمة، لتصفية كلّ من يمكن أن يواجه اسرائيل أو يعرقل هيمنتها على منطقة الشّرق الأوسط، من خلال "الفوضى الخلاقة" التي ستعيد تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، ستكون اليد الطولى فيها "للجارة اسرائيل والصّديقة أمريكا" بعد تصفية القضيّة الفلسطينيّة حسب متطلّبات المشروع الصهيونيّ، ولتصبح الشّعوب العربيّة مجرّد "حطابين وسقّائين" حسب التّعبير التّوراتيّ.

 ومع استمرار النّظام العربيّ الرّسمي بابداء"حسن النّوايا" إلا أنّ نتنياهو وحكومته اليمينيّة المتطرّفة يستعجلون الأمور بطريقة لافتة، فقد أعطوا أوامرهم وسنّوا قوانين تشرّع قتل الفلسطينيّين لمجرّد الشّبهة، بما في ذلك قتل الأطفال والنّساء والجرحى الذين يتمّ تحييدهم ويصبحون في حكم الأسرى، وكذلك احتجاز جثامين الشّهداء، وأكّدوا على التقسيم الزّماني للمسجد الأقصى واستباحته من قبل المتطرّفين اليهود تحت حماية قوى الأمن الاسرائيليّة، وأعادوا قوانين الاعتقال الاداريّ بدون تهمة، كما أعادوا العمل بابعاد بعض المواطنين عن المسجد الأقصى وعن القدس وهدم البيوت وغيرها.

ومعروف عن بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الاسرائيليّة، وحزبه "الليكود" وأعضاء حكومته من حزبه الليكود وحلفاؤهم من الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة وضوحهم الكامل في طرح سياساتهم، غير عابئين بردود الفعل الأخرى من الرّأي العام العالميّ، حتى أنّ نتنياهو تحدّى الرّئيس الأمريكيّ باراك أوباما أكثر من مرّة دون أن يرفّ له جفن، أمّا الرّأي العام العربيّ الرّسميّ فهو مغيّب تماما، وفي أقصى حالاته فإنّه لا يتعدّى "الشّجب والاستنكار الخجول". تماما مثلما يتمّ التّطبيع مع اسرائيل بشكل خجول حتّى يصبح أمرا واقعا، وحكومة نتنياهو لن تنسحب من الأراضي العربيّة المحتلّة، ولن تسمح باقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة، وما حديثهم عن "حلّ الدّولتين" إلا من باب العلاقات العامّة، ولن تسمح بدولة ثنائيّة القوميّة، وربّما سيأتي يوم سيقومون فيه بعمليّة طرد جماعيّ للفلسطينيّين، لتصبح دولتهم دولة يهوديّة نقيّة، وهم مخلصون لأحلامهم الصّهيونيّة القائمة على التّوسع، تمام مثلما هو النّظام العربيّ الرّسمي مخلص في "حسن النّوايا" التي تطلبها أمريكا، حتى يصل الانكسار العربيّ إلى هاوية السّقوط وقاع الهزائم.

وسوم: العدد 645