رأس البغدادي أم رأس أردوغان وقادة المقاومة؟!
إذ أمعن البعض النظر؛ فلن يحار طويلًا في تفسير حالة الاحتشاد الغربية والعربية في ملاحقة تنظيم هلامي صغير، يلعب دورًا كبيرًا هذه الأيام، أو يتم تصويره كذلك لحاجة في نفوس واضعي الاستراتيجيات الكبرى في "الشرق الأوسط"، أو يُلبَس ثوبًا فضفاضًا جدًّا.
هذا التداعي يقرؤه أنصار تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي اشتهر باسم "داعش" على أنه "انتصار بالرعب" يقذفه الله في نفوس أعداء الله! وكلما زاد الغرب في مبالغاته تضخيمًا وتحشيدًا أطربت تلك النغمة شبابه المتحمس الغض، فبالغوا أيضًا في تصديق تلك الادعاءات، ارتكانًا إلى اعتقاد بأن ما يتقصده الغرب بالتضخيم هو بالضرورة الخطر الحقيقي الذي يتهدده ويقض مضاجع حكامه!
لكن بعيدًا عن أمانيّ هؤلاء، فإن التدقيق في المشهد لا يقود إلى الاعتقاد بأن هذا التنظيم هو المقصود بالحملة الغربية التي "تزنرت" بحزام إقليمي، فالحقائق المجردة تقول إن هذا التنظيم أُفسح له المجال ليتحرك بأسلحة ثقيلة من وسط العراق إلى شرق وشمال سوريا دون أن تعترضه طائرة واحدة في المنطقة المطوقة بقواعد عسكرية أميركية، وقوات إقليمية يقظة إلى حد كبير.. والحقائق تقود إلى تنظيم أُفسح له الطريق للاستيلاء على منابع ومصافٍ نفطية ومواقع استراتيجية دون مقاومات تذكر، ولا مشاهد متلفزة حقيقية لمعارك ضروس.. والحقائق تقول إن التنظيم قفز إلى أعلى سلم "التمكين" بإعلان "الخلافة" فيما هو عاجز أو محجم لسبب مريب، عن تقديم قيادته أو نخبته أو "علمائه" لـ"الأمة" لتتعرف على حقيقتها، و"علمها" ورؤيتها.. إلخ، وما زال جل ما رشح منها مجرد خطبة جمعة يتيمة أمام العشرات أو المئات من المصلين! والحقائق تقول إن كل تكهنات الغرب لا تقدم تقديرًا واقعيًا لتنظيم صغير يعد بالآلاف، عاجزًا حتى الآن عن اكتساب أرضية جماهيرية أو زخم شعبي يجعل أفئدة العراقيين والسوريين تهوي إليه.. والحقائق تقول إن التنظيم الذي وضعت أمامه ميزانية مفتوحة ليتفوق على الفصائل السورية والعشائر العراقية أخفق في اختبارات قتالية أمام فصائل مناظرة، وليست جيوشًا كبيرة، ما استدعى منه التراجع لخطوات في امتحانات حقيقية لا انسحابات مريبة في العراق وسوريا، وضعته في حيز حدودي مضبوط على بوصلة دقيقة تتماهى مع تطلعات خارجية واضحة.
وفقًا لهذا، فإن العديد من المعلقين خلص إلى الاعتقاد بصعوبة أن يكون الهدف من هذا التداعي الغربي هو هذا التنظيم برغم المساحة الشاسعة التي قيل إنه يشغلها بالفعل (وهي مساحة بالمناسبة ربما لم يكن لهتلر أن يحتفظ بها في الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية!)، وهي لا تعد في الاعتبار العسكري غير فقاعة يسهل تفجيرها بسهولة لاتساع رقعتها وهشاشة أمنها الحدودي؛ إذ ليس من المنطق أن يحمي "تنظيم" مسلح رقعة بمساحة بريطانيا -كما يزعمون- من دون جيش يضم عشرات الآلاف من الضباط والجنود -إن لم يكن مئات الآلاف- في شكل حاميات للمدن والبلدات الكثيرة والكبيرة التي تدخل ضمن حدودها!
الأهم من التقديرات العسكرية التي لا تفي لهذا التنظيم بما يشاع عنه من ضخامة وقوة على غير الحقيقة، هو أن هذا الاحتشاد ضد هذا التنظيم والذي تغذى بالكاد على بعض مقاطع وصور وأخبار لعمليات ذبح تلفزيونية محدودة، وعمليات تهجير صغيرة، وبعض الممارسات غير المقبولة عالميًا، وإعلان دولة بطريقة دراماتيكية، يتحدث عن فاتورة باهظة للقضاء عليه أو بالأحرى الحد من قوته، وسقف زمني مفتوح لسنوات، على نحو لم تتحدث عنه الأبواق الغربية يومًا إلا في سياق "الاحتلالات" وإعادة رسم الخرائط، وتغيير موازين القوى على الأرض، ووأد مشاريع كبرى مناوئة، واستنزاف ثروات هائلة، فهل كل هذا يتم من أجل رأس البغدادي الذي لا يعرفه أحد؟!
في الحقيقة، فإن من يُدِر زر العدسة ليكشف منطقة أوسع من دول "الشرق الأوسط" يلحظ عددًا من الحقائق تبدو للوهلة الأولى مخيفة، فبرغم أن الإعلان عن بدء استهداف مواقع داعش، وأن الطائرات الأميركية والفرنسية قد بدأت بالفعل في قصف مواقعها في العراق فإن الخبر الأبرز الذي بعثر جميع الملفات لدى المقاومة السورية كان هو تنفيذ عملية استخبارية نوعية اغتالت أبرز قادة المقاومة السورية، وأربكت حسابات حركة أحرار الشام أبرز فصائل الثورة السورية، وأكثرها عددًا وتأثيرًا، وتوالت بعدها عمليات استهداف قادة وكوادر تابعة للجيش السوري الحر، والتي لا تمثل الجناح غير المدجن منه، وغير المصنف أميركيًا كمعتدل بخلاف الأجنحة الأخرى التي يطلق عليها اسم "الجيش الحر الليبرالي" والمصنف غربيًّا بأنه "معتدل".
من أصابه الضرر الأكبر إلى الآن كانت فصائل يعاديها النظام السوري وداعش على حد سواء، الجبهة الإسلامية، لواء الإيمان، كتيبة أنصار الحق، جبهة ثوار سوريا.. وتمثل لكليهما تحديًّا كبيرًا، وتناصبها الولايات المتحدة و"إسرائيل" خصوصًا، والغرب عمومًا عداء حقيقيًّا، في عمليات لم تتبنها أي جهة لا من هؤلاء ولا من هؤلاء على غير المألوف في معارك صريحة واضحة المعالم!
لم تعلن الولايات المتحدة صراحة عن عزمها كسر عظم الفصائل المناوئة لنظام بشار الفاشي، كما لم تعلن بجلاء أنها تعامل نظامه كما تعامل نظام العبادي العراقي، الطائفيين، التي تقصف مواقع لحسابه، لكنها واقعيًّا تفعل هذا، ولا يخصم من مظنة ذلك أنها تهدد نظام بشار ظاهريًّا أنها ستقصف مواقع الدفاع الجوي ومضاداته الأرضية إن هي تعرضت لطائراتها التي ستستبيح المجال السوري؛ فلا يخيل على أحد أن هذا ليس إلا ذرًّا للرماد في العيون، فكيف لبشار أن يقصف طائرات تقدم له المعونة والمساندة عمليًّا، وتفعل ما لم يستطع هو فعله؟! إن ما أعلنته واشنطن هو أنها ستدرب قوات المعارضة "المعتدلة"، وهذا يعني تلقائيًّا أنها ستتدخل ليس من أجل داعش، على الأقل وحدها، وإنما لوضع خارطتها السياسية الخاصة في سوريا والقفز على إرادة الشعب السوري، فهي وحدها من يحق لها تحديد "المعتدل" وغير المعتدل في سوريا وغيرها، وتمكينه من لعب دور في حكم سوريا، وهي أيضًا الحاكم الحصري الذي بمقدوره أن يُسمي هذا "معارضة" لنظام "شرعي" (مفهوم المعارضة يعني تلقائيًا تقدير وضع الأسد)، وهذا "تمردًا"، وذاك "إرهابًا"، وتلك "قوات"!
إن سياسة "الاستعمار" الثابتة هي التدخل من بوابة "الأقليات"، والتمكين لها، وهي قد فعلت مثل فرنسا التي مكنت العلويين (النصيرية) من حكم سوريا غصبًا عن أهلها، فإن ثاروا هكذا، فلا بأس من تطعيم هذه الأقلية بأخرى متغربة يطلق عليها اسم "معتدلة"، وتساند وتدرب، ويكسح من طريقها كل عقبة، وتصبح مع الوقت هي "الجيش" وبقية الفصائل الكبيرة العاملة منذ بداية الثورة محض "ميليشيات" ينبغي جمع السلاح منها (أو تجريدها إياه)، وإلا صارت إرهابًا متسلطًا على الشعب السوري.. وإن كان من وسيلة لتحقيق هذا الاختراق، فعبر التصدي لتنظيم قدم بذاته مبررات استهدافه في المنطقة، وساعد "الميديا" الغربية والمارينزية العربية في تضخيمه، وتسويده على الحالة المقاومة، تمامًا مثلما حصل في كل مكان أريد تفريغه من مقاومته.
من ثغر استهداف إرهاب داعش، ستنفذ الولايات المتحدة وتوابعها لتدمير المقاومة السورية، وبالمثل فإن الحراك العراقي الذي استمر لأكثر من عام، والذي أعقب خروج القوات الأميركية من العراق قبل ثلاث سنوات، لا بد بدوره أن يتلاشى وأن يتوارى قادته ما دامت داعش موجودة، وما ظلت الغالبية السنية رهينة مغامراتها الغامضة. ومثلما مُنحت داعش فرصة للاستحواذ على أسلحة ثقيلة مؤثرة، أو هكذا قيل، فإن بديل المقاومة سيمنح مساحة للتمدد العسكري من خلال تفوقه النوعي في الأسلحة الأميركية التي هي بالمناسبة لا تجعل واشنطن في موضع الاتهام أبدًا!
بالعودة إلى ما تقدم من حديث عن توسيع نطاق عدسة الحدث، ورؤية مساحة أوسع للغزو الغربي أو التغيير الاعتسافي للمنطقة، يُرى في المشهد تنظيم أريد له أن يتوقف عند حدود مرسومة بالقلم الرصاص ذاته الذي خط به سايكس وبيكو خريطتهما، ليتوقف عند بغداد ويحجم عن التوغل نحو دمشق، ويغض الطرف عن حدود سوريا مع فلسطين، ويراوح عند كردستان، حيث انفتح الباب واسعًا لها لإقامة دولة مستقلة تمامًا عن بغداد، وتتراجع ممانعة أنقرة عن تسليح كردستان الآن بقدرات عسكرية نوعية ومتفوقة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب، وإلا صارت حكومة أحمد داود أوغلو شريكة لداعش في الإرهاب.. فـ "لا يمكن مقارنة ممانعة تركيا لتسليح كردستان التي دربنا نحن قوات البشمرجة لها بما كان إبان حرب العراق، ورفضت أنقرة ذلك تمامًا وقتها، والبشمرجة الآن جاهزة للاستقلال، ومكنها من ذلك تنظيم داعش، ولم يعد ينقصها سوى المدرعات والطيران"، تمامًا مثلما قال أليعازر تسفرير رئيس وحدة الموساد في كردستان في حوار مع قناة آي 24. فعلى ذكر ما قد قال، لم يعر أحدٌ تأييد أربيل للحراك العراقي الذي امتطته داعش وسيطرت على الموصل ونينوى في عملية الانسحاب الشهيرة للجيش العراقي الذي بدا منهارًا حتى وقف على أعتاب بغداد فواتته شجاعة مفرطة أوقفت زحف داعش شبرًا واحدًا إضافيًّا!
لم تقل عاصمة غربية واحدة إن كردستان متواطئة مع داعش في هذا التطور العسكري الذي أيدته إلى أن عاد التنظيم ليحدث بعض المناوشات المبرمجة على حدود كردستان لتصبح لاحقًا ذريعة لتزويد البشمرجة بأسلحة ثقيلة في حادثة فريدة في العالم، تلك التي تزود فيها حكومات أوروبية -أو غير أوروبية- ميليشيا سواء أكانت منضوية تحت قوات رسمية أو كانت متمردة عليه، في بلد تحتفظ فيه تلك الحكومات بعلاقات دافئة مع نظامه الحاكم (كيف تسنى تزويد البشمرجة بأسلحة ثقيلة بشكل مباشر دون العبور على الجيش العراقي الرسمي بشكل رسمي؟!).
والمسألة لم تقتصر في الحقيقة على كردستان العراق، فها هي "كردستان سوريا" ستشملها "المنحة العسكرية الغربية"، فلقد نقلت صحيفة "العربي الجديد" عن القيادي في "التحالف" الكردستاني العراقي، حمة أمين قوله إن وزير الخارجية الأميركي جون كيري قد "أبلغ القيادة الكردية في إقليم كردستان العراق، أن الدعم الأميركي للمعارضة السورية المعتدلة، لن يقتصر على الجيش الحر فقط، بل سيشمل الفصائل الكردية التي تقاتل في سورية [العربي الجديد 15 سبتمبر]. وهنا نحن لا ننظر إلا إلى كردستان الكبرى المتوغلة في كل من العراق وسوريا وتركيا أيضًا.
هذا التواطؤ من حكومة كردستان مع داعش في البداية لم يلق إدانة بل تسليحًا متطورًا، فلقد حجز اتهام التواطؤ لحكومة الرئيس رجب أردوغان، فبتوسيع مدى عدسة الرؤية أكثر فإن البلد الذي يشهد تحركًا متنوعًا من أجل إطاحة نظامه ذي الجذور الإسلامية، من قبل أنظمة غربية تشن آلتها الإعلامية هجومًا ضاريًا عليها، هو تركيا.
نعم، حشرت مؤسسة الرئاسة التركية، والحكومة في زاوية محكمة أرادها الغرب، فقد بدا أنه من بين 50 دولة (والعدد في ازدياد) دعيت للمساهمة فيما سمي بالحرب على داعش فإن دولة واحدة هي التي أريد لها أن تتورط في الحرب على تنظيم داعش، وهي الدولة الوحيدة التي اختطف من رعاياها هذا العدد الكبير، فلقد وقعت قنصلية تركيا في الموصل في فخ مريع، عندما طوقتها عناصر داعش واختطفت 49 من دبلوماسييها، وقد كانت قد وصلت الإشارات إلى وزارة الخارجية بأن القنصلية آمنة! (لم يدرَ حتى الآن لماذا وقعت هذه القنصلية وحدها في قبضة داعش؟! وعملية خطف الدبلوماسيين ذكرت بالطريقة التي اختطف بها الجنود المصريون في رفح، والتي وضعت الحكومة المصرية في زاوية التقصير الأمني إن استمر الاختطاف أو التواطؤ مع الخاطفين إن نجحت في تحريرهم دون دماء، وهو ما قد صار لاحقًا مع إدارة أردوغان عندما تمكنت من تحرير رهائنها).
طُلب من تركيا المشاركة في جهود لحرب برية لم تتحمس لخوضها حتى الولايات المتحدة ذاتها، ولم تعلن أي دولة استعدادها لتقديم جنودها كقربان للمطامح الأميركية والأوروبية حتى أقرب الحلفاء للولايات المتحدة في المنطقة الذين أعلنوا عن مساهمة "هلامية" غير مفهومة، وتركزت كل الأنظار على أنقرة، والتي زارها وزير الخارجية الأميركي محاولًا إقناع مسؤوليها لمدة تفوق الساعتين في اجتماع مغلق، بدا أنه حمل تهديدًا للنظام الديمقراطي في تركيا إن لم يتورط في الحرب.. رفض أردوغان، فسرعان ما بدأت حملة ضروس ضد "تركيا التي ترعى الإرهاب!"
الحملة ضد تركيا
الحملة بدأت من الداخل التركي، وتحديدًا من تحالف "الدولة الموازية" والأحزاب العلمانية الرئيسة التي تهيمن عليها الأقلية العلوية (كحزب الشعب الموالي لبشار الأسد)، ثم توسعت إيرانيًّا وعربيًّا وأوروبيًّا وأميركيًّا وصهيونيًّا.. شنت الحملة هكذا:
- فالمعارضة ركزت إثر مطالب أميركا لأنقرة بالمشاركة في ضرب داعش في علاقة افترضتها بين الحكومة التركية وداعش، وروجت مزاعمها عن دعم الأولى للأخيرة، فمثلًا بايرام يورتجيجيك نائب زعيم حزب العمل قال من جهته إن "أكبر داعمي داعش مع الأسف هي الحكومة التركية والدول الإمبريالية"، والمعارض أمين جولاشان أشار إلى أن "الحكومة التركية لا تتحدث عن أي مشروع للتخلص من المجموعات الإرهابية في المنطقة، لأنها شريكة معها، ودعمتها لوجستيًّا بالمال والسلاح على أمل إسقاط النظام السوري، حتى إن تركيا لم تنعت داعش بصفة الإرهاب"، غير أن تحريض المعارضة جاء مستبقًا الحملة الأميركية وقبل الاحتشاد الدولي؛ ففي الأسبوع الثاني من شهر يونيو الماضي، وفي لقاء لصحيفة "جمهورييت" مع كيليتشدار أوغلو رئيس "حزب الشعب الجمهوري، قال "إن السلاح الذي كان يصل إلى جبهة النصرة كما تنظيم داعش، إنما هو الذي كان أردوغان يرسله عبر شاحنات النقل الخارجي إلى سوريا لإسقاط بشار"!
- وبعض الصحف المعروفة بولائها للدولة الموازية في تركيا، كصحيفة "طرف" عمدت إلى ترويج مزاعم عن أن تنظيم داعش "يمتلك أسلحة وذخائر بكميات ضخمة من صنع تركيا.. فالأسلحة والذخيرة الموجودة بحوزة مقاتلي داعش عليها ختم شركة "هيئة المعدات والصناعات الكيميائية التركية"، وصحيفة "ايدينليك" التركية -وفقا لقناة العالم الإيرانية في 8 يوليو الماضي- زعمت أن "مجموعة من الضباط الأتراك المتقاعدين كانوا يعملون في قيادة القوات الخاصة انضموا إلى داعش بعلم حكومة رجب طيب أردوغان"، وأن "التنظيم يؤمن حاجاته اللوجستية من شركة تعود إلى رائد تركي متقاعد في مدينة قونية"، مدعية أن جهاز الاستخبارات التركي زود "إرهابيين" بأسلحة استخدمت ضد الجيش التركي!
- وبعض الأكاديميين شاركوا في الحملة، فالكاتب اللبناني النافذ جهاد الخازن نقل في مقاله "تركيا تحت مجهر النقد" عن بهلول أوزكان الأستاذ في جامعة مرمرة والتلميذ السابق لأحمد داود أوغلو تيقنه من أن الأخير "يريد مسح الحدود في الشرق الأوسط لإقامة تحالف إسلامي تقوده تركيا" [الحياة 19 سبتمبر]، وهو ادعاء يتماهى مع رؤية داعش، ويريد أن يصب الماء في جدول اتهام الحكومة التركية بالسعي جنبًا إلى جنب لإقامة نظام للخلافة في هذا التوقيت بالذات.
- وإيران لم يزل إعلامها يبث التخرصات على الحكومة التركية متهمًا إياها بالإرهاب ومساندته منذ الوهلة الأولى للثورة السورية ووقوف حكومة أردوغان معها واستقبالها لملايين اللاجئين السوريين، لكنها زادت من وتيرتها مستغلة رفض تركيا المشاركة في الحرب، وإيران تريد من خلال ذلك مساندة النظامين العراقي والسوري، من جانب، وتقويض التفوق الاستراتيجي لتركيا من جانب آخر، فلقد ازدحم الإعلام الإيراني بمزاعم حول دعم أردوغان لداعش، ومنها ما ذكرته قناة "العالم" في منتصف سبتمبر الحالي عن أن "تركيا ماضية في تحسين وضعها الاقتصادي عبر شراء النفط الداعشي بثمن بخس"، وعن هذا يقول الصحافي التركي إسماعيل ياشا "هذه الأكاذيب تختلقها وتروِّجها وسائل الإعلام الموالية لإيران وحلفائها للانتقام من الحكومة التركية الداعمة للثورة السورية، وتروِّجها وسائل الإعلام الأميركية للضغط على أنقرة حتى تقبل القيام بالدور المطلوب منها" [قصة تصدير الجهاديين من تركيا - صحيفة العرب - 21 سبتمبر].
- والإعلام الأميركي والأوروبي شن حملة قاسية ضد تركيا بسبب رفضها المشاركة في الحملة واستخدام قاعدة انجرليك لشن الهجوم، ووضع نفسها في أتون معركة توقع لها أوباما نفسه عدة سنوات وحملها فاتورة مليارية هائلة بما يتجاوز بكثير جدًا حجم داعش، فقد أسفر الإعلام الغربي عن وجه عدائي لتركيا؛ فمثلًا، مجلة أميركان ثينكر اعتبرت أن "قرار تركيا برفض الانضمام للتحالف الدولي يعد أكثر من مجرد صفعة على وجه أوباما، حيث يضع عقبة أمام وعد الرئيس بتفكيك وإنهاء داعش"، فـ"ابتعاد تركيا ليس هو مجرد عدم رغبة في الانخراط عسكريا، بل ستمنع الولايات المتحدة من استخدام قاعدتها العسكرية بتركيا"، أما وول ستريت، فوضعت تركيا في خانة "المعارضين" لا الحلفاء، واتهمتها بالعمل مع النصرة والجماعات الإرهابية على حد وصفها، وصحيفة "وورلد تربيون" الأميركية زعمت أن "حكومة أردوغان اعترفت بتجنيد داعش نحو ألف مواطن تركي للقتال في العراق وسوريا مقابل رواتب مغرية"، ومثلها قالت "نيويورك تايمز" وزادت بوضع صورة أردوغان وهو يخرج من مسجد صلى فيه وادعت أن من هذا المسجد تم تجنيد أتراك للقتال مع داعش، وهو ما هاجمه أردوغان بشدة فعادت الصحيفة واعتذرت منه! وصحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، ادعت أن تركيا "سهلت إمداد مسلحي داعش بالأسلحة في سوريا"!
والملاحظ في تلك الحملة أنها بدت متدحرجة، تنمو ككرة ثلج، منذ أن رفضت تركيا الانخراط في حملة مجهولة أريد لها وحدها أن تدفع ثمنها العسكري من أمنها واستقرارها من دون بقية الحلفاء الخمسين، ولقد كانت الإدارة التركية فطنة لهذا؛ فتذرعت في رفضها أول الأمر بحفاظها على أرواح دبلوماسييها المختطفين، ولقد قال أردوغان حينها: "إن مواطنينا الـ49 المُحتجزين في الموصل أهم من كل شيء"، وإثر ذلك أبدى وزير الخارجية الأميركي "تفهمًا مصطنعًا"، لكن لم تمض أيام على هذا التصريح حتى تحرر المختطفون في عملية استخبارية لم يكشف عن كنهها بعد.
لكن قبل أن يتمادى الغرب في محاولاته توريط تركيا في حرب على تخومها، سرعان ما أعلن أردوغان أن إرهاب الأسد لا بد أن يكون على رأس أي حملة تستهدف الإرهاب في المنطقة، وهو ما أثار مزيدًا من الانتقادات ضده، فالغرب الذي بدأ بالتنسيق مع مجرم الحرب والإنسانية، بشار الأسد، عبر مبعوث أوروبي زاره، لم يرغب في تحميل هذا المجرم مسؤولية استشهاد نحو 300 ألف من السوريين وإصابة وتهجير أضعاف أضعافهم، ولم يرد أن يحمل الحرس الثوري وعشرات الميليشيات العراقية الطائفية و"حزب الله" وغيره مسؤولية تلك الجرائم، بل أسرع قبل إسدال الستار على هذه المسرحية أن يكشف عن خبيئته الأخيرة، "إيران ستشارك في الحملة ضد داعش، وأنها شريك في تلك المعركة"، كما جاء مضمونه على لسان جون كيري وزير الخارجية الأميركية.
القراءة التركية للحملة ضد داعش
في الواقع لم يكن الاحتجاز المريب للدبلوماسيين الأتراك في الموصل، ثم الإفراج -الذي قد يبدو توقيته مريبًا هو الآخر- عنهم هو الدافع الوحيد لأنقرة لكي تحجم عن المشاركة في تلك الحملة، لا من نافذة تورطها المزعوم في دعم الإرهاب، وإنما لتخوفات بالغة الخطورة، فثمة ما لاحظه الرئيس أردوغان ورئيس حكومته داود أوغلو في عبارات قصيرة لخصت ببلاغة ما يعتمل في تفكير الأتراك:
- أردوغان: "الأسلحة المتروكة في العراق أصبحت اليوم تحت سيطرة تنظيم داعش وقد تعود هذه الأسلحة ضدنا من خلال توجيه ضربة لعملية التسوية الجارية للتوصل إلى حل للقضية الكردية، فضلا عن تأجيج الصراع الطائفي في المنطقة".
- داود أوغلو: "التطرف خطر كبير، وتركيا لا ترغب في تشكل أي منظمة إرهابية بالقرب من حدودها، وأنه يجب معرفة الأسباب الحقيقية لظهور جماعات متطرفة، وعدم السماح لها بالتشكل مرة أخرى".
"الجيش العراقي هرب وترك العديد من المناطق ليسيطر عليها تنظيم الدولة، الذي يملك كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية التي كانت بيد الجيش العراقي".
"سياسات نوري المالكي تسببت في دخول البلاد في تفككات مذهبية"
تركيا باختصار ترى أن ثمة أهدافًا أخرى أخطر وأشمل من استهداف داعش:
1- تسليح الأكراد في سوريا والعراق بأسلحة ثقيلة ونوعية، ونقل هذا إلى حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، ومن ثم نسف جهود الاتفاق مع الحكومة المركزية، وتصدير العنف للداخل التركي.
2- في حال ما إذا خضعت أنقرة للضغوط الغربية؛ فإنها ستوضع في حالة عداء محكمة مع تنظيمات مخترقة من قبل الاستخبارات الغربية والإيرانية وسيتم نقل العنف إلى داخل حدودها.
3- تقدر حكومة داود أوغلو الموقف على أن المسؤولين عن إخراج "داعش" هم النظام العراقي، وتلك الأسلحة الأميركية -وليست التركية بالمناسبة- التي ألقيت بين يدي التنظيم، وأن هؤلاء المسؤولين هم المنوط بهم حل المعضلة، والتي لا تقتصر على الحل العسكري، وإنما تمتد لحل المشكلتين السياسيتين في العراق وسوريا، فتهميش السنة في العراق وسوريا والإجرام الحاصل ضدهما هو البيئة الحاضنة لداعش، وسوف تتكرر الدواعش حتى لو قضي على تلك الـ"داعش".
يقول داود أوغلو: "ما تريده الولايات المتحدة الأميركية من الحلف واضح، والسبب من عدم توقيع تركيا على بيان قمة جدة واضح أيضا، أتمنى أن يعي الجميع ما أقول، لا أريد الدخول في تحليل ذلك، لأنني سأضر بالسبب وراء عدم توقيعنا على المشاركة في الحلف" [ترك برس 13 سبتمبر].. لكن ما هذه الأحاجي؟!
يجيب كتاب ومحللون أتراك عما عناه رئيس الوزراء التركي، بالقول:
- "تصريحات كيري بأن بلاده لا تشن حربا ضد داعش وإنما تقوم بـ"عملية واسعة النطاق لمكافحة الإرهاب"، تثير علامات استفهام كثيرة، لأن "مكافحة الإرهاب" مصطلح فضفاض يتم استغلاله لأغراض سياسية (...) أنقرة لا تثق بسياسات واشنطن ووعودها، ولا تريد أن تندفع نحو التورط في حرب قد تدمر استقرار البلاد واقتصادها وتجلب لها مشاكل هي في غنى عنها (...) الأسوأ هو محاولات بعض الدول لإقحام تركيا في هذه المعركة وجعلها هدفا لمثل هذه التنظيمات على المدى البعيد" [ياسين أكتاي - هل يريد مؤسسو داعش القضاء عليها الآن - صحيفة يني شفق - 13 سبتمبر].
- "هل هناك فرق بين فخ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والفخ الذي يُنصب لنا اليوم لكي ندخل الحرب ضد داعش؟ لا أعتقد ذلك. لكن، إذا كان من نصب الفخ في المرة الأولى، هو نفسه الذي ينصب الفخ الآن، فهل أصبحنا أصحاب بصيرة كافية تجنبنا في الوقوع بنفس الفخ الأول للمرة الثانية؟" [ناصوحي غونغور - الفخ والبصيرة - صحيفة ستار - 11 سبتمبر].
- "يجب ألا ننسى أن هناك احتمالًا لأن تكون الضربة الأميركية ضد داعش، حافزا لهذا التنظيم لكي يعود ويظهر من جديد أو تظهر جماعات مماثلة لها. لاسيَّما أن التجربة السورية تدل على هذا، حيث إن نشوء تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، كان سببه استخدام النظام السوري للأساليب العسكرية المفرطة" [مصطفى قرة علي أوغل - خارطة طريق أنقرة حيال موضوع داعش - صحيفة ستار - 15 سبتمبر].
هناك إذن بواعث منطقية للقلق التركي حيال ما يجري تحضيره لتلك الدولة التي باتت تمثل فزعًا لدى صناع السياسة الغربية والإيرانية والروسية على حد سواء؛ فلا أحد منهم يريد أن يرى "الرجل المريض" قد تعافى، وبدأ في استرداد أملاكه، لاسيَّما أن سياسة "صفر مشاكل" التي ابتدعها داود أوغلو مهندس سياسة العدالة والتنمية التركية، والتي ظُن لأول وهلة أنها ستجعل بلاده تنكمش، قد مكنتها من بناء نفسها، وغدت أكثر قدرة على المناورة عن ذي قبل.
لقد عمدت أوروبا على توريط السلطنة العثمانية في نهاياتها في حروب متعددة، بعضها لم يكن لها فيها ناقة ولا جمل لأجل أن تستنزف آخر قدراتها، وقد نجحت الحيلة، ويراد أن يعاد تكرارها اليوم، وتوريط تركيا إما في حرب مع داعش أو مع الناتو نفسه إن نأت بنفسها عن هذا الصراع الغامض.. تفجير القضية الكردية مجددًا لكن بطموح انفصالي معزز بدولتين كرديتين قويتين بالجنوب.. إشعال ملف العلويين بتركيا.. توريط بملفات دعم الإرهاب كتلك التي ألصقت بصدام حسين قبل إطاحته مع حزمة من الافتراءات عن أسلحة الدمار الشامل، تبين تهافتها لكن بعد خراب البصرة.
هذا، وإلا صارت علاقة تركيا بداعش "علاقة قذرة جدًّا" مثلما فَجَر الكولونيل جاك جاكوبز الخبير العسكري الأميركي البارز، في خصومته مع تركيا، مدعيًا في تحليله لقناة msnbc الأميركية (21 سبتمبر) أن "تركيا تتذرع برهائنها لكيلا تكون حليفًا ضد الإرهاب، ولن تكون بعد تحريرهم"؛ فـ"كل الدعم الواصل لداعش يمر عبر تركيا"! وهذا أقوى تصريح شبه رسمي يعبر من خلف الكواليس عن مزاج البنتاجون ووكالة الاستخبارات الأميركية معًا في شخص عسكري متقاعد وثيق الصلة بهما كجاكوبز.
أفكل ما تقدم من أجل رأس البغدادي؟!
لربما قتل مثلما قتل جميع قادة "الجماعة الإسلامية المسلحة" (الجيا) الذين حامت حولهم شبهات كبيرة في الجزائر أواسط التسعينيات.. لكن بالنهاية لا يعني ذلك كثيرًا بالنظر إلى حجم الرأس الكبيرة المطلوبة.. رأس أكبر دولة إسلامية صارت تمثل حصنًا أخيرًا للسنة في المنطقة، لاسيَّما بعد اكتمال السوار الإيراني حول يد العرب بسقوط صنعاء.. هذا السوار الذي منحته واشنطن صلابته، والتي ستتعزز أخيرًا بحملتها التي كشفت في النهاية عن "بطلها" بتصريح كيري عن شراكتها بالحملة، وتأكيد الكولونيل على ضرورة شراكتها وشراكة بشار أيضًا في صنع "مستقبل المنطقة الخالية من الإرهاب"!.
وسوم: العدد 645