الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 58-64

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (58)

إسرائيل تستفز غزة وتعتدي على سكانها

يبدو واضحاً للجميع أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تريد أن تستفز قطاع غزة، وأن تخرجه عن صمته رغم أنه فاعلٌ شعبياً وغير صامتٍ، فجماهير القطاع تتحرك وتغلي، وتثور وتنتفض، وتتوق لأن يكون لها دور ومساهمة في فعاليات الانتفاضة الشعبية، علماً أن القطاع قدم خلال الشهرين الماضيين ما يزيد عن العشرين شهيداً، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تريد أن تجبره وفصائله وقواه على الرد عليها، وإطلاق الصواريخ على بلداتها ومستوطناتها، فهي تتعمد هذه السياسة، وتتعجل الوصول إلى هذه النتيجة، وتقوم بأي شئٍ من شأنه أن يوصلها إلى هدفها، وأن يحقق لها ما تريد، وإن كانت تتوقع أن يلحق بها وبمستوطناتها بعض الضرر، وأن يصيبها ومستوطنيها بعض الأذى نتيجة العودة إلى القصف الصاروخي، إلا أن الكيان الصهيوني لم ينجح في مخططه، ولم يصل إلى غرضه، ولم تحقق الفصائل أمنيته.

أنا لا أستطيع أن أصف الفصائل الفلسطينية بالحكمة والعقلانية، والرشد والاتزان، وأنها لا تستجيب إلى الاستفزازات الإسرائيلية ولا ترد عليها، ولا تنجر إلى مخططها، إحساساً منها بالمسؤولية، وإدراكاً منها للأمانة التي تحمل، وحرصاً منها على الشعب ومصالحه، وعلى الانتفاضة واستمرارها، وكأنها تعرف نوايا الاحتلال، ولا تريد أن تمكنه مما يريد، فهي تعرف خطورة الانزلاق في هذه المرحلة إلى حربٍ جديدةٍ، تعطي العدو كل المبررات لاستخدام ما لديه من أسلحة، في الوقت الذي تصم فيه أذنيها عن أي نداءاتٍ أو مناشداتٍ بوقف عملياتها واعتداءاتها المتواصلة على الفلسطينيين في الضفة الغربية.

كما لا أستطيع أن أتهمها بالعجز والخور، والضعف والتفكك، وقلة الحيلة وانعدام القدرة، وأنها لا تملك القوة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، ولا تستطيع الرد عليها مخافة ردة فعل العدو، التي قد تكون قاسية وصعبة، وكما يصفها قادة جيش كيانهم، بأن ردهم سيكون مزلزلاً ومفزعاً، استناداً إلى ما ينسب إلى رئيس أركان جيش الاحتلال موشيه يعلون "أن من يرفع يده علينا فسيدفع ثمناً باهظاً جداً"، ولهذا تتحسب الفصائل من الرد، وتمتنع عن الإتيان بأي عملٍ أو تصرفٍ يكون من شأنه إطلاق يد الاحتلال من جديد في قطاع غزة، وسيكون من شأن قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعملياتٍ عسكريةٍ واسعةٍ في القطاع، أن تلفت الأنظار عن الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية، وأن تشغل المجتمع الدولي عنها، وهو الذي لا يبدي اهتماماً كبيراً بما يحدث في الضفة الغربية.

دعونا في ظل صمت الفصائل، وتوقف صواريخها عن استهداف البلدات الإسرائيلية، أن نتساءل عن الأسباب التي تدفع دوريةً إسرائيلية تتحرك على الحدود في موازاة السور الفاصل، والأسلاك الشائكة القائمة بين قطاع غزة والأرض المحتلة عام 48، لماذا تقوم هذه الدوريات بإطلاق النار على المواطنين الفلسطينيين، والاعتداء على المزارعين، وإفساد وتخريب البساتين والحقول، وتجريف أرضها وخلع أشجارها.

ولماذا تقوم بإرهاب المواطنين وترويع المارة، وتخويف تلاميذ المدارس ، علماً أن دبابات العدو الرابضة على الجانب الآخر من الحدود، تقوم من وقتٍ لآخر بإطلاق قذائفها على مناطق خالية أو أراضٍ زراعية في قطاع غزة، في الوقت الذي تغير فيها طائراتها الحربية على مواقع لقوى المقاومة، أو تستهدف مبانٍ خاليةً، أو تقوم بغاراتٍ وهميةٍ مخيفةٍ في سماء القطاع، كما تقوم طراداتها وقطعها البحرية بإطلاق النار على الصيادين الفلسطينيين واعتقال بعضهم، كما تقوم بحجز أو إغراق مراكبهم الصغيرة.

علماً أن قيادة أركان جيش الاحتلال لا توقف الطيران المروحي فوق قطاع غزة، إذ تحلق الطائرات العمودية في سماء القطاع على مدى الساعة، كما لا يتوقف الطيران الحربي عن التحليق على ارتفاعاتٍ منخفضة وإن كان لا يقصف أحياناً، كما تنشط وسائل التجسس والمراقبة والتنصت والتصوير ومهام المناطيد، وتفعل المخابرات الإسرائيلية خلاياها الأمنية وشبكاتها التجسسية في القطاع، وتحاول استخدامهم في توريط غزة للوصول إلى الأهداف المرجوة، التي منها تداخل الأوراق واختلاط الأمور ببعضها، وصولاً إلى إنهاء الانتفاضة.

أليست هذه التصرفات والأعمال الاستفزازية متعمدة ومقصودة، وأنه لها أسبابها ودوافعها وما يبررها، إنها كما يسميها الفلسطينيون "جر شكل"، فالعدو يقوم بهذه الأعمال وغيرها، وهي ليست غريبة عليه ولا جديدة في سياسته، بل إنه قد تعود عليها منذ أن نشأ، وهي قد تكون طبيعية و "مبررة" إذا جاءت في سياق رد الفعل، أو رد الاعتبار، أو معاقبة جهة وتأديبها أو ردعها.

لكن العدو يستعجل بها الخطى، ويحاول اختصار الزمن، لأنه يعيش مأزقاً ويواجه مشكلة الانتفاضة التي يشتد عودها ويتسع إطارها ويمتد فعلها، وهو عاجز عن إيجاد أي حلٍ لها، فلا هو قادر على إنهائها، ولا هو قادر على التفاوض مع السلطة لتطويقها والسيطرة عليها، فقد أعياه أنه ليس لهذه الانتفاضة رأس، ولا يوجد لها قيادة يمكن من خلالها التفاوض والحوار، والضغط والمساومة والتهديد والتلويح بما هو أخطر.

الفلسطينيون في قطاع غزة بين خيارين أحلاهما مرٌ، فهم لا يستطيعون النأي بأنفسهم والابتعاد بأبنائهم عن الانتفاضة وفعالياتها، وهذا بالنسبة لأبناء القطاع أمرٌ مؤلمٌ وقاسي، وموجعٌ ومؤذي، ومخزي ومعيب، ومهينٌ ومذلٌ، إذ لا يرضون أن يغلقوا على أنفسهم الأبواب، ويرضون من الحياة بالقعود والكسل، دون أن تكون لهم مشاركة في النضال ومساهمة في فعاليات الانتفاضة.

وفي الوقت نفسه يدرك الفلسطينيون مرامي العدو وأهدافه، ومخططاته وأحلامه، ويعلمون أنه لا أخلاق عنده ولا قيم تحكمه، فقد يجد نفسه مضطراً إلى ركوب الصعب، وتوسيع دائرة الحريق، وإشعال فتيل الأحداث في مناطق أخرى يكون فيها حراً في استخدام قوته وأسلحته الحديثة، وهذا الأمر من شأنه فعلاً أن يكون مبرراً منطقياً ومقبولاً له، لتوسيع دائرة العمليات العسكرية لتكون حرباً أو قصفاً مدمراً، فهل يكون صمت القوى والفصائل حكمةً وعقلانية، أم يكون عجزاً وخوراً، وضعفاً وجبناً.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (59)

"انتفاضة الأفراد" المسمى الإسرائيلي للانتفاضة

يبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد بدأت بعد دخول الانتفاضة الفلسطينية شهرها الثالث تصحو من سكرتها، وتستفيق من غفلتها، وتستعيد وعيها الذي غيبته، ففتحت عيونها بعد طول تغميض، وبدأت تعترف بالوقائع على الأرض، وتسمي الأشياء بمسمياتها، بعد أن طالت فترة غيبوبتها الإرادية التي أنكرت فيها الواقع، وتبجحت في وصف الأحداث كيفما تريد، وحاولت تزييف الحقائق، وتبديل المعطيات، وتغيير المفاهيم، لتجبر العالم على الاعتراف بما تريد، والإقرار بما ترى، ولو أنها كانت عمياء لا ترى، أو لا تريد أن ترى الحقيقة كما هي، رغم أنها كانت واضحة، وآثارها على الأرض وفي كلِ مكانٍ بينةً وصريحةً.

رفض الإسرائيليون طويلاً الاعتراف بالانتفاضة، والإقرار بالوقائع على الأرض، ومعهم جمعٌ كبير من الخصوم والأعداء، وبعض العرب والفلسطينيين للأسف، الذين رأوا ما رأى الاحتلال، وقبلوا بوصفه للأحداث، ومنهم من تبنى وصفه، واستخدم مفرداته، وردد نفس كلماته، دون أدنى إحساسٍ بالخزي أو الخجل، فقد رفضوا جميعاً الاعتراف بأن ما تشهده فلسطين إنما هي انتفاضةٌ حقيقية، وثورةٌ متكاملة الأركان، وجامعة لكل الصفات، وفيها كل الجوانب التي تتطلبها الانتفاضة وتحتاج إليها الثورة، وأن الأحداث ليست هبة مارة ولا موجة عابرة، كما أنها ليست تنفيساً عن غضب، أو تعبيراً عن احتقان، أو محاولاً للتخفيف عن النفس مما أصابها من يأسٍ وقنوطٍ، بل هي إرادة شعبٍ واعٍ، ومقاومة أمةٍ تريد الانعتاق وتسعى نحو الحرية.

بعد مضي أكثر من شهرين، وسقوط أكثر من مائة شهيد وقرابة خمسة عشر ألف جريحٍ فلسطيني، وأكثر من ثلاثين قتيلاً إسرائيلياً، وصف التلفزيون الرسمي الإسرائيلي الأحداث الجارية في المناطق الفلسطينية بأنها "انتفاضة الأفراد"، وتخلى عن وصفها بالإرهاب، وهو ما اعتاد على استخدامه ووصفه دائماً في وسائل إعلامه المختلفة، لكنه تراجع مرغماً عن أقواله، وبدل بالإكراه كلماته، وها هو اليوم يقول بكل وضوحٍ وصراحةٍ إنها "انتفاضة الأفراد"، ولعلها بالنسبة له بداية مرحلة الاعتراف الذي لا يأتي دائماً دفعةً واحدةً، وإنما يأتي تدريجياً وعلى دفعاتٍ، تبعاً للحالة النفسية، والانهيار الذي يصيبه نتيجة توالي الأحداث، التي بدت وكأنها ضرباتٌ حادةٌ متواليةٌ تطرق رأسه، وتصدع دماغه.

اليوم يعترف الإسرائيليون بأن ما يقوم به الفلسطينيون إنما هي انتفاضةٌ حقيقيةٌ، ولو أنه وصفها بأنها انتفاضة أفراد، ولعل أهم ما يميز الانتفاضة الديمومة والاستمرار، وأنها لن تتوقف فجأة دون مقدماتٍ، ولن تنتهي دون إنجازاتٍ، ولن يغادرها الفلسطينيون إلا إلى أداةٍ نضاليةٍ جديدةٍ، ووسيلة مقاومةٍ أخرى، قد تشبهها أو قد تكون مختلفةً عنها وأكثر تطوراً منها، ولكنها أبداً لن تكون عبثية ودون ثمن، أو شكلاً من أشكال الفوضى دون نتائج إيجابية يرضى عنها الشعب، وهو الأمر الذي بات العدو يدركه يقيناً.

الاعتراف الإسرائيلي بما يدور في فلسطين من أحداث بأنها انتفاضة سيرتب على الاعتراف بها مقتضاه، فهذه هي القاعدة البدهية والمنطقية، فالاعتراف يقدم لما بعده، وما بعده بالضرورة مختلف ومغايرٌ عما كان وقت الإنكار والرفض، واعتراف العدو الصريح والواضح بالانتفاضة يعني أنه سيهيئ نفسه لاستحقاقاتها، وبما ستمليه على من شروط، وما ستحققه من أهدافٍ، وكما بدأ العدو الاعتراف وإن متأخراً، فإن الشعب قد قطع مبكراً أشواطاً في الصمود والثبات، وهو السلاح الذي يملكه في وجه العدو وبه يواجهه.

أما أنه وصفه الانتفاضة بأنها "انتفاضة أفراد" فهذا وصفٌ يخيفه أكثر، ويرعب مستوطنيه ويقلق أجهزته الأمنية، ذلك أنه يعاني كأشد ما تكون المعاناة من عمليات المقاومة الفلسطينية الفردية، التي أطلقت عليها مخابراته اسم "الذئب المفترس"، والتي يعجز فيها عن إلقاء القبض على النشطاء، ولا يقوى على معرفة المشتبه بهم، فهم جميعاً فرادى منبتين عن التنظيمات والفصائل، ولا يرتبطون بهم بمجموعاتٍ ولا بروابط، ولا يتلقون منها الأوامر والتعليمات، ولا يحصلون منها على المال والسلاح، وإنما ينفذون ما يريدون ويرغبون، في الوقت الذي يختارون ويقررون.

كما عانى الإسرائيليون كثيراً من عمليات "الذئب المنفرد" وما زالوا يعانون ويتخبطون، فإنهم سيعانون أكثر مما وصفوها بــ"انتفاضة الأفراد"، لأنهم أكثر من يعرف أنه لا قيادة لها، ولا رأس يحركها، ولا مسؤول يوجهها، ولا يوجد من يتحدث باسمها أو يعبر عنها، إنما هي إرادة شبابٍ وحركة جيل، وهذا يعني أنه لن يستطيع أن يفاوضها أو يساومها، إذ من يفاوض ومن يساوم، فمن أمامه ليسوا إلا أشباحاً يتجددون، ويولدون بعد الاستشهاد من جديد، وكلٌ منهم بذاته ونفسه رأسٌ وقائدٌ، يقرر ما يريد، وينفذ ما عزم على تنفيذه بنفسه.

لهذا فإن الوصف الإسرائيلي الجديد للانتفاضة قد وضعه في مأزقٍ خطيرٍ، وسلمه إلى مرحلةٍ صعبةٍ، سيجد نفسه حائراً تائهاً في البحث عن رأسٍ يفاوضه، وعن قيادةٍ يتحدث معها، وسيندم على زمانٍ كان ينكر فيه وجود قيادةٍ فلسطينية، ويرفض الاعتراف بوجود شريكٍ فلسطيني يفاوضه أو يتحدث معه، أما اليوم فقد أصبح في مواجهةٍ مع الفراغ، وفي مقابل اللا أحد فلا عيون أمامه يراها، ولا وجوه يتفرس فيها ويتحاور معها، علماً أنه لم يكن مختاراً في وصفه، ولا متفضلاً في اعترافه، ولا متصدقاً في ذكره، بل إن الواقع كان أقوى منه، والظروف هي التي أجبرته ودفعته، ولو أنه أراد غير ذلك لحكم على نفسه بالعيش في غير زمانه، وبالاحتكام إلى الوهم والخيال.

لا شئ كالمقاومة يستطيع أن يرغم العدو ويجبره، ويذله ويهينه، ويأتي به صاغراً خانعاً، فهو لا يعترف بغير القوة، ولا يقر بغير القهر، وما يقوم به الفلسطينيون اليوم في انتفاضتهم المجيدة، يرفع رأسهم، ويحفر بين الأمم اسمهم، ويجعلهم في المقدمة دوماً، يحترمون ويقدرون، ويتلقون من الجميع التحية، ويسمعون منهم "هنيئاً لشعبٍ يقهر عدوه ولا يستسلم، ويقاتله ولا يضعف، وينال منه ولا يسقط".


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (60)

حماية وحدة حراسة الحافلات

بعد تسعة سنواتٍ من حل وحدة حراسة الحافلات، أعادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تفعيلها من جديد، وأناطت بها حراسة الحافلات ومحطات الركاب وأماكن التوقف النائية، وزودتها بزيٍ خاصٍ وأسلحة ومعداتٍ وشاراتٍ خاصةٍ تميزهم عن غيرهم، كما زودتهم ببطاقاتٍ أمنيةٍ تخولهم حق تفتيش الركاب وسؤالهم عن بطاقاتهم الشخصية، وأوراقهم الثبوتية، وما يثبت ملكيتهم للسيارة التي يقودون، كما سيكون من حقهم اعتقال من يشتبهون فيه أو التحقيق معه في المكان، فضلاً عن إطلاقهم النار على كل من يحاول الاعتداء على المواطنين، إن لم يكن هناك وسيلة أخرى لمنعه.

وبدأت سلطات الاحتلال في تسيير هذه الدوريات التي ستغطي وفق المخططات الأمنية جميع محطات الحافلات في مدينة القدس، وتلك التي تقع على الطرق العامة إلى المستوطنات الإسرائيلية القريبة من القرى والبلدات الفلسطينية، حيث ستقوم هذه الوحدات الراجلة والمحمولة بتوقيف المارة وتفتيشهم، بعد التأكد من بطاقاتهم الشخصية والاقتناع بأسباب وجودهم في المنطقة، كما ستقوم بتقديم المساعدة والعون إلى كل من يطلبها من المواطنين، وستستجيب إلى طلبات الحماية والمرافقة وفق التقدير المناسب للظرف والمكان، وحسب البلاغات الأمنية ودرجة الخطر المتوقعة.

كما سيقوم أفراد هذه الوحدة بركوب الحافلات ومرافقة الركاب ومراقبتهم، حيث سيزودون بوسائل اتصالٍ حديثةٍ وأخرى قادرة على البث والارتباط بمراكز الرقابة والإدارة، لتحافظ على الخط ساخناً مع قيادة وحداتها، في الوقت الذي ستقوم بعض هذه الوحدات بمواكبة الحافلات ومتابعتها عن قربٍ، حيث أنها مزودة بسياراتٍ حديثةٍ ودراجاتٍ آليةٍ سريعة، تمكنها من ملاحقة أي هدف، والتدخل السريع في الوقت المناسب، وسيكون بصحبتهم كلابٌ مدربة ومؤهلة لمهاجمة الأهداف المقصودة، حيث تستطيع الكلاب المدربة فعل ما لا تقوى على القيام بها الوحدات العسكرية والأمنية.

تبرر سلطات الاحتلال الإسرائيلي إقدامها على إعادة تفعيل هذه الوحدة العسكريةِ، وإعادة تأهيلها وتزويدها بمعداتٍ حديثةٍ وتكليفها بمهامٍ جديدةٍ، بعد تسعة سنواتٍ من توقيفها، أنها تنوي فضلاً عن حمايتها مواطنيها ومنع الاعتداء عليهم، والتقليل من حوادث الطعن والدهس، التي بدا لهم أنها تزيد ولا تنقص، وأنها تتكرر ولا تتوقف، وأن كافة الإجراءات الأمنية التي تم اتخاذها سابقاً لم تجد نفعاً، ولم تتمكن من إيقاف الانتفاضة، أو التخفيف من فعالياتها وأنشطتها، ذلك أن عمليات القتل المتكررة التي ينفذها المستوطنون في حق الفلسطينيين، تزيد من حدة المواجهات، وتسعر الأحداث، وتضاعف رغبات الثأر والانتقام التي تبرز لدى أقارب وأشقاء الشهداء، الذين يقتلون غالباً في نفس المكان.

يعتقد الإسرائيليون أن إعادة تفعيل هذه الوحدة الخاصة المدربة والمؤهلة، والتي تتمتع بكفاءةٍ عالية، ولها سجلٌ قديمٌ غنيٌ بالنجاحات والإنجازات، وحافلٌ بمثل هذه العمليات الخاصة، والتي تتحلى بالصفة الرسمية إذ تنتسب إلى الجيش والمؤسسة الأمنية، أي أنها قوة نظامية "شرعية"، سيؤدي إلى تحجيم دور المستوطنين، وقد يمهد انتشارها واستلامها لزمام الأمور إلى منع المستوطنين من تنفيذ عمليات القتل بأيديهم، والتوقف عن الإفراط في استخدام الأسلحة النارية، والاكتفاء بالتعاون المعلوماتي مع هذه الوحدة، التي تملك الخبرة الكافية لتقدير الخطر، وتحديد القرار المناسب بموجب كل حالةٍ حسب ظروفها ومكان وقوعها.

ينبغي عدم النظر إلى هذا الإجراء الإسرائيلي بحسن نيةٍ، وسلامةِ قصدٍ، وكأنهم فعلاً يريدون لجم مستوطنيهم، ومنعهم من التجاوز المفرط والقتل المتكرر، ذلك أن حكومتهم هي التي سمحت لهم ابتداءً باستخدام الأسلحة النارية في التعامل مع الفلسطينيين، وتكفلت بعدم اتهامهم أو إدانتهم، وبعدم محاسبتهم ومعاقبتهم ومحاكمتهم، ولكن الحقيقة أن سلطات الاحتلال تهدف من خطوتها هذه ابتداءً إلى محاولة السيطرة على الانتفاضة، ومنع عمليات الطعن أو التقليل منها، فهي تعتقد أنها هي التي تسعر الانتفاضة، وتغري الشباب بالتقليد كما تدفعهم للثأر والانتقام.

كما ترغب سلطات الاحتلال في ضبط أداء الشارع الإسرائيلي، بعد أن شوه المستوطنون صورتهم، التي أضرت بهم لدى المجتمع الدولي، وأظهرت المستوطنين وكأنهم قطعان من الحيوانات المفترسة، أفلتت من عقالها وانطلقت في الشوارع والطرقات تبحث عن فرائسها وطرائدها، فتقتل كل من اشتبهت فيه، وكانت ملامحه عربية، أو سحنته داكنة، حيث بدأت أصواتٌ دولية عديدة ترتفع وتنتقد الأداء الإسرائيلي، وتصف العمليات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين بأنها جرائم دولية، وتتهم الحكومة الإسرائيلية بأنها التي تتسبب في عمليات القتل المتكررة بتشجيعها المستوطنين لاستخدام أسلحتهم الفردية، في الوقت الذي رفضت فيه وصف عمليات الطعن والدهس الفلسطينية بأنها عملياتٌ إرهابية.

تطالب قيادة الأركان الإسرائيلية وزير دفاع جيش الاحتلال بضرورة تخصيص موازنة مستقلة لهذه الوحدة، لتتمكن من التأهيل والتدريب والقيام بمهمتها على أكمل وجه، لكن الأخير يجد صعوباتٍ كبيرة في زيادة الميزانيات لوحدات الجيش المختلفة، وللأجهزة الأمنية، وللمهمات الجديدة الملقاة عليها، وهي نفقاتٌ متزايدة، يجب الالتزام بها وأداءها في موعدها، رغم أنها تؤثر على قطاعاتٍ أخرى في دولة الكيان، وتؤثر على النشاط الاقتصادي العام، نظراً لما تتركه من آثارٍ جانبية مربكة على الحياة الإسرائيلية العامة.

كما يرى آخرون في نفس المؤسسة العسكرية التي قررت اعتماد الوحدات الخاصة، أن هذه الوحدات ستكون نظراً لانتشارها الكبير، ولسعة المساحة التي ستعمل فيها عرضةً لاعتداءات الفلسطينيين، الذين قد يطورون أساليبهم ويغيرون أدواتهم القتالية إزاء هذا التغيير في استراتيجية المواجهة، فقد يلجأون إلى استخدام الأسلحة النارية في عمليات قنصٍ أو اشتباكٍ مباشر، الأمر الذي يستدعي وجود قوات عسكرية إضافية لحماية هذه الوحدات، والاستجابة لنداءاتها في أي وقتٍ وتحت أي ظرف.

لن يتوقف العدو الإسرائيلي عن التفكير في كل الوسائل والسبل التي من شأنها إنهاء الانتفاضة، واحتواء فعالياتها، والسيطرة على شبانها، لكنهم ينسون أن الفلسطينيين لا يقفون عند حد، ولا يعترفون بأي منع، ولا يستسلمون لأي إجراء، فهم يطورون عملياتهم، ويجددون في وسائلهم، ويبتكرون في أدواتهم، وتتفتق أذاهنهم دوماً عن الجديد الفاعل والمفاجئ والمناسب لكل مرحلة، فهذا شعبٌ أبيٌ عزيزٌ، جسورٌ شجاع، ثابتٌ صامدٌ، مؤمنٌ واثق، فلن يستسلم لعدوه، ولن يخضع لمحتله، ولن يتوقف عن مقاومته.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (61)

رصاصةٌ في جيب الضابط الفلسطيني

يظن البعض أن استشهاد المساعد في الاستخبارات العسكرية الفلسطينية الشهيد مازن حسن عربية لم ينجح في تحويل مسار الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، رغم أن الكثير من الفلسطينيين في الوطن والشتات، وغيرهم من العرب والمسلمين الذين يراقبون الانتفاضة، ويتابعون فعالياتها، ويرصدون يومياتها، كانوا يتوقعون أن استشهاد ضابطٍ في الأمن الفلسطيني سيؤدي إلى انقلاب الأمور، وتغيير الأوضاع، ودخول الانتفاضة في مرحلةٍ جديدة، ستكون بالتأكيد مختلفة عن المرحلة التي سبقت، والتي تميزت بالشعبية والفردية والارتجالية، وخلا أبطالها من الخبرة والكفاءة العالية، وكان ينقصهم التخطيط والتدريب والتأهيل والمراقبة والرصد وتحديد الأهداف وانتقاء الأنسب من بينها، فكانت عملية مازن وإن استشهد فيها بشارةً للبعض، وإيذاناً بتحولٍ قادم، سيكون له آثاره ومفاعيله على الأرض على كل الأطراف وعلى جميع الصعد.

كاد استشهاد المساعد في المخابرات الفلسطينية أن يدخل الكيان الصهيوني في مأزقٍ شديدٍ، وأن يعرض خطته في مواجهة الانتفاضة إلى الخطر، ويربك الموازين التي كانت قائمة، والمعايير التي على أساسها كان يبني خططه، ذلك أن سلطات الاحتلال ما زالت تعتمد في عملياتها الأمنية والعسكرية ضد الفلسطينيين في القدس ومختلف المناطق على التنسيق الأمني اليومي مع السلطة الفلسطينية، الذي تحرص المخابرات الإسرائيلية على بقائه ووجوده وتحافظ عليه، وتحذر حكومتها من مغبة إسقاطه أو انهياره.

فجاء استشهاد الضابط المساعد مفاجئاً للإسرائيليين وصادماً للأجهزة الأمنية، التي تعرف أبعاد استهداف عناصر ومنتسبي الشرطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية، ونتائج انقلابهم عليها، واستفزازها لهم، وتعترف بأنها بدونهم عاجزة، ومن غيرهم ضعيفة، وبعيداً عنهم فإنها لا تستطيع السيطرة أو استكمال مساعي الاحتواء والإخماد، أي أن ظهرها بدونهم ينكشف، وخاصرتهم تضعف، فيسهل النيل منهم وإيلامهم أكثر.

لم تنس سلطات الاحتلال الإسرائيلي أزمتها وورطتها التي وقعت فيها في ظل انتفاضة القدس الأولى "الانتفاضة الثانية"، عندما استهدف شارون وجيشه المؤسسات الأمنية الفلسطينية، وقصف مقراتهم، ودمر ثكناتهم، وخرب مكاتبهم، واستهدف عناصرهم، ولاحقهم بقسوة، إلا أن الكثير من عناصر الأجهزة الأمنية لم يهابوه ولم يخافوه، ولم يصمتوا ولم تصدمهم المفاجأة، بل بل ردوا عليه وخرجوا إليه، وخاضوا غمار الانتفاضة، وانخرطوا في صفوفها، وشاركوا في فعالياتها، وساهموا فيها كأعظم وأشرف ما تكون المساهمة والمنافسة الوطنية الشريفة، حتى غدا عدد شهداء الشرطة والأجهزة الأمنية يفوق عدد غيرهم من الشهداء، وكانوا من خيرة الرجال وأبر الأبناء لوطنهم وشعبهم، في الوقت الذي فرض فيه الاحتلال الحصار على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وضيق عليه في مقر المقاطعة، وحاول منعه من التواصل مع شعبه، والتأثير في جمهوره، قبل أن يسممه بطريقته، ويغتاله بغدره المعهود ووسائله الخبيثة.

اليوم تخشى المخابرات الإسرائيلية أن يتورط جيش كيانهم مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وأن يستفزها ويخرجها عن صمتها، وأن يدفعها للثأر والانتقام، ويجبرها على الانخراط في فعاليات الانتفاضة إلى جانب شعبهم، ومع أسرهم وذويهم، وهي التي ما زالت حتى اليوم بعيدة عن الأحداث، ومعزولة عن المواجهات، فلا تتدخل نصرةً أو مساعدة، ولا تحاول صد العدو أو منعه من ممارسة جرائمه، والاستمرار في اعتداءاته المتكررة والقاسية ضد أبناء شعبهم من الشباب والأطفال من الجنسين،  ذلك أن قيادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضابطة وحاكمة، ومسيطرة ومهيمنة، وقرارها واضحٌ وصريحٌ، أنها لن تدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني، ولن تكون ضمن معادلة الصراع القائمة، رغم أن هذه المعادلة السلبية تعني اصطفافها إلى جانب العدو.

لكن الحقيقة أن الشهيد مازن عربية لم يكن عندما استشهد عابراً للطريق، كما لم يكن متفرجاً على الأحداث صامتاً أو سلبياً لا يتدخل، كما لم يكن يمنع أبناء شعبه ويصدهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى جنود الاحتلال، بل كان في مدينة القدس التي تدور حولها الأحداث، وفي بلدة أبي ديس فبادر بنفسه، وهاجم قاصداً ومتعمداً جنوداً إسرائيليين على حاجزِ بلدته، وأطلق عليهم النار من مسدسه، قبل أن يرد عليه جنود الحاجز مذهولين مما حدث، فأستشهد بينما أصيب فلسطيني آخر بجراح نقل على إثرها إلى المستشفى، لكن التقارير الإسرائيلية لم تتحدث عن الجندي الذي أصابه الشهيد بمسدسه، وأبقوا على حالته سريةً وإن كانوا يتحدثون عن إصابته بسلاح زملائه في الحاجز، مخافة أن يتأسى آخرون به، ويقلدون فعلته ويهاجمون مثله.

لعله من الصعب على الفلسطيني أياً كان انتماؤه وولاؤه، أن يرى أبناء شعبه يقتلون ويعتدى عليهم، وتصادر حقوقهم وتنتهك أعراضهم، وتدنس مقدساتهم، بينما يقف متفرجاً لا يحرك ساكناً، ولا يهب لنجدة إخوانه والانتصار لشعبه، فكيف بالعسكري الذي يحمل شرف الانتماء إلى المؤسسة العسكرية، التي لا تخلق إلا للدفاع عن الشعب وحماية الأوطان، وصيانة البلاد وحفظ مصالحها، وكذا كان الشهيد عربية، ومثله الكثير في صفوف السلطة الفلسطينية، الذين هم أبناء هذا الشعب، وأصحاب هذا الوطن، عاشوا فيه وانتسبوا إليه، وعانوا مع أهله، وتعرضوا للانتهاكات الإسرائيلية، ومنهم من سبق اعتقاله أو بعضاً من أهله وعائلته، ولكثيرٍ منهم شهداء وجرحى ومبعدين، مما يجعل نسيانهم للظلم صعباً، وتجاوزهم للعدوان مستحيلاً، ومسامحتهم له أو تعاونهم معه ضربٌ من الخيال بعيد المنال.

شعر العدو بالخطر الحقيقي، وبدأ بالاتصال بقادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وأخذ ينفخ في نار التنسيق الأمني بين الطرفين، إذ خاف من صحوة الضباط الفلسطينيين، ويقظة المنتسبين للأجهزة الأمنية، الذين يملكون أسلحةً نارية، وعندهم خبرة وكفاءة، ومعلوماتٌ وبيانات، ويستطيعون الوصول إلى ما لا يستطيع غيرهم الوصول إليه وتنفيذه، وما ظن العدو أن عناصر الأجهزة الأمنية هم من أبناء هذا الشعب الأصيل، الذي لن يفرطوا فيه، ولن يتخلوا عن أهله، ولن يوالوا عدوه، ولن يكونوا حراساً لمستوطنيه، وكما خرج مازن عربية ثائراً ناقماً فإن غيره سيقلدونه وسيكونون مثله، بل إن منهم من سيسبقه وسيتقدم عليه، ذلك أن هذا الشعب سيبقى فلسطينياً، وسيبقى أبناؤه إلى فلسطين ينتمون، وعنها يدافعون، وستبقى الرصاصة دوماً في جيوبهم يطلقونها على العدو في كل وقتٍ وحينٍ، ثأراً وانتقاماً، وعدالةً وإنصافاً، وأصالةً ووفاءً، وحباً وغيرة.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (62)

الوصفة الأمريكية لاستعادة الاستقرار والهدوء

يبدو أن الإدارة الأمريكية مهمومةٌ أكثر من حكومة الكيان الصهيوني مما يجري في فلسطين المحتلة، وتشغلها الأحداث وتقلقها أكثر من غيرها، وتستشرف حقيقة الخطر ومآل الانتفاضة، وتدرك طبيعة المرحلة والمتغيرات التي تشهدها، وتعرف أن الفلسطينيين لن يقفوا عند حد، ولن يترددوا عن ركوب الصعب، ولن يعترفوا بمعطيات الواقع العربي الجديد، الذي شغل العرب بأنفسهم وقضاياهم الخاصة عن القضية الفلسطينية، التي كانت بالنسبة لهم على مدى عقودٍ طويلةٍ مضت القضة المركزية للأمة، لكن الفلسطينيين لن يفت في عضدهم انشغال أمتهم عنهم، وسيواصلون نضالهم وسيحافظون على مقاومتهم، وقد أوصلتهم سياسات الاحتلال إلى نقطةٍ يصعب منها التراجع أو العودة إلى الوراء، فساعدتهم في اتخاذ القرار وإطلاق شرارة المواجهة التي لا يعلم الكيان الصهيوني نفسه منتهاها ونتيجتها.

تدعي الإدارة الأمريكية أنها ترى ما لا يرى الآخرون، وتعلم أكثر مما يعلمون، وهي تستطيع قراءة ما لا تستطيع سلطات الاحتلال الإسرائيلي قراءته، وترى أنها جاهلة بطبيعة السكان الفلسطينيين، وغير عالمة ببواطن الأمور، وتتوه عن الحل، وتعجز وعن الوصول إلى طريق النجاة، وفضلاً عن عجزها وارتباكها، واضطرابها وخوفها، فهي مسكونةٌ بالغطرسة، ويحكمها الغرور وتحركها القوة، فلا تحسن التفكير الهادئ السليم، ولا تستطيع تقدير الأمور التقدير الحسن، فتلجأ إلى العنف وحده وسيلةً لإخماد الانتفاضة والسيطرة عليها وإنهاء فعالياتها، لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاعها.

لكن الإدارة الأمريكية أكثر خبثاً وأشد مكراً من الكيان الصهيوني نفسه، وأكثر حرصاً وخوفاً عليه، ويهمها أمره كأنه منها وإن كان بعيداً عنها، فهي تناور وتخادع، وتكذب وتفتري، وتدعي وتختلق، ولا تريد أن تعترف بالمتغيرات، ولا أن تقر بالمعطيات الجديدة، كما أنها لا تريد له أن يصل الكيان الصهيوني إلى طريقٍ مسدودةٍ، ويجد نفسه مضطراً لأن يدفع فاتورة تعنته وضريبة تصلبه، وعاقبة سياساته الفاشية العدوانية المستبدة، فهو أفقد الفلسطينيين الأمل، وألجأهم إلى هذه الخيارات القاسية.

الإدارة الأمريكية لا تريد أن تعترف علناً أن الكيان الصهيوني في مأزقٍ، وأنه يعاني من فعالياتِ الانتفاضة التي لا تنتهي، وأن شعبه بدأ يضج ويضجر، ويخاف ويقلق، فحرب السكاكين تخيفه وترعبه، لكنها جادة في مساعيها لإخراجه من أزمته، بدونه أو بالتنسيق والتفاهم معه، فهي تريد أن تحفظ له ماء وجهه، وكرامته وهيبته العسكريةِ ككيانٍ قويٍ، ولهذا فهي تحاول أن تلقي الكرة في الملعب الفلسطيني، وتتهمه بأنه هو الذي يمارس الإرهاب والقتل، وأنه هو الذي يدفع السلطات الإسرائيلية إلى مواجهته بالقوة، وهذا حق مشروعٌ له ومكفولٌ بالقانون الدولي، فهو يحمي مواطنيه ويدافع عنهم.

وعليه وخروجاً من هذه الأزمة التي "ورط" الفلسطينيون أنفسهم فيها، وأجبروا السلطات الإسرائيلية على التعامل معهم بقوةٍ وعنفٍ، شأنهم شأن أي دولةٍ أخرى تشهد اعتداءاتٍ "إرهابية"، فقد تقدمت الإدارة الأمريكية جادةً غير هازلةٍ، إلى السلطة الفلسطينية بوصفةٍ سحريةٍ وفاعلة، من شأنها أن تشفي المنطقة مما أصابها، وأن تعافي الأطراف مما لحق لها، وأن تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه، وتبدو الإدارة الأمريكية في نصحها جادة وحكيمة، وعاقلة ومتزنة، وعادلة ومنصفة، فقد استقصت جيداً وشخصت المشكلة وعرفت أسبابها، وحددت نوعية العلاج المناسب لها، والذي بدونه ستتفاقم الأوضاع وستسوء أكثر.

تنص الوصفة الأمريكية على أن يأمر الرئيس الفلسطيني كافة المؤسسات الإعلامية والدينية بوقف كافة أعمال التعبئة والتحريض، وأن توقف وسائل الإعلام المحلية عن بث الصور العنصرية البغيضة، التي من شأنها إيغار النفوس، وزيادة الأحقاد، وتحريك المشاعر، وأن يمنع المساجد ورجال الدين من التحريض ودفع الشباب للقيام بعمليات طعنٍ ودهسٍ، إذ تبين أن الكثير من العمليات "الإرهابية" التي قام بها شبانٌ فلسطينيون، كانت نتيجة التعبئة والتحريض التي يمارسها الإعلام والمساجد ورجال الدين والدعوة، ولكن السلطة الفلسطينية لم تبذل الجهود الكافية لوقف كافة أعمال التحريض المتزايدة.

كما يجب على الرئيس الفلسطيني التشديد على رجاله ومؤسساته الأمنية للمتابعة والمراقبة، وتفتيش المواطنين ومنعهم من حمل السكاكين والأدوات الحادة، فالأجهزة الأمنية الفلسطينية مدربة ومؤهلة، وتعرف جيداً مناطقها وتركيبة سكانها، وتعرف هوية المقيمين وميولهم، وتستطيع أن تحدد مصادر الخطر وأماكن التوتر، فتضبطها وتمنع تفاقمها، أو تسيطر عليها وتحتويها، وفي حال طلبت السلطة الفلسطينية مساعداتٍ ماديةٍ وتقنيةٍ فإن الإدارة الأمريكية وخبراءها جاهزون لتقديم الدعم المادي والفني لهم، ليتمكنوا من أداء الدور المنوط بهم على أكمل وجه.

أما العلاج الثالث في الوصفة الطبية الأمريكية فهي دعوة رئيس السلطة الفلسطينية إلى الشروع في مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع الحكومة الإسرائيلية، دون أي شروطٍ مسبقة، وألا يشترط قبلها ما يعيقها أو يعطلها، فالمفاوضات المباشرة بين الطرفين وبرعايةٍ من الإدارة الأمريكية، كفيلة بأن تضع حلولاً لكثيرٍ من المشاكل القائمة، وخاصةً فيما يتعلق بالقدس والأماكن الدينية التي يجب أن تكون متاحة للعبادة.

وعلى الرئيس الفلسطيني أن يبدي تفاءله، وألا يظهر تجاه شعبه بأنه يائس من المفاوضات، وأنه لا يتوقع منها خيراً، فهذا الإحساس العام باليأس والقنوط وعدم الثقة يحرض الشارع الفلسطيني، ويدفع بالمواطنين وخاصةً الشباب منهم إلى أخذ زمام المبادرة، وتحريك الأوضاع العامة ظناً منهم أنها ستكون لصالحهم.

تلك هي الوصفة الأمريكية المبدعة، التي تتشدق بها الإدارة الأمريكية وترى أنها ستكون بلسماً للجراح، وشافيةً من الأمراض، وأنها ستريح الأطراف كلها، وستخلصهم من الصداع الذي ألم بهم، ونسيت أن علة المرض كله هو الكيان الصهيوني، وسبب الأزمة كلها هو وجوده السرطاني الاستيطاني ، فهو العلة والمرض، ووجوده هو الأزمة والمشكلة، وغيابه أو زواله فيه شفاءٌ للناس، ومنافعٌ للبشر، وراحة لنا وللمنطقة وللعالم كله، ولكنها الإدارة الأمريكية التي لا تقوى على المرض، فتحاول قتل المريض، وتريد أن تجبرنا على تجرع هذا الدواء وهي تعلم أننا نرفضه ولا نقبله، لأننا نعرف أنه وصفة للموت، ووسيلة للانتحار، وسبيلاً جديداً للانقسام والاختلاف.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (63)

أورون شاؤول يطعن قلب كيانه ويدهس حكومته

وسط ضوضاء الانتفاضة، ومعمعان الطعن والجلاد، وأصوات قعقعة السلاح واستلال السكاكين، وعلى وقع التفحيط والتشفيط، والدهس والصدم والسحل، وصوت الارتطام وصرخات الفزع، ودوي طلقات المسدسات والبنادق الآلية، وعلى إيقاعات التهديد والوعيد، وصيحات الثأر والانتقام، والحساب والعقاب، ومن بين براثن الخوف والفزع، والذعر والقلق، وحالة الارتباك الكبيرة التي تسود الشارع الإسرائيلي كله، وظلال الخيبة والفشل التي تلاحق الجيش والأجهزة الأمنية، وحالة الوجوم والحيرة، والتردد والشك التي تحكم سلوك المستوطنين الإسرائيليين، الحائرين بين التطرف المقيت والخوف المميت مما ينتظرهم في النهار بعد أن أمنوا الليل، وسكنوا إلى ظلامه البهيم.

فجأة سكت الإسرائيليون جميعاً، وران عليهم صمتٌ كأنه الموت، وغشيهم وجومٌ كأنهم تماثيل من صخرٍ قد نحتت، فلا صوت ولا حراك، ولا تعقيب ولا تعليق، وحلقت على رؤوسهم طيور الشؤم من البوم والغربان، تحمل بين طياتها رسالةً غريبةً غير متوقعة، وأخباراً غير مرحبٍ بها ولا سارة، فقد وصلتهم في وقتٍ عصيبٍ وظرفٍ دقيقٍ، حملها البريد في زمن الطعان ووقت النزال، حيث المعركة تستعر والحرب تدور رحاها، فكانت الرسالة كحمى القضاء وفاجعة البلاء، نزلت عليهم أشد مضاءً من السيف، وأحد من شفرة السكين، ولا قدرة لأحدٍ في كيانهم على صدها أو تحمل تبعاتها، فقد طعنت الجسد ووصلت إلى عمقه فمزقت الأحشاء، وتسببت في نزيفٍ لا يعرفون تضميده، ولا يحسنون علاج جرحه، فهو طعنٌ ليس كأي طعنٍ، ودهسٌ لا يشبه دهساً آخر، فطعنته نجلاء، ودهسه سحقٌ للروح والنفس قبل العظام.

تلك كانت الرسالة التي بثتها المقاومة ونقلتها إلى الإسرائيليين على لسان جنديهم الأسير، فكان أن أصابت قلب الكيان، وهو آخر ما كان يتمناه في هذا الوقت، ودهست حكومة الأمن والتطرف، واليمين المتشدد، وسحلتهم أرضاً بعد أن أخرستهم، فلم يحر رئيسهم ولا الناطق باسمهم جواباً، ولم يستطع على ما سمع رداً، وطال صمتهم الخبيث ولم يزل، فقد سحقت الرسالة بكلماتها أجسادهم، وسحلت بمفاجأتها برامجهم وخططهم، وما زالت تحصد مما قصدت وهدفت الكثير وتجني الأكثر.

حاولت الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية وقيادة أركان جيشها المعادي أن تلفلف القصة، وأن تنهي حكاية الرسالة، وأن تشيع بين مستوطنيها أنها ملفقة وغير حقيقية، وأنها زائفة وغير أصلية، فهي من صياغة المقاومة ومن كلمات آسريه، وليس فيها ما يثبت أنها بقلم شاؤول، وأنها من كتابته.

لكن عائلة الجندي الأسير لم تصدق كذب حكومتها، ولم تقبل بمبررات قادة جيش كيانها، وأصرت على أن تتعامل مع الرسالة على أنها حقيقية، وأنها فعلاً بلسان وقلم ابنها الأسير، فعقدت مؤتمرها الصحفي لتستكمل به طعن قلب الكيان، وتواصل دهس الحكومة الكسيحة، ولتعترف بانتصار المقاومة الفلسطينية على كيانهم من جديد، إذ انتصرت يوم أن قاتلت الجندي ووحدته العسكرية، وهي وحدة النخبة المختارة، وانتصرت يوم أن نجحت في أسره واقتياده إلى أماكنها السرية، وأخيراً نجحت عندما أطلقت رسالته كطلقةٍ مدويةٍ، أصمت آذان حكومة العدو، وأخرست أجهزته الأمنية، وأبكمت وسائله الإعلامية التي لم تحر جواباً ولم تستطع كلاماً، وهو ما عبر عنه المحلل العسكري الإسرائيلي يوسي ملمان عندما اعترف بانتصار المقاومة الفلسطينية على جيش كيانه من جديد.

يقول خبراء إسرائيليون أن الرسالة التي نسبتها المقاومة الفلسطينية إلى الرقيب في الجيش الإسرائيلي أورون شاؤول خطيرةٌ في توقيتها وزمانها، وهي متقنةٌ في صياغتها، ومنتقاة في كلماتها، ومحبوكةٌ في عباراتها، وقد أجاد المعنيون بالجندي الأسير توجيه الرسالة نحو أهدافهم المنتقاة بعناية، فأصابوا أكثر من هدفٍ وحققوا أكثر من نتيجة، ولا يبدو أن طلقات الرسالة قد انتهى مفعولها بانتهاء صوتها وإصابة هدفها، بل من المتوقع أن يتواصل صدى الرسالة وأن تتفاعل نتائجها، وقد تسبب للحكومة حرجاً وأزمةً بما لا تحمد عقباه.

الرسالة أياً كانت حقيقتها وصدقيتها، فقد استخدمت مفرداتٍ مؤثرة، وكلماتٍ يصعب المرور عليها ببساطةٍ، فهي عاطفية إذ خاطب فيها والديه، واستحثهم على المطالبة بحريته، وحدثهم كأنه على مقربةٍ منهم، يسمع صوت تساقط المطر، لكنه يتمنى على والديه أن يرى المطر، وألا يكتفي بسماع صوت تساقطه، ويتابع مستجدياً قلب أمه الحنون، شاكياً إليها البرد الشديد والشتاء القاسي، وكأنه يطلب منها الدفء، ويبحث عندها عن الحنان.

أياً كانت حالة الجندي الإسرائيلي الأسير أورون شاؤول، ميتاً أو حياً، جثةً كاملةً أو بقايا جسدٍ، فإنه في قبضة رجال المقاومة في قطاع غزة ورقةً رابحةً، يمكنهم المساومة عليها، والضغط بها للدخول في صفقةِ تبادلٍ جديدةٍ، تطلق سراح من بقي من الأسرى في السجون الإسرائيلية، وتعيد الحرية لمحرري صفقة وفاء الأحرار الذين غدر العدو بهم، ونكث اتفاقه معهم، وأعاد اعتقالهم من جديد.

كم كانت الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية في حاجةٍ إلى من يساندها في تشتيت شمل الإسرائيليين، وتمزيق صفهم، وشق وحدتهم، وخلخلة صفوفهم، وإرباك استعداداتهم، وتحويل تركيزهم إلى قضايا أخرى وملفاتٍ ثانية، وكم كانت في حاجةٍ إلى وقوف إخوانهم في قطاع غزة معهم، وهم الذين يعرفون توق أهل القطاع إلى المشاركة في الانتفاضة، وحبهم الشديد لخوض غمارها، والمساهمة فيها، ولكنهم كانوا يعذرون أهل غزة لبعدهم عنهم، وعدم قدرتهم على الوصول إليهم لتزويدهم بمددٍ أو عتادٍ، أو لمشاركتهم التظاهر والاحتجاج، أو لزيادة عددهم وتقوية جمعهم أثناء المواجهة وقذف العدو بالحجارة.

لكن غزة أرادت المشاركة بطريقةٍ أخرى مختلفة، ولعلها آخر ما كان يتوقعه العدو ويتمناه، وآخر ما كان يتحرز منه ويتوقاه، فقد جاءته هذه الضربة الجديدة، النفسية والمادية معاً، لتجبره على التوقف عن غيه، والامتناع عن اعتداءاته، والاستيقاظ من سكرة القوة والغطرسة التي يعيش، والتي جعلته يلجأ إلى القوة في مواجهة الشعب الفلسطيني، ظاناً أنه بقوته سيقهره وسيجبره على الخضوع والركوع، ولكن سهمه قد طاش، وأمله قد خاب، وجاءه سهمٌ من حيث لم يحتسب، وأصابه السهم حيث لا يستطيع المقاومة والصمود.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (64)

النفس الإسرائيلية المريضة وطباعها الخبيثة

يكذب الإسرائيليون عندما يدعون أنهم أكثر شعوب المنطقة وعياً ورقياً، وأنهم أكثرهم ديمقراطية وإنسانيةً واحتراماً لحقوق الإنسان، وأنهم يحترمون القيم الإنسانية والمعاني البشرية، وأن جيشهم هو الأكثر مناقبية عسكرية، والأكثر انضباطاً والتزاماً، وأنهم يتحلون بالشفافية والإنصاف، ويحاسبون المخطئ، ويعاقبون المسيئ، ويقصون الفاسد، ويعزلون المتجاوز، ويبعدون عن المناصب والسلطة والقرار المريض والمنحرف والشاذ، ولا يسمحون للتطرف أن يحكم، ولا للتشدد أن يقرر، ويخضعون أحكامهم للقانون، ويخضعون لقرارات القضاء والمحكمة العليا التي تنقض بعض القرارات وتعطلها، فلا تقوى الحكومة على تجاوز أحكامها، ضمن ذهبيةِ الفصل بين السلطات، وفي أبهى مظاهر سيادة القانون واستعلاء القضاء.

الإسرائيليون يعرفون إنهم يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا على الآخرين، ويتظاهرون أمام العالم بما ليس فيهم ولا عندهم، فهم براءٌ من كل ما يدعون زوراً وبهاتاً انتسابهم للإنسانية حضارةً وقيماً، وهم أبعد الشعوب عن الإنسانية وأكثرهم إساءةً لها وتحقيراً وتعنيفاً للإنسان، والشواهد على ارتكاسهم الأخلاقي عديدة، وانتكاسهم القيمي عميق، ودلائل انحدارهم في مستنقع العنصرية كثيرة، إذ هم أكثر الجماعات عنصريةً في العالم، فهم لا ينكرون فوقيتهم وساميتهم، وعلوهم ومثاليتهم، وأنهم أحباب الله وشعبه المختار، ومع أن الأمم المتحدة ألغت قرارها الشهير باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، فإن هذا الإلغاء التي تم بالقوة والضغط والإكراه، لا يلغي الحقيقة الأولى أن الصهيونية هي الشكل الأوضح والأتم للعنصرية.

الإنسانية ليست درجات ومستويات، تكون لدى البعض وتمنح لفئةٍ من الناس وتحرم منها فئةٌ أخرى، بل هي خلقٌ وشيمةٌ، وسجالٌ وصفات تتحلى بها الأمم العظيمة والشعوب الرسالية، التي تحفظ الإنسان وتكرمه، وتصونه ولا تنتهك حقوقه، والإسرائيليون أبداً ليسوا من هؤلاء، ولا يمكن أن يكونوا منهم أو أن ينتسبوا إليهم، ويخطئ من يصدقهم ويؤمن بروايتهم، ويعتقد بأنهم شعب الله المختار من بين البشر لخلقٍ قويمٍ فيهم، وشيمٍ عالية تميزهم، بل هم على النقيض من ذلك أبداً، وكانوا على مر العصور كلها يُعرفون بين الخلق ولدى الأمم، أنهم الأكثر قذارةً، والأبخل مالاً والأسوأ ربا، والأجشع نفساً والأطمع خَلقاً، والأردأ خُلقاً والأنقض عهداً، يبتزون الحكومات، ويضغطون على الشخصيات، ويساومون على المنافع والمصالح، ويحاربون الخير حيث كان، ويعادون الفضائل وقيم الأخلاق.

سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتعمد إيذاء النفس الفلسطينية، وتعذيب المواطنين والضغط على أعصابهم، وهي تعذبهم بخسةٍ ونذالةٍ لا يقوم بها إلا مرضى النفوس وخبيثو القلوب، ولعلها تلجأ إلى ما لا تلجأ إليه الحيوانات الضارية في غاباتها، إذ تتعامل بحقدٍ، وتتصرفُ بكرهٍ، وتحركها غرائزٌ عنصريةٌ مقيتةٌ، ترى في نفسها الفوقية، وفي جنسها الرقي وفي حياتها العلو، وكل من دونها خدمٌ لها أو عبيدٌ عندها، حياتهم رخيصة، وأرواحهم شريرة، بل إنهم يضرون أكثر مما ينفعون، كما عبر عن ذلك أحد حاخاماتهم الكبار، داعياً إلى حبس الفلسطينيين في زجاجاتٍ، لأنهم حشراتٌ ضارة وأفاعي سامة.

هذا هو العدو الإسرائيلي في حقيقته العنصرية، وفي جوهره المريض، فهو يتعمد قتل الفلسطينيين بين أهلهم، وإطلاق النار عليهم أمام العامة ولو كان من بينهم أطفالٌ وصغارٌ، ويعتقلهم من بين أطفالهم وكأنه ينزعهم من بين قلوبهم والحنايا، ونحيب النساء، وهو يداهم بيوتهم في أفراحهم، ويعتقل العريس ليلة زفافه، ويقتحم المستشفى ويخطف المرضى من على أسرتهم وهم يئنون ويتوجعون، وربما ينزفون ويعذبون، وتسره الدمعة على عيون الأمهات، والآهة من صدور الرجال، وصوت بكاء الأطفال يشجيهم، وصيحات الألم تطربهم، أما المشاعر الإنسانية فهو لا يعترف بها، ولا يؤمن بقيمتها، ولا يهمه تقديرها أو احترامها، بل يتعمد سحقها وانتهاكها، ويحرص على الإمعان في المس بها، ليبدو أكثر جبروتاً وأشد عنفاً.

هي ذات النفس الخبيثة المريضة التي تحتجز جثامين الشهداء وتمنع دفنهم، وتحول دون تسليمهم لأهلهم وأسرهم، وتضع عليهم شروطاً قاسية، وتطلب منهم تعهداتٍ كثيرة، وتقوم بنقلهم إلى أماكن خاصة، أو تحتفظ بهم في برادات المستشفيات، علماً أن عدد الشهداء الذين تحتجز جثامينهم منذ بدء الانتفاضة الثالثة وحتى اليوم بلغت ثلاثة وخمسين جثماناً، منهم ثلاثة عشر شهيداً طفلاً، وشهيدةً مسنةً من مدينة الخليل، وكانت تحتجز آخرين، إلا أنها أفرجت عن قلةٍ منهم وأبقت على غالبيتهم أسرى لديها، وما زالت تساوم أهلهم، وتفاوض ذويهم مستغلةً عواطفهم تجاه أولادهم، ومشاعرهم الإنسانية الطبيعية التي تحب أن يكون لأولادهم قبرٌ يزورونه ويبكون عليه، ويعملون له شاهداً ويكتبون اسمه عليه، ليكون دالاً عليهم، ومفخرةً لهم، وشامةً تزين جبينهم.

الإسرائيليون بفعلتهم بفعلتها النكراء لا يحبسون عقاراً أو مالاً، ولا يحتجزون سيارةً أو بضاعة، يحزن عليها أصحابها لفترةٍ، ويصبرون على غيابها إلى حينٍ، وقد يحتسبون أمرهم على الله وينسون خسارتهم، ويسألون الله عز وجل العوض الحسن وعظيم الجر والثواب، لكنهم يحتجزون نفساً وإن قتلت، وروحاً وإن ارتقت وذهبت، وهم يعلمون أن كرامة الميت دفنه، وحقه في الدنيا بعد الممات قبرٌ يجمع رفاته، ويحافظ على كرامته الإنسانية.

لكن الذين ارتكبوا المجازر ونفذوا المذابح، وأشرفوا على التهجير والترحيل، والذين قتلوا الأسرى بعد أن حرموهم من الماء وعطشوهم، وجمعوهم في معسكراتٍ وقتلوهم، ودفنوهم في مقابر جماعية، وقد دفنوا بعضهم وهم أحياء أو جرحى يئنون وينزفون، ليس بعيداً عليهم ولا مستنكراً منهم أن يرتكبوا مجازر جديدة، وأن ينفذوا إعداماتٍ ميدانية، وأن يقتلوا الأطفال بحجة أنهم يحملون سكيناً أو ينوون مهاجمة مستوطنيهم.

إنها الجبلة الإسرائيلية المريضة بل هي الطبائع اليهودية الخبيثة، التي يجب أن ننتبه لها ونحذر منها في هذه الانتفاضة المباركة، فهم لن يتوانوا عن اقتراف أي محرمٍ، أو ارتكاب أي ممنوعٍ في سبيل إنهاء هذه الانتفاضة، التي تقلقهم بجد، وتدفعهم للتفكير في كل السبل الشيطانية للسيطرة عليها، ولكنهم يحلمون إذ يظنون أن هذا الشعب لا يعرفهم، ويخطئون إذا ظنوا أن هذا الجيل سيخافهم وسيسكت لهم، وسيخضع لإرهابهم.

وسوم: العدد 646