أردوغان: الرمز واللغر أم النجم الذي هوى؟
حين يسألني ساءل ما رأيي في رجب طيب أردوغان أسأله بدوري وأي أردوغان تعني، فلدي اربع اردوغانات: اردوغان الايدولوجي، أردوغان الاداري واردوغان الاقتصادي وأردوغان السياسي وهو متميز سلباً وايجاباً في كافة هذه الاردوغانات.
ابن أحمد أردوغان الجندي في خفر السواحل هو ابن عائلة ملتزمة بالاسلام. بدأ اردوغان حياته العملية ببيع العصير والكعك في شوارع اسطنبول الفقيرة والعنيفة وهو في الثالثة عشر من عمره الى ان تخرج في بكالوريس ادارة اعمال من احدى الجامعات التركية . تأثير التاريخ الاسلامي واضح في اسماء اولاده أحمد و بلال ، وبناته اسراء وسمية . واسمه رجب طيب بل واسم ابيه أحمد وزوجته امينة . لم تتلوث اسماؤهم بتتريك اتاتورك. بدا نشاطه السياسي وهو في الجامعة . قام سنة 1974 بتأليف واخراج بل وتمثيل دور البطل في مسرحية اسمها Moskomya والتي جمعت بين ثلاثة شرور هي الماسونية والشيوعية واليهودية. ثم اصبح رئيساً لفرع الشباب لحزب نجم الدين اربكان في اسطنبول. وبعد أن حظر العسكر ذلك الحزب، اسس نجم الدين اربكان حزب الرفاه الاسلامي فأنتقل اعضاء الحزب القديم بما فيهم اردوغان الى ذلك الحزب. نتوقف هنا قليلاً للاستنتاج أن اردوغان ملتزم اسلامياً منذ صغره.
تم ترشيح اردوغان عن حزب الرفاه ليصبح عمدة اسطنبول للمدّة بين 1994-1998. وهنا ننتقل الى اردوغان الاداري . ما انجزه اردوغان الاداري كعمده اسطنبول قل أن يضاهيه أحد فيه. كانت اسطنبول تعاني من شح في المياه فحل المشكلة بتمديد مئات الكيلومترات من انابيب المياه . كانت المدينة تعاني من النفايات فوضع نظاماً حديثاً لجمع النفايات ومعالجتها وتم حل المشكلة. كان هناك تلوث كبير من المصانع حلها بواسطة التحويل الى الغاز الطبيعي. غير وسائل النقل العام لوسائل قليلة التلوث وصديقة للبيئة. حل مشكلة الاختناق المروري. بنى أكثر من اربعين جسرً، وعشرات الانفاق، وكذلك الطرقات السريعة واتخذ التدابير اللازمة لمحاربة الفساد: في عهده قام بدفع كافة الديون على البلدية البالغ (2) مليار دولار، مع انه قد إستثمر في اعمال الاصلاحات (المذكورة اعلاه) 4 مليارات اخرى. من هنا يمكننا الاستنتاج أن اردوغان كان ادارياً من طراز نادر وتريها مشهوداً له بمحاربة الفساد.
في شهر ديسمبر 1998 قامت المحكمة الدستورية بتحريم حزب الرفاه بحجة أنه يهدد علمانية اتاتورك . وفي حشد كبير قام اردوغان بقراءه قصيدة لشاعر نظمها في اوائل القرن العشرين جاء فيها “المساجد هي معسكراتنا، وقببها هي خوذنا الوافية لرؤوسنا, ومآذنها هي حرابنا، والمؤمنون جنودنا ..” قام العسكر والعلمانيون بالحكم على اردوغان بالسجن عشرة شهور بحجة اثارة العنف والنعرات الدينية مما اضظر اردوغان الى ترك منصبه كعمدة اسطنبول. كما تم منعه من ممارسة حقوقه في الترشيح الى مناصب رسمية.
اسس اردوغان حزب العدالة والتنمية سنة 2001 وهنا نأتي الى اردوغان السياسي والاقتصادي. هل قام اردوغان بمراجعة لحساباته ووجد أن الغاية تبرر الوسيلة وأن نهج اربكان سيبقى مسدوداً؟ هل في هذه الفترة بين 1998 و-2001 رأى في أسلوب جولين ما يمكنه من الوصول إلى الحكم وتغييره ثم يرجع إلى غايته الاولى؟ هذه تخمينات لا تستند إلى المعلومة ولكن تزاوج حزب اردوغان مع جماعات غولين إلى أن تم الطلاق العنيف بينهما في 2010.
ربح الحزب انتخابات سنة 2002 بأغلبية الثلثين . لم يستطيع اردوغان أن يتولى منصب رئاسة الوزراء لان الحظر على توليه مناصب حكومية ما زال قائماً منذ سجنه . فتولى زميله في الحزب غول رئاسة الوزراء ، وتم فك الحظر القضائي عنه مما مكنه ليصبح رئيس وزراء سنة 2003. عصر اردوغان الاقتصادي والسياسي تألق في السنوات العشر فكانت سياسته صفر مشاكل حقيقية ، وقام اردوغان بمعجزة اقتصادية لا تقل عن معجزته الادارية في بلدية اسطنبول حتى اصبحت تركيا الدولة السابعة عشر اقتصادياً في العالم. يحق لاردوغان ان يفتخر كما فعل في تدشين أحد المشاريع سنة 2013 بأن يقول أن تركيا سددت جميع ديونها لصندوق النقد الدولي حتى أخر دولار. بل وان طلب الصندوق أن يقترض من تركيا 5 ميارات دولار ووافقت تركية على اقراضه. الكفاءات موجودة لكن ممنوع وصولها إلى السلطة. المطلوب خبراء في الهدم لا في البناء وفي تبديد الثروة لا تنميتها.
دعني اتوقف على سنتي 2010/2011 قليلاً
اصبح اردوغان على قناعة ان الاتحاد الاوروبي لن يسمح لتركيا المسلمة عضواً كاملاً فيه فقرر التوجه الى البعد العربي والاسلامي ودول الجوار خصوصاً روسيا.. اختار اللجوء الى نفس عش الدبابير الذي تمرد بتواطئ غربي على دولته العثمانية وسلاطينها. هؤلاء الدبابير صادقهم الاتحاد السوفيتي في مصر فباعوه بعد ان اعطاءهم السلاح والدعم السياسي. بل ساهموا في نهاية الاتحاد السوفيتي عن طريق مجاهديهم في افغانستان ودعم بترودولاراتهم لهم، وفلسطين أقرب لهم للتوجه للجهاد. الاعتماد عليهم كالاعتماد على “حيطه مايلة’ كما يقول المثل الشعبي. بدلاً من اغتنام الفرصة للتحالف الاقليمي مع دولة اصبحت قوية ، جاءوا في الطابور الخامس والسادس والعاشر ليقولوا: اصبح اردوغان – السلطان اردوغان. أليس هناك من عوامل الوحدة أو الاتحاد بيننا وبين تركية ما يزيد ألف مرة عن تلك بين دول الاتحاد الأوروبي؟ لهؤلاء الدبابير التحالف السري وشبه العلني مع السلطان نتنياهو “هو أقرب إلى تقواهم”.
كانت سنوات 2010/2011 سنوات الربيع العربي، والذي كتبت عنه كتاباً بعنوان “الربيع العربي: ثوره أم فوضى غير خلاقه”. في هاتين السنتين تم تغير السياسة الامريكية من خيار الى خيار اخر.
كان الخيار الأول إستعمال الحركات الاسلامية من حيث تدري أو لا تدري لدعم المشاريع الأمريكية الجيوسياسية. كان يقود هذا التيار جراهام ا فولر الذي خدم 30 سنة في CIA في مراكزها في لبنان، تركية، أفغانستان، الرياض، واليمن. كان المجاهدون في أفغانستان. وكان الاخوان المسلمون في الاردن جزأً من النظام في محاربة الناصرية والشيوعية. يسميه البعض تقاطع المصالح و يسميه اخرون أسماء أخرى. كان في تركية حركتان: نجم الدين اربكان وأحزابه غير المرضي عنها، وجماعات فتح الله غولين والتي كانت واجهة لأعمال الــ- CIA في تركية و أوسط اسيا. عن ذلك كتب أحد مدراء المخابرات التركية عثمان نوري كونديس كما جاء في جريدة الواشطن بوست في 1/5/2011 ان فتح الله غولين المقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة والذي له اتباع في اكثر من 120 بلد وامبراطورية اعلامية وتعليمية واعمالية و 600 مدرسة واربع ملايين منتمي بأنه يعمل كغطاء لوكالة المخابرات المركزية الامريكية وان مدارسه في جمهوريات اواسط اسيا السوفيتية السابقة قد وظفت130 عميلاً تحت اسم مدرس لغة انجليزية.
فلنتوقف عند سنة 2003 – السنة التي اصبح اردوغان رئيساً للوزراء. في هذه السنة صرح بول ولفويتز، وكيل وزارة الدفاع الامريكية وصقر صقور المحافظين الصهاينة الجدد بان الولايات المتحدة ليست ضد الاسلام وحتى الاسلام السياسي المعتدل كما في تركية حسب قوله. ملخص هذا الخيار أنه لا مانع من استخدام الحركات الاسلامية (المعتدلة) للوصول الى الحكم ما دام نشاطها اجتماعياً وما دامت تقبل بالنظام الاقتصادي الغربي والاحلاف والمعاهدات الغربية في بلدانها، أي مثلاً بقاء تركية في ناتو، ومصر في كامب ديفيد ولها ما تشاء بعد ذلك.
يبدو ان اردوغان قد تعرف على هذا التيار ووجد فيه اعتدالاً يسمح له بالنهضة الاقتصادية ولو على النهج الليبرالي الامريكي الرأسمالي. كانت النهضة الاقتصادية التركية في سنوات اردوغان ثورة كما اسلفنا ، وبقي التزواج بين اردوغان ( الاسلامي) وفتح الله غولن ، الذي كون دولة موازية عميقة في تركيا قائماً حتى سنة 2010 . بواسطة هذا التزاوج ، استطاع اردوغان ان ينهض بتركيا اقتصادياً وان يقلم أظافر المؤسسة العسكرية التركية . بقي هذا التزاوج قائماً حتى قامت اسرائيل بإقتحام السفينة مرمره وقتل عدد من الاتراك واجتياح السفينة ومن عليها – عندها ثار اردوغان وبدات قطيعته مع اسرائيل.. ومن هنا بدأ مسلسل الاحداث وعشش الدبابير من كل اتجاه على رجب طيب اردوغان. كان اكبر إعشاش الدبابير عش فتح الله غولين. كتبت مجلة الايكونومست البريطانية مقالاً بعنوان “من الذي سيربح” اردوغان أم غولين؟ بتاريخ 12 ديسمبر 2013 جاء أن التفسير للقطيعة بين اردوغان وجولين هو إعتقاد اردوغان بوجود تحالف إسرائيلي مع تيار جولين لازاحة اردوغان وحزبه عن الحكم وان تفكير اردوغان هذا قد عززه كون جولين كان أول من إنتقد سياسات القطيعة مع إسرائيل إنتقاداً شديداً.
اصبح التقارب التركي الروسي بل وطلب اردوغان الانضمام الى تحالف شنغهاي الروسي الصيني سبباً أخر يقلق الأمريكان من سياسات اردوغان. ولكن… كان يكفي اسقاط طائرة روسية من تركيا لنسف ذلك التقارب الذي هدد بأن يصبح تحالفاً يهز اكبر مناطق العالم اهمية وهي اوراسيا التي تتوسطها تركيا …
أما الخيارالأمريكي الثاني فكان عدم السماح لاي حركة إسلامية الوصول إلى الحكم فالحركات المعتدلة اليوم قد تصبح عنيفة أو إسلامية ملتزمة غداً وهذا هو خيار الادارات الأمريكية اليوم. من هنا جاء الانقلاب في مصر ومحاولات الدولة الموازية لفتح الله غولين زعزعة نظام اردوغان. إنه انقلاب في الاستراتيجية الامريكية نحو الحركات الاسلامية والذي اراد كل منهما استعمال الاخر للوصول الى اهدافه.
دعنا نعمل كشف حساب بسيط لنجاحات اردوغان واخفاقاته . بينا الانجازات فماذا عن الإخفاقات؟ كان شعار حكمه صفر مشاكل أو صفر أعداء. أصبح اليوم صفر أصدقاء. أراد تطوير العلاقة مع روسيا فنسفها في ثانية حين أسقط طائرتها. أراد أن يستبدل البعد الأوروبي ببعد عربي واسلامي . فشل في ذلك . قطيعته مع إسرائيل انتهت باذعانه لشروطها. أما انجازاته الاقتصادية فستبقى رهينة في يد وول ستريت!
ولكن كيف… فللحديث بقية!
مستشار ومؤلف وباحث
وسوم: العدد649