المبادئ الثابتة لنظام الحكم وتنظيم المجتمع (5) (تابع)
(7) القوة :
إن القوة ووسائلها المادية والمعنوية والسلطة وقواعدها ـ أو ما يلخصه الفقهاء في مصطلح " الشوكة " أو " السلطان القاهر "ـ هي قاعدة أساسية من القواعد الثابتة لنظام الحكم وتنظيم المجتمع ، وهي مسألة ضرورية لسياسة الأمة وحكمها وتنظيم جماعاتها وأحزابها وطوائفها ، وذلك لإقامة العدل ، ومحاربة الظلم والقهر ، ومنع الاعتداء على النفس البشرية ، ورد العدوان الأجنبي ، ونشر الأمن والمحافظة على السلم والاستقرار المجتمعي و صيانة وحفظ المال العام وتأمين حرية الرأي والتدين وحماية المساجد ودور العبادة بصفة عامة ... وهذه الأمور كلها في الواقع تدخل في مجال مسؤولية الأمة كافة وليست خاصة بقائدها فقط ، لأن الأمة بكافة أطيافها ، هي المستفيدة الأول ، وصاحبة المصلحة الحقيقية ، وهي المكلفة شرعا بالاستخلاف في الأرض ، ولها أرسل الأنبياء والرسل وعليها أنزلت الشرائع . وهذه القوة أو الشوكة يجب أن تكون مستمدة من الأمة ، عن طريق البيعة التي بها يصير القائد ، أو الحاكم إماما للأمة وأميرا لها ، ويحصل على طاعتها ، فيتحقق له السلطان ، ويملك القوة التي هي شرط أساسي وضروري للحاكم ، لكي يصبح قادرا على سياسة الناس ، وقيادة الأمة والقيام على شأنها، و تدبير أمورها في الحرب والسلم ، كما تمكنه هذه القوة أيضا من الدافع عن المظلومين والمستضعفين وإنصافهم والوقوف في وجه كل ظالم معتد أثيم ، فيأخذ منهم الحقوق ويردها على أصحابها ، ويقمع كل فتنة ضالة مضلة ، ويقضي على الفاسدين المفسدين ، والعبثيين بالأخلاق والأعراض ، وبها يحرس الدين ويكف أيدي التكفيريين المعتدين ناشري الفوضى والتشكيك في الثوابت الدينية والوطنية ، وزارعي الخوف بين الناس . على أساس أن لا تطغى هذه القوة أو يتم استغلالها في المس بمبادئ العدل والمساواة والتكافل الاجتماعي والسياسي ، ولا في المس بمبادئ الحرية والكرامة الإنسانية والفضيلة الأخلاقية ، وحق التعبير السياسي وحق المعارضة السياسية ، وحق الجهر بتقديم النصيحة للقائد ولحاشيته دون خشية أو خوف منهم ، فإذا التزم القائد أو الحاكم بهذه المبادئ ، كسب تأييد الرأي العام ، وتأييد القوة السياسية الشعبية ، وفاز بمناصرة الحاشية والمقربين منه . وكيفما كان الأمر فسياسة الأمة ، وقيادتها وتوحيد كلمتها وجمع شملها ورأيها وتحقيق وحدة غاياتها وأهدافها عن طريق الطاعة والمشورة واجتماع الرأي ، أفضل من القهر والانفراد بالرأي ، وعلى كل فإن القوة هي أساس الحكم وقيام الدولة وتحقيق السيادة والوحدة وحماية الحدود . يقول بدر الدين ابن جماعة في كتابه تحرير الأحكام { ...لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم ويتجرد لحراستهم } ( بدر الدين ابن جماعة : كتاب تحرير الأحكام ـ طبع سنة 1985 بقطر تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم ) . ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى : [ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ] ( سورة الحج آية 41 ) . وانطلاقا من فهمي للآية الكريم يجوز للحاكم استعمال القوة ـ باعتبارها قاعدة من قواعد سياسة الحكم ومستلزماتها ـ وفق منهج القرآن الكريم والسنة الشريفة ، بهدف إقامة الدين ، وفرض شعائر الإسلام : كالصلاة والزكاة ، وتحقيق المعروف ، ومحاربة المنكر جهادا في سبيل الله ، طبقا لسنة التدافع التي اقتضتها إرادة الله والمنصوص عليها في قوله سبحانه وتعالى : [ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ] ( سورة البقرة آية 251) . وطبعا هذا الدفع لا يكون إلا بالسلطان القاهر المطاع والدولة العزيزة ، القوية ذات السيادة ، بقصد تجسيد المرامي والمقاصد العليا للأمة وهي تطبيق الشريعة الإسلامية والحكم بما أنزل الله ، وهو ما يعطي المشروعية لممارسة السلطة واستخدام القوة للرئيس أو الأمير ، لأنه هو المسؤول شرعا ، عن دفع الظلم ، وإحقاق الحق، وإقامة العدل والمساواة ، وهذا أصل من أصول الحكم الثابتة في الإسلام ، مع العلم أن استخدام العنف والقهر في تنفيذ القوانين والشرائع والتنظيم السياسي هو نفسه ظلم ، لأن امتلاك السلطة ليس معناه الاستعلاء على الرعية والتجبر عليهم وإرهاقهم وإذلالهم ... وإنما الأولى استعمال أسلوب الحوار الهادئ ، والإقناع العقلي ، إلى جانب الرفق واللين ، وجبر الخواطر ، وتقريب وجهات النظر وهو ما يؤدي إلى الاتفاق والتوافق وحفظ كرامة الإنسان ، وهذا الأسلوب يتلاءم مع ممارسة السياسة في الإسلام ، ومع إقامة العدل ، وليس التعنيف ، وضرب من هم عزل إلا من شعار "سلمية سلمية " أو نريد محاربة الفساد" أو" نريد العدل والمساواة " خصوصا ، وأن الشعب هو صاحب المصلحة والحق والقرار أولا وأخيرا ، وهو من أوصل الحاكم إلى المنصب ، الذي خول له امتلاك السلطة ، فلا يجوز له إذن شرعا استغلالها ، لينقلب ضد من مكنوه من هذه السلطة والقوة وأوصلوه إليها وليمرغ أنوفهم وكرامتهم في التراب ، ويعيث فيهم فسادا ، ولسان حاله يقول ( اسمعوا وأطيعوا فأنا حاكمكم وأميركم وطاعتكم لي واجبة عليكم . ناسيا أن الشرع الإسلامي يصنف الحاكم كرجل عادي من الناس وأحد من الرعية ، له ما لها ، وعليه ما عليها . وعلى الحاكم أيضا أن يسوس الأمة ويحكمها وكأنه مسؤول أما حاكم غيره ، وأن يتخذ السلطة كوسيلة لإقامة العدل وتحقيق مصلحة الناس ، وليس كغاية تجعل منه جبارا في الأرض مفسدا غير صالح يبطش بالناس ويزهق الأرواح بغير حق ولا فساد في الأرض . وصدق الله العظيم إذ قال [ فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدوهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ] ( سورة القصص آية 19 )
إن المبادئ الثابتة لنظام الحكم وتنظيم المجتمع والمتمثلة فيما ذكرناه سابقا وهي : العدل ـ الأمانة ـ الوفاء بالعهد ـ المساواة ـ الشورى ـالتكافل الاجتماعي ـ القوة . هي في تقدير أساس الحكم العادل والنظام المستقر .
أما رائد الفكر السياسي الإسلامي وأبرز أعلامه أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي والذي أعتبره من مؤسسي الفقه السياسي لكثرة اهتماماته بالفقه السياسي وكتباته عن السياسية الشرعية وعن فن الحكم فيرى : ( أن قواعد الحكم إنما تستقر في الدولة على أمرين : (1) التأسيس (2) السياسة : أما التأسيس فيتكون من ثلاث قواعد هي : (1) الدين (2) القوة (3) المال والثروة .
أما السياسية : فتشمل أربعة مجالات هي : (1) عمارة البلاد (2) حراسة الرعية (3) تدبير الجند (4) تقدير الأموال . وعلى كل فبمثل هذا المبادئ تستقر البلاد ويستتب الأمن ويعم العدل ويختفي الظلم ويزدهر الاقتصاد ويكثر الرخاء .
وسوم: العدد 650