الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 77-79
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (77)
الانتفاضة الفلسطينية في عيونٍ غربية
لم ينتظر العالم ثلاثة أشهرٍ أو أكثر حتى يشكل وجهة نظرٍ عن الانتفاضة الفلسطينية، وحتى يكون له رأيٌ خاصٌ ومستقل، ورؤية أولية تتفق مع مبادئه وأفكاره، وتنسجم مع قيمه ومفاهيمه، وتنعكس على سياساته وقراراته، بعيداً عن التأثيرات الإعلامية والضغوط السياسية الإسرائيلية، واللوبي الصهيوني المنتشر في جميع أنحاء العالم، والمتغلغل في أنسجته المختلفة، والمتحكم في قراراته السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، الذي يريد من دول العالم المختلفة أن تري الأحداث بعيونٍ إسرائيلية، وأن تقدر الوقائع من وجهة نظر كيانهم، وأن تحكم على ما يجري بناءً على مصالحهم، وأن تغض الطرف عن كل ناقدٍ لهم، أو مستنكرٍ لسياساتهم، أو رافضٍ لممارساتهم، كما تطالبهم بألا يستجيبوا إلى الشكاوى الفلسطينية، وألا يصدقوا روايتهم، أو يصغوا إلى حكايتهم، وألا ينساقوا وراء دعاوى الظلم والاضطهاد التي يدعي الفلسطينيون أنهم يتعرضون لها.
لكن دول العالم المختلفة، الأوروبية الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأستراليا والصين ودول أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا وغيرهم، قد شكلت منذ الأيام الأولى للانتفاضة وجهة نظرتها الخاصة، وأكد عليها مسؤولوهم ووزراء خارجيتهم، وجاهروا بها وأعلنوا عنها في مختلف المحافل وعلى كل المنابر، وهي وإن تباينت واختلفت نسبياً، حسب درجة تأييد وانحياز بعضهم إلى الكيان الصهيوني، إلا أنها تكاد تكون متشابهة أو متقاربة، إلا في موقف الإدارة الأمريكية، التي تفردت بموقفها، التي تتفهم أوضاع الكيان الأمنية، وأنه يعيش ظروفاً قاهرة، ويتعرض إلى هجمةٍ إرهابية، تتطلب منه الحزم والشدة لضمان أمن مواطنيه وسلامة مصالحه.
أما بقية دول العالم المختلفة، بما فيها دول أوروبا الغربية وكندا وأستراليا، فإنهم قد أدانوا بشكلٍ أو بآخر، وبعباراتٍ واضحةٍ وليست غامضة، وصريحةٍ ومباشرة، الممارسات الإسرائيلية، وحملوها مسؤولية تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن سياستها الاستيطانية وتلك المتعلقة بمدينة القدس والمسجد الأقصى، وتعنتها في المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وتعطيلها لمساره بحججٍ مختلفة، هي التي كانت سبباً في اندلاع الانتفاضة، وانفجار الأحداث دفعةً واحدةً في كل المناطق الفلسطينية، وهي التي خلقت حالة اليأس والإحباط العامة لدى الشعب الفلسطيني.
أجمعت دولٌ كثيرةٌ على نقاء الانتفاضة، ووصفوها بأنها نقية وصافية، ولا تتخللها مصالح غير فلسطينية، أو منافع فئوية وحزبية، بل هي انعكاسٌ صادق لحاجة المواطنين ورغبتهم، وإحساسهم بالظلم الواقع عليهم، ورفضهم الخضوع للسياسات الإسرائيلية، ورأوا أنها مستقلة وغير تابعة، فلا تخضع لإرادة خارجية، ولا تسيرها قوةٌ أجنبية، ولا تتبع في قرارتها لتنظيماتٍ أو هيئاتٍ، حتى أن الأحزاب والتنظيماتٍ غير قادرة على الوصول إليها والسيطرة عليها، أو التسلل إلى هرمها القيادي الذي تحاول خلقه وتشكيله ليكون لها وخاصاً بها دون غيرها، لهذا فهي انتفاضة أفرادٍ مستقلين، قل منهم من ينتمي إلى تنظيمٍ يحركه ويوجهه، أو يتبناه وينسبه.
وأنها انتفاضةٌ شابةٌ، أغلب عناصرها الذين يندفعون وينفذون عمليات طعنٍ ودهسٍ، والذين ينخرطون في المظاهرات وينتظمون في المسيرات، والذين يشكلون أغلب الشهداء، هم من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 25 سنة، وكثيرٌ منهم يصنفون أطفالاً، ممن تقل أعمارهم عن ستة عشر عاماً، مع حضورٍ لافتٍ للفتيات اللواتي يشاركن الشباب الذكور في مختلف الفعاليات، ويقمن بما يقومون به، فيطعن ويهاجمن ويقتلن، إذ أن نسبة عدد الفتيات الشهيدات تصل إلى 12% من عدد الشهداء، وهي نسبة قابلة للزيادة كل يوم.
وهي انتفاضة المتعلمين والمتميزين، إذ أن أغلب الشهداء هم من طلاب الجامعات أو تلاميذ المدارس، وهم طلابٌ نابهون أذكياء، ومتميزون نشطاء، لا يدفهم الفشل إلى الانخراط في المشاركة، وتقليد غيرهم في أعمالهم كالطعن والدهس، بل إنهم في فصولهم الدراسية متميزون ومتقدمون، بشهادة زملائهم وأساتذتهم، الذين يشهدون وعلاماتهم الدراسية بأنهم متفوقون في الدراسة.
ويزيدون في وصف جيل الانتفاضة الثالثة بأنه جيلٌ ذكيٌ وواعي، فلا تخدعه المظاهر، ولا يؤمن بالسراب، ولا يجري وراء التصريحات الجوفاء، وإنما يفكر ويقدر، ويدرس ويقرر، كما أنه يحسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويتفاعل معها، ويستفيد منها، وهم يعيشون حياةً أسرية هانئة وسعيدة، وتربطهم بالآخرين علاقاتٌ اجتماعية جيدة، فلا يعانون من اضطراباتٍ نفسية وعقدٍ اجتماعية.
ويصف كتابٌ وصحفيون أجانب يعملون في الأرض المحتلة ويغطون ما يجري فيها، الانتفاضة بأنها فجائية ولحظوية، أي أن المنفذين يقررون فجأة تنفيذ عملياتهم، ويعزمون في لحظتهم على مهاجمة عدوهم، دون إعدادٍ مسبق، أو تحضيرٍ سابق، وبدون رصدٍ ومتابعة وتحديد الهدف وساعة التنفيذ وخطة العمل والانسحاب بعد التنفيذ، بل إن بعضهم يقرر الهجوم أثناء ذهابه إلى المدرسة أو عودته منها، ويشهد على ذلك أهلوهم الذين يؤكدون أنهم لم يلاحظوا عليهم شيئاً قبل تنفيذهم للعملية، إذ لا يبدو عليهم الاكتئاب أو الانعزال، ولا يميل بعضهم للجلوس مع عائلاتهم والتودد إليهم بقصد وداعهم والسلام عليهم، الأمر الذي يؤكد فجائية القرار.
ويضيفون بأنها انتفاضة الأداة الحديدية الحادة، فلا سلاح غير السكين يحمله الفلسطينيون إلى جانب الدهس، إلا أن سلاح السكين متوفرٌ للجميع، فهو أداة المطبخ التي لا تثير شبهةً، أما الدهس فهو الوسيلة الأقل استخداماً لأنها غير متاحة للجميع، إذ لا يتنقل بسيارته الخاصة على الطرق العامة المتاخمة للمستوطنات والمتقاطعة مع الشوارع الإسرائيلية إلا عددٌ قليلٌ من الفلسطينيين، الذين يحصلون على تصاريح خاصة تمكنهم من عبور الحواجز والبوابات العسكرية الإسرائيلية.
هذا الوصف الدقيق للانتفاضة ليس وصفاً فلسطينياً، ولا هو تقرير محللٍ عربي، إنما هي آراء رسمها وكونها إعلاميون ومراسلون لوسائل إعلامٍ محليةٍ خاصة ببلدانهم، ينتشرون في كل مكان، ويتوزعون على مختلف البلدات، ولهم مكاتب ومراكز، وعندهم عاملون وموظفون، ومصورون وصحفيون، يغطون الأحداث، ويتابعون الفعاليات، ويكتبون التقارير، وينقلون وجهات نظرهم الشخصية وتقديرهم الخاص لما يجري في الأرض المحتلة من أحداث، هذا بالإضافة إلى عولمة الإعلام الذي يشترك في تغطية الأحداث، ويعجل في نقلها وانتشارها، وهو ما يفقد الإسرائيليين زمام التحكم في رسم الصورة وبيان الموقف ونشر الخبر وتعميم الأحداث، ويحرمهم من عاداتهم الأصيلة الموروثة في الكذب والغش والخداع.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (78)
العقبي وملحم يضربان في العمق ببندقيةٍ ومهند
شكلت عملية مهند العقبي في مدينة بئر السبع، وعملية نشأت ملحم في مدينة تل أبيب، وكلاهما من أهلنا الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم، والمحافظين على وجودهم، والثابتين في وطنهم، والمؤمنين بحقهم في أن أرض فلسطين أرضٌ واحدةٌ لا تتجزأ، وأنها وطنٌ حرٌ عزيزٌ لأهله الفلسطينيين، ولأصحابه العرب من المسلمين والمسيحيين، الذين ما زالوا يعيشون فيه، أو يتطلعون إلى العودة إليه، فلا المقيم فيه يقبل بواقع الاحتلال، ويستسلم لإرادة العدو، ولا الغائب البعيد ييأس ويمل، ويقبل عن وطنه آخر بديلاً، بل يصران معاً على التحرير والعودة، مهما تكلفا من ثمن أو دفعا من أجل الوطن ضريبة.
شكلت هذه العمليات الموقعة باسم فلسطينيي الداخل، والممهورة بدمائهم الطاهرة، صدمةً مهولةً ومفاجئةً للعدو الإسرائيلي، أربكته وهزته بعنفٍ، وأحدثت في صفوفه اضطراباً لم يكن يتوقعه أو يتخيله، وهو آخر ما كان يأمله ويتمناه في ظل انتفاضةٍ فلسطينيةٍ عنيفةٍ شملت الوطن وعمت كافة أرجائه، وألحقت في صفوفه خسائر كبيرة، طالت الأرواح والممتلكات والمصالح، وأضرت بسمعته وعلاقاته، وتجارته واقتصاده، وهيبته وقوته، واستقراره الداخلي وعلاقاته البينية، وما زالت تكبر وتتسع، وتقوى وتشتد، وتتعمق وتتجذر، وهو حائرٌ وغير قادرٍ على الإحاطة بها أو السيطرة عليها، أو وضع حدٍ لها بالقوة أو بالتفاهم، وبالتفرد أو بالتنسيق، فإذا بالهجوم ينطلق من داخله، ويصيب قلبه وعاصمة قراره، وأطرافه البعيدة والقريبة.
وقد علق على عملية بئر السبع التي نفذها الشهيد مهند العقبي أحد كبار الضباط الإسرائيليين، فقال " آخر ما توقعناه أن تأتينا الضربة في بئر السبع، وتفاصيل العملية مفاجئة لنا"، وقال آخر "في عز الهدوء وفي مكانٍ غير متوقعٍ ضرب الفلسطينيون"، وقال غيره "نشرنا آلاف الجنود في الضفة والقدس، وإذ بالضربة تأتينا في جنوب البلاد".
أما رئيس بلدية بئر السبع روبيك دانيلوفيتش فقد كان مصدوماً مما حدث، وغير قادرٍ على تصديق ما تراه عيناه، لكنه أمام هول العملية واضطراب المستوطنين في المدينة قال "عملية بئر السبع صعبة للغاية، والشرطة لا يمكنها منح كل مواطنٍ حارساً خاصاً، لأننا في ذروة معركة قاسية".
عملية بئر السبع كانت مهولة وصادمة، ومخيفة ومرعبة، فقد فضحت المستوطنين، وكشفت عن عيوب الجيش والنخبة، واخترقت الأمن والحماية والاستعداد والجهوزية، وأثبتت أنهم يكذبون إذ يدعون الحصانة والمنعة، إذ علق محلل عسكري إسرائيلي على العملية قائلاً "عملية بئر السبع فيلم هندي، لكن خيبة الأمل الحقيقية تكمن في هروب الجنود المسلحين من منفذ العملية، وبحثهم عن أماكن للاختباء منه، بدل أن يطلقوا النار عليه، إنه سلوكٌ مخزي، كان آخر ما توقعناه أن تأتينا الضربة في العاصمة الاقتصادية لإسرائيل".
وكانت وسائل إعلامٍ إسرائيلية ودولية قد نقلت صورة الإحباط واليأس البادية على وجوه المواطنين الإسرائيليين، بعد رؤيتهم لصور الجنود وهم يفرون ويختبؤون، ولا يقوى أيٌ منهم على إيقاف المهاجم أو إطلاق النار عليه، ما جعلهم يبدون ضعفاء وجبناء أمام مواطنيهم، خاصةً أن العملية استمرت لدقائق طويلة، وقد كان بإمكان الجنود التصرف بسرعة، ووضع حدٍ لعملية إطلاق النار، ولكن حالة الذعر هي التي كانت سائدة ومسيطرة على الجنود الإسرائيليين، الذين آثروا الفرار والاختباء.
ومن فرط خزيهم قامت سلطات الاحتلال باعتقال بعض العاملين العرب من غير المتواجدين في مكان الحادث، بعد أن تبين لهم أنهم يتبادلون بفرحٍ صور الجنود الفارين المذعورين، وهم يحاولون الاختباء والاحتماء من نيران منفذ العملية، في الوقت الذي طلبت فيه من إدارة شركات الانترنت حجب هذه الصور ومنع تداولها بين مستخدمي شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
أما نشأت ملحم فقد اقتحم بنفسه، وقاتل بمفرده، وامتشق سلاحه أمام جمعهم، وأطلق النار على حشودهم، وسلط بندقيته على رؤوس جنودهم وأجساد مستوطنيهم، فقتل وجرح، وما استوقفه أحد، ولا قوي على مواجهته آخر، وما إن أنهى مهمته حتى طوى حقيبته، وأعاد إليها سلاحه وحملها على ظهره كعصا وارتحل، فحكم على سكان مدينة تل أبيب كلها بالخوف والفزع، والرعب والجزع، وأسكنهم بيوتهم فلم يخرجوا منها، وأغلق مدارسهم فلم يذهب أطفالهم إليها، وأوقف أعمالهم فما استطاع أن يزاولها أحدٌ، كلٌ خائفٌ على نفسه، وقلقٌ على مصيره، بينما يذهب نشأت ملحم إلى مكمنه آمناً منهم، وغير خائفٍ من تعقبهم، وهم الذين يملكون القدرات المهولة، والتقنيات الكبيرة، ووسائل الاتصال والتتبع الحديثة.
الكيان الصهيوني لا يحتمل عملياتٍ من هذا النوع، ومجتمعه من الداخل غير مهيأ لها، وغير مستعدٍ لمواجهتها والتصدي لها، وقد صرح أكثر من مسؤولٍ إسرائيلي أن كيانه لا يستطيع أن يحتمل عمليةً أخرى كعملية نشأت ملحم، وهو التصريح نفسه الذي أطلق عشية عملية مهند العقبي في مدينة بئر السبع، بما يشير إلى حجم الألم والضرر التي ألحقته هذه العمليات بهم، إذ أقلقت الشعب وهزت الحكومة وأظهرت هشاشة الأمن، وكشفت عن فزاعة الجيش.
أما منفذا العمليتين فلم يستسلما، بل استبسلا في هجومهما، وقاتلا بصدقٍ ويقين حتى استشهدا، ولم يسقط أيٌ منهما بسهولةٍ، ولم يسلم أيٌ منها نفسه للعدو كي يأسره أو يقتله، بل بقيا واقفين على أقدامها، وأيديهما تقبض على السكين أو البندقية، وبهما قاتلا حتى حانت منيتهما شهداء كرماء أعزاء، إذ قاتل مهندُ حتى انتهت ذخيرته، وقبل أن ينال منه المستوطنون استولى على بندقية جنديٍ وقاتل بها حتى انتهت ذخيرته للمرة الثانية، أما نشأت ملحم فقد ضرب في عمليته للعدو درساً بليغاً، وأذاقهم الذل ألواناً، فبعد أن هاجمهم في قلب مدينة تل أبيب، وقتل فيها اثنين وجرح آخرين، غادر مسرح العملية آمناً إلى مكانٍ آخر، وعندما وصلوا إليه وعرفوا مكانه، لم يسلم نفسه ولم يلق بندقيته، بل قاتلهم ونال منهم قبل أن يلق الله شهيداً.
هذه العمليات البطولية أعطت الشعب الفلسطيني أملاً كبيراً، وأثلجت صدور أبنائه فرحاً، وأعادت إليهم الأمل من جديد، أن جذوة هذا الشعب ما زالت متقدة، وأن الجمر تحت الرماد ملتهب، وأنه لم يخمد ولن ينطفئ، وأن المهند الذي كان يحمله مهند سيحمله غيره، والبندقية التي أفرغ نشأت ذخيرتها في صدور العدو، سيعمرها مقاومٌ آخر، وسيحملها من بعده فلسطيني أقوى وأصلب، وأكثر عناداً وأشد مراساً.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (79)
الانتفاضة تفضح شخصية نتنياهو
مما لا شك فيه أن الانتفاضة الفلسطينية قد هزت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، واستطاعت رغماً عنه كشف بعض جوانب شخصيته، وفضح نفسه من الداخل، وتمكنت من معرفة طريقة تفكيره وآليه تصرفه في مواجهات الأزمات الطويلة الأمد والشديدة الأثر، ذلك أنه لا يواجه حرباً عمرها أيامٌ وتنتهي، ولا معركة تستمر لساعاتٍ وتنقضي، بل إنه يواجه انتفاضةً قد تستمر لسنواتٍ، وأحداثاً قد تتواصل حتى تحقق أهدافها، وتسقط حكومته وتغيب بعض أشخاصها، وتحيل آخرين منهم إلى التحقيق والمحاكمة بتهمٍ كثيرةٍ لها دورٌ في تردي الأوضاع ووصول الحالة في المناطق إلى ما وصلت إليه الآن.
نتنياهو رجلٌ لا يستطيع العيش في ظل أزماتٍ لا يملك زمامها، ولا يخطط لها، ولا يعرف مآلاتها، ولا يدرك خواتيمها، فهو يستطيع العيش فقط في ظل مخططاته، وتحت جناح مشاريعه التي يقوم بها، ويعرف أنها تصب في صالحه، وتخدم برامجه، ولا تتعارض مع سياسته، ومع ذلك فقد أدخل نفسه في متاهةٍ لا يعرف منتهاها، ولا يستطيع أن يميز مسار النجاة فيها.
تحمل المخابرات الإسرائيلية نتنياهو المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع في القدس والضفة الغربية، وأنه عجل في انفجارها، ولا تتردد في فضح سياساته، وبيان عيوب قراراته، ذلك أنه كان يهمل تقارير أجهزة المخابرات المختصة، التي كانت في أغلبها تحذره من اندلاعٍ وشيكٍ لانتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثة، وأنها ستكون انتفاضة مغايرة لما سبقها، وأن على الحكومة التي يرأسها أن تعمل على عدم اندلاعها، أو على الأقل أن تعرقلها أو تعيقها.
لكن نتنياهو أهمل التحذيرات، وخالف توجيهات المخابرات التي أوصته بالتهدئة مع السلطة الفلسطينية، وعدم الضغط عليها أو إحراجها أكثر، خوفاً من فقدان التنسيق الأمني الذي توليه المخابرات الإسرائيلية اهتماماً كبيراً، وتعول عليه كثيراً في مواجهة العمليات وإحباطها قبل تنفيذها، وقد كتبت زهافا غلؤون، رئيسة حركة "ميريتس" الصهيونية مؤخراً "نتنياهو يريد أن يقول من خلال سياساته في الضفة الغربية أن التحقير فقط ينتظر المعتدلين من الفلسطينيين، لذا فهو لا يتردد في أن يبصق على عباس في كل فرصة ممكنة".
يرى الأمنيون الإسرائيليون أن نتنياهو أطاع نفسه واتبع هواه، ولبى سياسات حلفائه في الائتلاف الحكومي، ليكسب المزيد من تأييد المستوطنين والأحزاب الدينية المتشددة، وكان من أخطرها موافقته على سياسة تغيير الوضع الحالي لمدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، والسماح للمتطرفين باقتحام الحرم، وكتب شاؤول أرئيلي وهو ضابط متقاعد "نتنياهو جعل من عباس أضحوكة في نظر أبناء شعبه، فبدلاً من أن يكافئه على ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة في ذروة الحرب على غزة وفي ظل تواصل الاستيطان، فأنه يعاقبه بمصادرة أراضي الضفة واقتحام مسجد الصخرة".
لهذا فإن المخابرات الإسرائيلية تصفه بأنه مهزوز ومتردد، وأن يده مرتعشة مع أطراف ائتلافه والأحزاب اليمينية المتشددة، فهو يخافها ويخشى غضبها، ويحرص عليها ويلبي رغباتها، لا إيماناً منه بصوابية سياساتها، ولكن حرصاً منه على عدم فقدان منصبه وضياع كرسيه، وقد حذرته مخابراته كثيراً من خطورة وسلبية موافقته على استخدام المستوطنين للأسلحة النارية في مواجهة الانتفاضة، فهو بقراره قد سمح لهم بتنفيذ القانون الذي يرون بطريقتهم ووفق هواهم، وبذلك يكون قد أدخل البلاد في فوضى عارمة، ووسع من دائرة العنف، وزاد من وقودها الذي سيضاعف من أوراها، وسيزيد من لهيبها، بما يجعل سيطرته عليها بعد ذلك مستحيلة.
نتنياهو في تقييم المخابرات الإسرائيلية شخصٌ لا يقوى على ضبط نفسه، ولا على حسن إدارة حكومته، وتسيير عملها وتنظيم أدائها والتنسيق بين أعضائها، في ظل فوضى قد تسقطه، وقد تنهي حلمه الذي يكبر يوماً بعد آخر في أن يكون ملك بني إسرائيل الجديد، وطالوتهم المنتظر، المخلص والمنقذ، والغالب المنتصر، لأن الفوضى التي تسبب فيها لن ترهب الفلسطينيين، ولن تمنعهم من مواصلة انتفاضتهم، بل ستخلق فيهم روح التحدي والثأر والانتقام، ولن يكون من السهل عليه إقناع المجتمع الدولي وتبرير سلوك مواطنيه تجاه الفلسطينيين، وهو سلوكٌ آخذٌ في التطرف والاتساع.
وقد ذكر الصحافي الصهيوني رفيف دروكر أن هجمة السكاكين الفلسطينية "أبرزت أسوأ صفتين في نتنياهو: الجبن والكذب"، فهو يعلم أنه قد وقع في شراك سياساته، وفي فخ أعماله، وأن مساعديه الأمنيين والعسكريين قد غرروا به ولم يصدقوا نصحه، ولهذا فهو يحاول الإفلات من مأزقه والخروج من أزمته بممارسة فن الكذب الذي عرف عنه، فهو في محيطه وبين أقرانه القدامى كان معروفاً بالكذب، ومشهوراً بالنعومة المخادعة التي يتطلع من خلالها إلى تحقيق أغراضه والوصول إلى أهدافه.
وتأكيداً على ذلك تروي داليا شيندلن الكاتبة في صحيفة الأوبزيرفر، حكاية مفادها أن مستشاراً سياسياً لنتنياهو كان يتناول الغداء معه، فطلب نتنياهو شطيرة "برغر"، وهو محظور عليه بأمر الطبيب، وبعد أن أكل نتنياهو جزءا كبيراً من الشطيرة، دخلت زوجته وبدأت بتقريعه، ورغم أنها في صحنه أمامه، ويبدو أنه أكل منها، غير أن نتنياهو دافع عن نفسه باللجوء إلى الكذب زاعماً أنه لم يأكل "برغر" أبداً.
وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيفني ليفني قد وجهت انتقاداتٍ قاسية إلى سياسة بنيامين نتنياهو وشخصه، وحملته المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد، واتهمته بالغرور والتسلط، ودعته إلى مراجعة سياسته في التعامل مع الفلسطينيين لضمان وقف انتفاضة السكاكين، ونصحته بالتخلي عن مصالحه الشخصية وأحلامه الأنانية، والتراجع عن أسلوب القوة لمواجهة الأزمة، والعمل بدلاً من اعتماد القوة على وقف الاستيطان وإعلان الالتزام بحل الدولتين، وقالت "إن سياسة الحكومة تتسبب في عزلتنا في العالم وتخلق انعدام أملٍ ويأساً".
أما الإدارة الأمريكية وعلى رأسها الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري فهم يعرفون أن نتنياهو يكذب ويدعي، ويحاول دوماً تبرير أفعاله بالمزيد من الكذب، وتعزيز روايته باختلاق الجديد من القصص والحكايات، وتلفيق الروايات والأحداث، وكلاهما قد عانى منه في ظل الأزمات العديدة التي افتعلها لهما في مجلسي الكونجرس والشيوخ، اللذين استخدمهما في تمرير المزيد من الكذب الذي يدين أوباما ويضعف قراراته، فضلاً عن هروبه من أزماته بالتهكم على الإدارة الأمريكية والاستخفاف بها.
أمام الهجمة التي يتعرض لها نتنياهو، قام مستشاروه بنصيحته بضرورة الاجتماع مع قادة المعارضة، وإطلاعهم على تطورات الأوضاع، واشاركهم في الأزمة التي تمر فيها البلاد، والتأكيد عليهم أنها أزمة وجودية تستهدف الوجود اليهودي في البلاد، الأمر الذي يفرض على الجميع نسيان مشاكلهم، والتوقف عن توجيه النقد للأداء الحكومي، والتفرغ للتعاضد معاً والتعاون للخروج من الأزمة بسلامٍ أو بأقل الخسائر، لكن أوساطاً إسرائيلية تفسر هذا السلوك الذي يحاول نتنياهو اتباعه الآن، بأنه دالٌ على ضعفه، واعترافٌ كاملٌ بفشله، وإن بدا في سلوكه حكيماً، وفي قراره وطنياً.
يبدو أن الانتفاضة الفلسطينية لن تكتفي بفضح نتنياهو وحكومته، التي قد تسقطها وتسقطه، بل ستفضح أطرافاً كثيرةً، ودولاً عدة، وستعري أنظمة، وستكشف حقيقة تآمر دولٍ وحكومات على القضية الفلسطينية، ممن يدعون نصرتنا والوقوف معنا، وستعري حقيقة البعض وإن انتمى إلى فلسطين عروبةً أو إسلاماً، أو كان إليها ينتسب سكناً وإقامة، وهويةً وجنسية.
وسوم: العدد 650