دفاع عن "المنحرفين"
خبر اطلعت عليه قبل أيام، لكنه يعود إلى النصف الأول من القرن الماضي، وقد شكّل هذا الخبر لي صدمة كبيرة، لكنه في الوقت نفسه نبهني إلى حقيقة ظلت غائبة عني طوال هاتيك السنين !
أما الخبر فهو يتعلق بأحد مشايخي، وكان عالماً كبيراً أكنّ له حباً واحتراماً كبيرين، بل كان موضع احترام وتقدير في قلوب المسلمين قاطبة لما شاع عنه من علم وورع، واسمحوا لي أن لا أذكر اسمه لأنه رحل عن دنيانا قبل سنوات رحمه الله تعالى،
أما الخبر فهو إقدام شيخي على إخراج ابنته من المدرسة عندما وصلت إلى الصف الرابع الابتدائي بحجة أنها أصبحت قادرة على قراءة القرآن الكريم، وأن هذا الحد من تعليم البنت يكفي، وكأن شيخي اعتقد أنه بهذا القدر من تعليم ابنته قد أدى ما عليه من واجب شرعي تجاهها !
وقد ذكرني هذا الموقف من شيخي بموقف والدي رحمه الله تعالى الذي أصر على إخراج أختي الوسطى من المدرسة عندما وصلت الى الصف الرابع الابتدائي، على الرغم من أنها كانت من أوائل زميلاتها، وأجمعت معلماتها أنها سيكون لها مستقبل علمي زاهر، وقد توسطن عند أبي لكي ترجع أختي فتكمل دراستها ،لكنه أبى واستشهد برأي الشيخ!!! الذي كان له صيت واسع في المجتمع الشامي حين ذاك ، ولا أستبعد أن يكون الكثيرون من الآباء قد فعلوا الشيء نفسه مع بناتهم في تلك الفترة متأثرين بموقف الشيخ الذي كانت أخباره وفتاواه تلقى القبول في المجتمع الشامي لما اشتهر عنه من علم، وورع، وفقه .
ومرت الأيام فكبرنا وتعلمنا نحن الصبيان، وقرأنا عن شخصيات فكرية عديدة متهمة من قبل علماؤنا بالانحراف والضلال بسبب الدعوة إلى (تحرير المرأة) واسترداد حقوقها التي فقدتها في قرون التخلف والانحطاط، وأولها حقها بالتعليم الذي يجعلها قادرة على استرداد بقية حقوقها الضائعة،
وأمام هذه الذكريات والمواقف أجد نفسي اليوم حائراً في مواجهة سؤال مزلزل : ماذا لو توقف فكرنا الإسلامي عند رأي شيخي المذكور، ولم يظهر هؤلاء ( المنحرفون!!) المنادون بتحرير المرأة ؟ فكيف ستكون أحوال المرأة المسلمة في أيامنا لو توقف حال نسائنا عند رأي شيخي وموقف أبي، ولم نلتفت إلى دعاة التحرير هؤلاء ؟
ويأتيني الجواب أكثر زلزلة : فلو فعلنا ذلك لوجدنا أنفسنا اليوم أمام مجتمع عربي وإسلامي مليء بنساء جاهلات لا يعرفن القراءة ولا الكتابة كما حصل لأختي التي كانت من الأوائل في مدرستها، وباتت اليوم غير قادرة على القراءة بما فيها قراءة القرآن الكريم !!
فما الذي حصل بعد ذلك وكيف سارت الأمور؟
لقد سارت الأمور على غير ما أراد شيخي وأبي، وانتصر الزمن لدعاة التحرير، فأصبحنا اليوم أمام صورة مختلفة لنسائنا، نساء متعلمات ناشطات مشاركات في بناء المجتمع، ملبيات لدعوات التحرير، رافضات الوقوف في الصف الرابع كما أراد شيخي وأبي !!!
بل أكثر من هذا أننا نحن المسلمين أصبحنا اليوم مصرين على تعليم بناتنا حتى أعلى مراحل التعليم، ولا نتردد بإرسالهن لاستكمال دراستهن في أوروبا وأمريكا وغيرها من ( بلاد الكفر! كما يقولون) للحصول على الشهادات العليا، والعجيب أننا نفعل هذا دون أن نتوقف عن كيل اللعنات ضد دعاة التحرير، ووصفهم بأشنع الصفات التي ليس أقلها الانحراف والضلال...فتأمل !!
وسوم: العدد 650