الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 80-82
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (80)
حواجز القتل وبوابات الموت
يكرهها الفلسطينيون من قديمٍ جداً ولا يحبونها، ويتشائمون منها وينزعجون من وجودها، ولا يحبون المرور أو الاقتراب منها، ويصفونها بأنها حواجز القتل وبوابات الموت، فهي تذكرهم بالقتل، وتجلب لهم الموت، فعلى بواباتها قتل الكثير من الفلسطينيين، وأمامها توفي مرضى وهم في سيارات الإسعاف ينتظرون، وتوفيت نساءٌ حوامل منعن من العبور للولادة، وأجبرن على الوضع في الأماكن العامة أمام الحواجز التي تنتصب أمامهم كالسدود، وترتفع كالجبال، فلا يقوى أحدٌ على تجاوزها أو عبورها إلا بقرارٍ أو دون ذلك القتل برصاص جنود الاحتلال المتواجدين على الحاجز.
يكره الفلسطينيون هذه الحواجز التي كانت قبل اندلاع الانتفاضة بالمئات، وبعدها زادت مئاتها مئاتٌ أخرى، وانتشرت حتى عمت كل أرجاء الضفة الغربية، فلم تعد بلدةٌ لا ينتصب على مدخلها حاجزٌ عسكري، ولا شارعٌ إلا ويتوسطه حاجزٌ أمني، ولم يعد الدخول إلى المدن سهلاً، إذ زرع الاحتلال على مداخلها بواباتٌ أمنية ثابتة، استقر فيها جنوده، وبنوا لهم فيها غرفاً للمبيت، وصالاتٍ للراحة والتسلية، وحماماتٍ ودورات مياه، وفيها مطابخ أو يصلها الطعام جاهزاً في أوقاته، وشيدت بالقرب منها أبراج المراقبة، وزودت بكاميراتٍ وكشافاتٍ قوية، يسلطها جنود الاحتلال على كل زاوية وركن، لمراقبة المواطنين ومتابعة حركتهم، وفيها زنازين قذرة وعرف حجزٍ ضيقة.
الحواجز إما أنها ثابتة ومستقرة وهي بالمئات، وقد باتت مزودة بكل ما يلزم الاحتلال، وما يشير إلى استقرارهم ودوامهم فيها، وتكون في الغالب مشيدة بالإسمنت ومنسقة ومنظمة، أو تكون مباني جاهزة "مسبقة الصنع"، يسهل فكها وتركيبها ونقلها وتغيير مكانها، وأخرى مؤقتة تنصب حسب الحاجة، وتفكك بعد الانتهاء منها، لكنها قد تستمر لأيامٍ أو لأشهر قبل تفكيكها، وأخرى تسمى بالحواجز الطيارة، التي يقيمها العدو فجأةً ولساعاتٍ محدودةٍ ثم يغادرها إلى مراكزه بعد انتهاء المهمة التي من أجلها نصب حواجزه، وهي غالباً ما تكون قبل وأثناء مداهمة القرى والبلدات، أو بعد العمليات الأمنية التي يقوم بها المقاومون الفلسطينيون.
يصف الفلسطينيون هذه الحواجز بأنها حواجز الموت وبوابات القتل، إذ أمامها استشهد أغلب منفذي عمليات الطعن والدهس، وفيها قتل الكثير غيرهم ممن اشتبه بهم جنود العدو، وظنوا أنهم ينوون طعنهم أو يخططون لدهسهم، فبادروهم إلى إطلاق النار عليهم، وهم أعدادٌ كبيرةٌ، وكثيرٌ منهم برئٌ من الاتهامات الإسرائيلية، ولكن العدو يريد أن يبرئ نفسه ويبرر قتل جنوده للمواطنين الفلسطينيين، فيذكر في تقاريره أن جنوده أطلقوا النار على الشبان الفلسطينيين دفاعاً عن أنفسهم، ولمنعهم من طعن جنودٍ أو مستوطنين إسرائيليين، وحتى يؤكدوا دعواهم فإنهم يضعون سكيناً بالقرب من الشهداء الذين قتلوهم.
يشكو الفلسطينيون من الحواجز العسكرية الفلسطينية الكثيرة، ويعتقدون أنها تقسم أرضهم، وتجزئ مدنهم، وتعيق الحياة في بلداتهم، فهي تقطع أوصال الوطن كله، وتجعل تواصل المواطنين فيه أمراً مستحيلاً أو غاية في الصعوبة، كما أنها تعيق عملهم وتعطل أشغالهم، فلا يستطيع العامل أن يذهب إلى عمله، ولا الموظف إلى وظيفته، ولا الطالب إلى جامعته، ولا الطبيب إلى مركز عمله، ولا المريض إلى المستشفى، الأمر الذي يجعل حياة المواطنين فيها صعبةً جداً، هذا فضلاً عن أعمال القتل والاعتقال اليومية التي تتم على كل الحواجز، إذ لا يأمن مواطنٌ على حياته أو حريته إذ قرر المرور على حاجزٍ إلا إذا اجتازه وعبره بأمانٍ وابتعد عنه.
أما إذا ترجل المواطنون أمام الحاجز من سياراتهم بقصد المشي لكسب الوقت أفضل من الانتظار لساعاتٍ في السيارات التي لا تمشي، فإن الجنود يستنفرون ويرفعون بنادقهم ويهددون بإطلاق النار إن لم يتراجع المواطنون، في الوقت الذي يتأهب الحراس في أبراجهم لإطلاق النار على كل من يحاول الاقتراب من زملائهم، علماً أنهم يرون أن أغلب المشاة هم من الأطفال والنساء والشيوخ المسنين، الذين لا يستطيعون الانتظار طويلاً.
لا يكترث الإسرائيليون ببكاء الأطفال، ولا شكوى المرضى، ولا ضعف المسنين والعجزة، ولا حالة النساء البئيسة، ولا حالات الطوارئ الملحة، ولا يجيزون سيارات الإسعاف ولا طواقم الدفاع المدني، ويصرون على إتمام إجراءات التفتيش والتدقيق والإهانة والإذلال والإساءة، في كل الظروف والأجواء، فلا يمنعهم مطرٌ منهمرٌ، ولا صقيعٌ باردٌ، ولا شمسٌ قائضة، أو حرٌ لاهبٌ، أما إذا وقع حادثٌ أمني على الحاجز، فإن المئات من المواطنين وأحياناً آلاف منهم، يتفرقون في جزعٍ وخوفٍ، نتيجة إطلاق النار العشوائي والكثيف.
تستغل سلطات الاحتلال الإسرائيلي الحواجز الأمنية، وتستفيد منها إلى أبعد مدى، غير القتل والاعتقال والتضييق على المواطنين وتعقيد حياتهم، فإنها تقوم في حواجزها بحجز بعض المواطنين وتوقيفهم لساعاتٍ، وخلالها تقوم بتعذيبهم وضربهم، وتقييدهم وشبحهم، وقد تحقق معهم وتستجوبهم، كما أنها تبتزهم وتضغط عليهم، وتستغل حاجتهم الماسة والملحة لمحاولة ربطهم والتأثير عليهم ليتعاملوا معهم، ويصبحوا مخبرين لهم، علماً أنه يكون على الحاجز غير الجنود النظاميين، عناصرٌ من المخابرات، وبعض المستعربين الإسرائيليين، الذين يحاولون الاستفادة من "منافع" الحواجز إلى أبعد مدى ممكن.
لا تلتزم سلطات الاحتلال بفتح الحواجز والبوابات الأمنية بانتظام، بل تتعمد أن يكون نظامها مربك، ومواعيدها غير منتظمة، وكلها تخضع لمزاجية الجنود وقرارهم، فهم قد يغلقون بعضها لساعاتٍ أو لأيامٍ ثم يفتحونها فجأة، ولكنهم يتعمدون البطئ في التفتيش، والتدقيق في تمرير المواطنين وتسيير السيارات، حتى إذا احتشد المواطنون وأصبحوا بالمئات، وطالت طوابير السيارات حتى أصبح لا يرى آخرها، فإنهم يقومون بإغلاق الحاجز، ويمنعون الجميع من المرور، ولا يقوى أحدٌ على سؤالهم أو الاستفسار منهم، لمعرفة أسباب الإغلاق ومدته، ويهددون من يحاول الاقتراب من الحاجز بإطلاق النار عليه.
لا تحترم سلطات الاحتلال الإسرائيلي أحداً من الفلسطينيين على الحواجز والبوابات، ولا تعير اهتماماً ولا تقديراً لحملة بطاقات الشخصيات الهامة، أو الذين يحملون بطاقات تسهيل مهمة، بل يقوم الجنود على الحواجز أحياناً بالتضييق عليهم متعمداً، والإساءة إليهم بقصدٍ، ويحرصون على أن يرى المواطنون إهانتهم، ويلحظوا طريقة التعامل معهم، ولا تتردد في إطلاق النار على العناصر الأمنية الفلسطينية إذا اشتبهت بهم، في الوقت الذي لا تسمح لأيٍ منهم بالاقتراب من الحواجز وهو يحمل سلاحه، ولو كان منتسباً إلى الأجهزة الأمنية، وهي التي قتلت ملازماً في الاستخبارات العسكرية على أحد حواجز مدينة القدس.
أكثر من ستمائة حاجزٍ في القدس والضفة الغربية، تمزق أوصال الوطن، وتخترق أحشاءه، تعذب المواطنين وتذلهم، وتقسو عليهم وتعذبهم، وتتعمد إهانتهم والتضييق عليهم، وعليها يقتلون ومن أمامها يعتقلون، ورغم ذلك فإن الفلسطينيين يقتحمونها ويهاجمونها، ولا يترددون في قنص جنودها أو طعنهم، ولو كان الثمن حياتهم، والنتيجة شهادةٌ أو اعتقال.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (81)
جدوى سياسة كسر الظهر وقطع الحبل
عجزت المخابرات الإسرائيلية عن مواجهة أجيال الانتفاضة الطالعة، التي تبدو أنها أقوى ممن سبقها، وأصلب عوداً وأشد مراساً من الرجال الذين حولهم، وأكثر وعياً من محيطهم، وأعلم مما يظن بهم غيرهم، وأكثر عناداً من عجائز بلدهم، فهم أنقى سريرةً وأطهر نفساً وأزكى روحاً، وقد كانوا على عدوهم أشد خطراً وأبلغ تأثيراً، وأعظم ضرراً، وأصدق عملاً، وقد أتوه من حيث لم يحتسب، ونالوا منه أكثر مما توقع، فهم أخفياء لكنهم أقوياء، وخبرتهم قليلة لكنهم حكماء، ومنهم فتيان وفتياتٌ ولكنهم أشداء، وهم صغارٌ في السن لكنهم أذكياء، يدركون أبعاد قضيتهم، ويعرفون خطورة عدوهم وخبث أنصاره وحلفائه، وينتبهون إلى ما يحاك لهم في الخفاء ويخطط ضدهم في العلن، ويتجنبون بوعيٍ وحكمةٍ وبصيرة الشر الذي يراد بهم.
الحكومة الإسرائيلية أعلنت على لسان أكثر من مسؤولٍ رفيعٍ فيها، فضلاً عن رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو المتهم شخصياً بأنه سبب الأزمة وصانع الورطة، أن وسائل جيشهم العنيفة لم تعد تقوى على النيل من نشطاء الانتفاضة وأبناء الشعب الفلسطيني، أو الحد من اندفاعهم، أو التخفيف من أثرهم، كما لم تعد قادرة على التصدي للشباب اليافع المتقد، والمقاومين الجدد، الذين ينبعثون من الأرض، ويهبون كما الوهج، ويزدادون مع الأيام، ويجددون في طرقهم، ويبدعون في وسائلهم، كما يشكلون في انتماءاتهم إلى مختلف المدن والبلدات الفلسطينية، وينتسبون إلى كل الوطن فلسطين داخله وشتاته.
أمام هذا الواقع الصعب والعنيد الذي صنعه الفلسطينيون، وفرضه المقاومون، الذين ينفذون عمليات الطعن والدهس والقنص، ويواجهون القتل بابتسامةٍ عريضةٍ وأملٍ كبير، لا خوف يعتريهم، ولا تردد يفشلهم، ولا رهبه تبطئهم، الأمر الذي من شأنه أن يزيد في رهق العدو ويضاعف حسرته، ويفقده الأمل في السيطرة عليهم، وإحباط مقاومتهم، وإنهاء انتفاضتهم، ويدفعه للبحث عن وسائل أخرى يواجههم بها، على ألا تظهر هذه الوسائل البديلة ضعفه، أو تفضح عجزه، أو تكشف سوءته التي يحاول بعنفه المفرط أن يداريها ويخفيها.
لما فشل العدو في مواجهة صناع الأحداث ورواد الانتفاضة، وعجزت وسائله الوحشية عن الانتصار عليهم، وإن كان يقتل الفلسطينيين برصاصه، وينهي حياتهم بسلاحه، ويسكت أصواتهم بعدوانيته، إلا أن المقاومة من بعد الأسرى والشهداء والجرحى والمصابين تتواصل، والانتفاضة بعد غيابهم تزداد قوةً وعنفاً، وتتعاظم أثراً وفعالية، وتستمر فعالياتها وكأنها تبدأ من جديد، لهذا قرر العدو أن يذهب في اتجاهٍ آخر، وأن يسلك سبيلاً غير جديدٍ، إذ أنه يتبعه منذ زمن ويمارسه منذ بدأ الاحتلال، ولم يتوقف عنه يوماً، فهو يحاول بقلقٍ إيقاف الانتفاضة والتأثير عليها من جوانب مختلفة، عله يستطيع بهذه الوسائل الخبيثة أن يحقق ما يريد، وأن يصل إلى هدفه الذي يزداد عنه بعداً يوماً بعد آخر.
عمدت المخابرات الإسرائيلية إثر كل عمليةٍ يقوم بها فلسطيني، أياً كانت عمليته، قنصاً أو دهساً أو طعناً، وبغض النظر عن مصير منفذها، سواء قتل أو أعتقل، فالأمر في كل الحالات سيان، ولا يؤثر على الخطوات التالية التي قرر القيام بها والمضي فيها حتى النهاية، فغايتها أن تحدث في المجتمع الفلسطيني إرباكاً كبيراً، وأن تخلخل صفوفه، وتفكك تماسكه، وتضعف إرادته، وذلك من خلال فرض عقوباتٍ جماعية موجعة وقاسية على الوسط المحيط بمنفذ العملية، وتقوم باعتقال العديد من أفراد عائلة المنفذ، وتفرض عليهم غراماتٍ كبيرة، وتلزمهم بتعهداتٍ خطيرة، ذلك أنها ترى أن الوسط الاجتماعي لمنفذي العمليات القومية هو الظهر الذي يصلب عودهم، وهو السند الذي يحمي وجودهم، وهو الإطار الذي يقيهم ويطيل بقاءهم، ويدفعهم نحو المزيد من العمليات، سواء بالحض والدفع، أو بتأثير التقليد والاتباع، بقصد الثأر والانتقام.
وتنفذ الحكومة الإسرائيلية هذه السياسية بوجوهٍ مختلفة وأشكالٍ مختلفةٍ، وهي كثيرة وعديدة، وقد تجمعها معاً أو تفرقها، وقد تأتي ببعضها تباعاً وفق التقديرات الأمنية، فهي تقوم بحصار بلدة منفذ العملية، وتغلق شوارعها، وتضع على مداخلها متاريس وحواجز عسكرية، وتضيق على السكان في دخولهم وخروجهم إلى بلدتهم، ويتخلل ذلك عمليات اعتقالٍ عشوائية أو منظمة، تنفذها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الحواجز أثناء خروج المواطنين أو دخولهم، أو أثناء عمليات الاقتحام والمداهمة التي تقوم بها من حينٍ إلا آخر، بحجة مداهمة بيت منفذ العملية، وخلال ذلك تقتحم البلدة بأعدادٍ كبيرة من الجنود، وبآلياتٍ كثيرة وضخمة، وتقوم بإطلاق أعيرة نارية بكثافةٍ بقصد إرهاب المواطنين، أما إذا خرج المواطنون لصدهم أو منعهم من الدخول والاشتباك معهم بالحجارة، فإنها تواجههم بإطلاق النار الكثيف عليهم، وبقنابل الغاز المسيل للدموع، والطلقات المطاطية، وغالباً يسقط جرحى وشهداء، أو تنفذ اعتقالات واعتداءات أثناء عمليات المداهمة والاقتحام، وتبرر سلطات الاحتلال ما تقوم بأنه بأنها كانت تفض التجمعات، وتمنع المواطنين من إعاقة عملها.
وهي بهذه الإجراءات تستهدف الوسط المحيط والإطار الاجتماعي الذي يقي المقاومين ويحميهم، وهي تطمح من وراء هذه الإجراءات أن يمارس المجتمع ضغوطه على المتحمسين للقيام بأعمالٍ قومية، فيمنعهم المجتمع، ويحظر نشاطهم، أو يقوم بعضهم بالإبلاغ عن التحركات المشبوهة لأبنائهم، أو إحباط نواياهم إن تأكدت لديهم الشكوك والظنون، وهو ما تسميه المخابرات الإسرائيلية بعملية "كسر الظهر".
أما سياسة قطع الحبل الإسرائيلية التي تتظافر مع سياسة كسر الظهر، فهي تعني قطع الصلة بالمقاومين وتركهم يسقطون ويقعون بسرعة، وذلك من خلال متابعة وملاحقة كل الأشخاص الذين يقدمون عوناً ومساعدة للمقاومين، والذين يقومون بإيوائهم وإخفائهم، وتزويدهم بما يلزمهم من طعام وشراب وأدوات عمل وغير ذلك، خاصةً أن منفذي العمليات يفقدون قدرتهم على الحركة، ويضطرون للاختفاء والتواري عن الأنظار، ويعتمدون على غيرهم في كل شئٍ يخصهم.
ولهذا تتعمد سلطات الاحتلال الإسرائيلي التركيز على هذا الفريق المساند، الذي يستطيع الحركة بسهولة، ويقوى على التنقل دون عقباتٍ، ولا يثير الشبهة حوله أو يحرك الظنون ضده، لكن متابعةً دقيقة لهم، من خلال التنصت على المكالمات ومتابعة الحوارات عبر غرف الدردشة على صفحات التواصل الاجتماعي، تساعد المخابرات في التعرف عليهم، وتعجل في كشف هويتهم ومعرفة أدوارهم، والوصول إلى المطلوبين من خلالهم، فهي إما أن تعتقلهم وبذا يبقى المقاومون وحدهم بلا مأوى ولا سند، ولا معين ولا نصير ولا ظهير، أو أنها تتمكن من خلال التحقيق معهم، من معرفة أماكن وجود المطلوبين والمطاردين.
هذا هو ظن سلطات الاحتلال ومخططهم القديم الجديد لمتابعة النشطاء والمنفذين، ولمحاولة الالتفاف عليهم والقضاء على انتفاضتهم من خلال كسر ظهرهم السند، أو قطع حبلهم المعين، بعد أن عجزت سياستها العسكرية وقوتها المفرطة في تحقيق ما تتمنى، فهل تقوى بما تخطط وتجهز على إنجاز ما عجزت عن إنجازه طوال عقودٍ من الزمن، وهي التي جربت كل شئ، ولم تبق وسيلةً في حربها ضد هذا الشعب إلا واستخدمتها، فهل ستنجح في كسر ظهر هذا الشعب العنيد، المؤمن بقضيته والمضحي في سبيلها، وقطع حبال تواصله وأواصر ترابطه وهو الشعب الأصيل، الجبار العظيم.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (82)
انتفاضة السايبر وملاحقة نشطاء الفيسبوك
لا يعاني العدو الإسرائيلي من النشطاء الفلسطينيين على الأرض وفي الميدان فقط، ولا يشكو ممن ينفذون عمليات الطعن والدهس والقنص وحسب، ولا يتألم ويصرخ ممن يحملون البندقية أو يزرعون العبوة أو يطلقون الصاروخ، ولا من الذين يتظاهرون ويحتشدون، ويهتفون ويحملون الحجارة ويقذفونه بها، وإن كان هؤلاء جميعاً يؤذونه ويوجعونه، ويؤلمونه ويتعبونه، وهو بدوره يستهدفهم بالقتل والاعتقال، والمطاردة والمتابعة، لكن عددهم مهما بلغ يبقى قليلاً، وعملياتهم مهما عظمت فهي تبقى محدودة، وهو يراهن مع الأيام وتواصل جهوده وتظافرها مع جهود الأجهزة الأمنية الرديفة والصديقة، أن يقضي على الانتفاضة، وأن ينهي وجودها، ويطفئ لهيبها ويمنع انتشارها، ويقلص من آثارها ونتائجها السلبية عليه.
قد لا تتسع ساحة المعركة على الأرض، والأهداف الإسرائيلية في الميدان لكل الشعب الفلسطيني لأن ينزل على الأرض، يطعن ويدهس ويقاوم مادياً بما يملك، كما أن الظروف والواقع الأمني والعسكري لا يسمح، ولكن مجالاتٍ أخرى تتسع للآلاف، وتستوعب الشعب كله في مناحي عدة، وآفاق نضالية كثيرة، وهو ما أدركه الكثير من الفلسطينيين والعرب وغيرهم، ممن يرغبون في المساهمة في الانتفاضة، وفي أن يكون لهم دورٌ فيها، لكنهم يعيشون خارج فلسطين، أو بعيداً عن مناطق الاشتباك والمقاومة، فوجدوا على الإنترنت وعبر صفحات التواصل الاجتماعي فرصتهم الذهبية لتقديم المساعدة والعون، وللمساهمة الإيجابية في الانتفاضة، وذلك من خلال إنشاء الروابط والجمعيات والمؤسسات الداعمة، أو من خلال جمع التبرعات والمساعدات المادية لمساندة الفلسطينيين، والمساهمة معهم في الصمود من خلال إعادة بناء البيوت المدمرة، وتبني أبناء الشهداء، أو رعاية أسرهم وعائلاتهم.
أدركت سلطات الاحتلال الإسرائيلي هذا الخطر، فعمدت إلى عدة طرقٍ لمواجهة نشطاء الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وسلكت سبلاً عديدة للحد من نشاطهم، ولمنع تأثيرهم على الانتفاضة وسير الأحداث في المناطق، فضلاً عن عمليات الاعتقال والمداهمة التي طالت العشرات من النشطاء والفاعلين على شبكة الإنترنت، من الشبان والشابات على السواء، إذ أن هذا الميدان لا يقتصر على جنس، ولا تحتكره فئة، بل هو مفتوحٌ لكل صاحب موهبةٍ وكفاءةٍ من المؤمنين بالتكليف الوطني والديني، ويستطيع العمل فيه بجدارةٍ المريض والصحيح، والقعيد والسليم، والصغير والكبير وغيرهم.
تتابع المخابرات الإسرائيلية مختلف وسائل التواصل الاجتماعي في الأوساط الفلسطينية، وتحرص على مواكبتها جيداً، فهي كنز معلوماتٍ كبير بالنسبة لهم، ومن خلالها تستطيع الحصول على كثيرٍ من المعلومات الهامة، إذ تقوم مخدماتٌ ضخمة جداً بعملية جمع البيانات وتحليل المعطيات، وتحصر المواد التي ترى أنها غنية بالمعلومات المفيدة، وذلك من خلال أدواتٍ مفتاحية دقيقة، والمعلومات التي يحصلون عليها قد تفيدهم في إحباط عملياتٍ يخطط لها، أو إلقاء القبض على مطلوبين ومطاردين، من خلال التعرف على أنشطتهم وفعالياتهم، والأماكن التي من الممكن أن يذهبوا إليها، حيث ينصبون لهم كمائن أو حواجز خاصة، أو ينتظرونهم على الحواجز العامة، التي يزودونها بأسمائهم وصورهم، ويعطونها الأوامر باعتقالهم.
كما جندت المخابرات الإسرائيلية أعداداً ضخمة من المتطوعين للعمل في مجال السايبر، ممن لديهم القدرة على اختراق شبكات التواصل الاجتماعي، أو بناء ونسج علاقات صداقة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعمل في هذا المجال الطوعي طلاب وطالبات الجامعات الإسرائيلية، ومتطوعون عديدون من خارج فلسطين المحتلة، ممن يؤمنون بالصهيونية ويحرصون على خدمة كيانهم والتضحية في سبيله، وأغلبهم يتقن اللغة الإنجليزية، وبعضهم يتحدث العربية وينشر شباكه وينسج بها علاقاته مع نشطاء "فيسبوكيين" فلسطينيين، ولعل هذه الوسيلة شائعة وكثيرة الاستخدام، وتلق نجاحاً ملحوظاً وتعود بالنفع على الإسرائيليين، ولهذا فقد أصبح لها أقسام مستقلة ومسؤولون مباشرون في المخابرات الإسرائيلية، وأصبحت تتابع مقاهي الإنترنت، وتركز على روادها، وتتعرف عليهم من خلال عناوين المقاهي التي ترصدها مخدمات الشركات.
إلى جانب ذلك قامت الحكومة الإسرائيلية بالضغط على شركات الإنترنت وإدارات شبكات التواصل الاجتماعي، وطالبتها عبر نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية بضرورة الامتناع عن نشر الصور والفيديوهات المسيئة إلى الكيان الصهيوني، وضرورة إغلاق صفحات النشطاء الفلسطينيين، خاصةً المحرضين منهم، والتي تشهد صفحاتهم ومواقعهم زياراتٍ كثيرةٍ ومشاركاتٍ واسعة، ولهم تأثير على الرأي العام والسلوك الفلسطيني، وهددت بتقديم شكاوى ضد شركات الفيسبوك وغيرها والمطالبة بمحاكمتهم لارتكابهم جرائم في حق المواطنين الإسرائيليين، إذ أنها بما تقوم به وتنشره، وبما تسهله وتيسره للفلسطينيين وغيرهم، فإنها تساهم فعلياً في المساس بأمن الكيان الصهيوني وتعرض سلامة مواطنيه للخطر.
وعليه فلم يعد من المستغرب قيام المخابرات الإسرائيلية بمداهمة البيوت والمحلات، والمقاهي والمكاتب، والشركات والمؤسسات بحثاً عن مستخدمي شبكة الإنترنت، والمشاركين في صفحات الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي، واعتقالهم بتهمة التحريض أو تقديم المساعدة، أو التنظير والتأليف، وتشكيل المجموعات المنظمة وتوجيهها، إذ بات ارتياد هذه الصفحات ونشر الصور وتعميم المقالات والتعليقاتِ بقصدٍ قومي، جريمةً يحاسب عليها القانون الإسرائيلي، ويعاقب مرتكبها بأشد العقوبات، وعليه فقد داهمت بالفعل المخابرات الإسرائيلية عدداً من نشطاء الفيسبوك، واعتقلت الكثير منهم، ووجهت لهم المحاكم تهمة ارتياد مواقع معادية، وحكمت على بعضهم بالسجن مدة أربعة عشر شهراً، وحكمت على آخرين بغراماتٍ مالية، ومنعت آخرين من حق استخدام النت تحت طائلة المحاكمة من جديد.
لا يقلل العدو الإسرائيلي من خطورة المعركة عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ولا يستخف أبداً بآثارها ونتائجها، وهو ما عبر عنه المعلق الإسرائيلي بن كاسيبت بقوله "المعركة الحقيقية تجري في العالم الافتراضي بيننا وبين الفلسطينيين"، ولكن هل تراهم يستطيعون قمع مئات ملايين العرب والمسلمين، وتكميم أفواههم وكسر أقلامهم، ومنعهم من امتلاك الكمبيوتر والهواتف الذكية، للحيلولة دون مقاومتهم الجديدة، وعزلهم عن معاركهم الافتراضية التي يحسنون البذل فيها، ويجيدون النزال على صفحاتها، ويستطيعون عبرها إحراز نصرٍ على العدو، وفضح صورته، وتعريه حقيقته، وتكبيده خسائر حقيقية عبر عمليات الاختراق والقرصنة التي باتوا يجيدونها، ويقتحمون بواسطتها كل الحصون الإسرائيلية، ويدخلون كل المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية.
وسوم: العدد 651