الكلمة قبل الأخيرة
في الخمسينيات من القرن الماضي، نشر موشيه دايات وزير الحرب الإسرائيلي، خطة الحرب الإسرائيلية التي ستطبق بعد في حرب 1967م. و عندما سئل عن سبب نشره خطة عسكرية ستطبق بعد. قال:
"العرب لايقرأون!!"
و اليوم و بعد مرور قرابة حمس سنوات على الثورة السورية، و بعد وصول أوراق القضية السورية إلى أروقة الأمم المتحدة ، و إلى جنيف و فينا و الأمم المتحدة تحديدا، ينبعث حول المسألة ألف سؤال و سؤال حول الموقف الدولي من القضية السورية بخاصة، فيعجز عن الإجابة المعني بالإجابة بينما يجيب على استحياء و خوف آخرون فيشوهون الحقائق و يقدمون الآراء و الأفكار على شكل هرم مقلوب.
و تعود مقولة موشيه ديان" العرب لايقرأون" لتطفو على السطح من جديد !!!
خمس سنوات مضت من عمر الثورة السورية و قد أَّوقف الحاسوب الإعلامي عن العد بعد أن قاربت الضحايا الربع مليون إنسان، و غدت الضحايا التي تسقط تباعا و بشكل يومي و كأنها لاشيء في عالم البشر!!
لقد ناهض جيش النظام الثورة السورية ردحا من الزمن ، ثم أضيف إليه شراذم لبنان، و آخرون جاؤا من إيران، و من باكستان و أفغانستان ، ومن رافضة العراق و من غيرهم. فعجزوا و ذلوا أمام قوى الثورة السورية ، المدججة بإيمانها، و مرغت أنف أولئك، و أرغمته في التراب.
و أخيرا بشكل عدواني_ و في منعطف تاريخي تمر به الثورة السورية_ يأتي التدخل الروسي في سورية، ضد الثورة السورية بخاصة، و ضد الشعب السوري بعامة ، قصد تركيعه و إذلاله، بل وقصد اجتياح سورية، على وفق مخطط خفي ،تتجاوز حدوده موسكو و طهران ، بل ولندن و باريس!!
لقد بدأ الروس عدوانهم على شعب سورية فقصفوا المدارس و المشافي و الأسواق الشعبية، و الأحياء الآمنة، و لم يفرقوا بين أعزل و مسلح و كأنهم يتبنون خطة تدمير سورية قصد تفريغها من سكانها، و جعلها غنيمة لقوى الغزو الخارجي التي تألبت عليها من جهاتها الأربع.
وفي زحمة ذلك و حيث أشلاء القتلى تتناثر موزعة بين حلب ودرعا ،و حمص و حماة، و اللاذقية و الميادين، و حيث ينبعث الصراخ من كل حنجرة، و الجميع ينادي النجدة، دون أن يجد حتى ولو بارودة واحدة مشرعة تنتصر لهم، فينكسر ذلك الصراخ على نفسه، تلفّه الخيبة المرة، و لسان حاله يقول_ مؤكدا و مقلدا " العرب لا ( يعلمون) و لا (يتعلمون)!!!
و في أجواء الأمية هذه، يهرع أصدقاء سورية إلى المحافل الدولية، و هم يحملون الحقائب الفارغة، إلا من المناديل المعدة مسبقا، لمسح عرق جباهم الخجلى من اللاموقف. وقد كاد يصبح سمت تلك المؤتمرات حتى وإن بدا مغلفا بأكثر من ادعاء سمت أكاذيب مكشوفة ، يكثر فيها الصياح، حتى قال قائلهم و هو يسخر من نفسه:" أسمع جعجعة و لا أرى طحنا"!! فيضحك و يضحك آخرون .
وتعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات، ويتداعى الأعدا و الأصدقاء، و يتحرك المبعوثون . و لسان الحال يؤكد الحاجة إلى قراءة جديدة ممن يقرأ و يكتب، وذلك لِتُبنى رؤيته على أساس من فهم واسع لمايجري داخل سورية و خارجها ، وحتى في أروقة المحافل الدولية ، التي تعلن أنها مهتمة بالقضية السورية.
وفي تقديرنا: أن المؤتمرات جمعيا ليست أكثر من تظاهرة مخادعة قصد امتصاص غضب بعض الأصدقاء الذين هالهم ما يحدث في سورية سيما بعد أن أصبحت بلدا محتلا من روسية و إيران تحديدا، و أن حاكمها الذي استعان على شعبه بالأجنبي، لم يعد سوى عدواٌ لذلك الشعب الذي يحكمه، ، وبعد أن طفح الكيل من الدم السوري، حتى رشق رشقات وصلت واشنطن وباريس، و الذي يجعل الأمر أكثر تكشفّاَ أن المفاوضات التي قد تعقد في ظروف استثنائية، تعقد و العدوان الروسي يصعد كل يوم وتائر هجومه، بينما الجسر الجوي منصوبا بين المطارات السورية و مطارات روسيا، و قد أخذت تتدفق على سورية الوحدات الروسية المدمجة بالسلاح، للمشاركة في القتال على الأرض السورية ، وللوقوف إلى جانب النظام السوري في حربه ضد السوريين. و هذه القضية قد تكون كافية بالنسبة لنا نحن العرب، لنصحح القراءة ، ولنقدم الدليل على أن الموسى التي كانت تعد لحلاقة لحى السوريين ستجز لحى أولئك الذين لايزالون يعتبرونها بعيدة عنهم. فالذي آمن بالعولمة منجزا حضاريا لإنسان القرن الواحد و العشرين، و الذي آمن أن حقوق الإنسان تعلو و لا يعلى عليها، عاد ليؤمن من جديد أن الإرهاب و الإرهاب المضاد الذي يهب من شرق أو غرب لابد إلا أن يشمل العالم كله وبدون استثناء، فيكتوي بناره ويذوق مراره الناس جمعيا. وأن ردود الأفعال لابد إلا أن يحسب حسابها وبدقة:
لذا ومن هذا المنطلق جاء التدخل الروسي في سورية،ليقدم الدليل على فداحة الجريمة التي يرتكبها الروس على الأرض السورية، و ليضع العالم أمام أخطاء أربعة:
الخطر الأول: خطر المطامع الدولية المتعدية ، التي يمثلها العدوان الروسي و التي تهدف إلى قتل الإنسان و تدمير بناه التحتية في كل مكان من سورية، و أن خطر المطامع هذه قابل للتعدي و بدون حدود .
الخطر الثاني: خطر التحالف الصهيو إيراني الذي يهدف إلى تفريغ سورية من سكانها باستهداف السنة –تحديدا- بمحاولة تهجيرهم بكافة الطرق، لتحل بدلا منهم قطعان الرافضة القادمة من وراء الحدود، وهو خطر لا يقل عن سابقه فداحة.
الخطر الثالث: خطر السياسة الأمريكية الداعمة للمشروع الصهيوني الإيراني، و التي تعد محكومة بسياسة اللوبي الصهيوني.الذي يجر السياسة الأمريكية إلى خانة الدولة العدوّة لأمريكا و الغرب، و هي حرب لن تكون رابحة على المدى الطويل بالنسبة لأمريكا تحديدا .
الخطر الرابع: خطر الضعف الدولي العام الذي يقف عاجزا أمام تلك السياسيات المتآزرة و المتضافرة ، و التي تمسُّ سيادة الدول جمعيا و منها الدول الشرق أوسطية المعنية بالعدوان، و دليلنا على ذلك اتساع رقعة الخطر في سورية، و قد أصبحت حمى مستباحا للموتورين من الناس جمعيا. و هم يسندون حاكما حول حقده إلى براميل متفجرة ، تلقى من علٍ على شعب كل ذنبه أنه رضي به ذات يوم أن يكون حاكما له.
و الأخطار الأربعة هذه تتطلب منّا فهما جديدا و قراءة جديدة للمنعطف الجديد الذي تمر به المنطقة الشرق أوسطية، وللأمن و السلام الدوليين اللذين يهتم بهما البشر.
و الفهم الجديد و القراءة الجديدة يتمثلان ب:
قراءة التاريخ العربي و الإسلامي، و فهمه فهما جيدا من واقع خطه البياني الصاعد و النازل منذ العصور الوسطى و إلى اليوم. قراءة التاريخ الأوربي و فهمه فهما صحيحا على أساس من جدل العلاقة بين النصرانية و الإسلام من ناحية، و بين أوربا و العالم الإسلامي من ناحية أخرى في القديم و الحديث. قراءة المسألة الإقليمية منهم الخصوصيات الوطنية و القومية لدول المنطقة من ناحية و لدول الجوار من ناحية أخرى سيما إيران التي تتبنى سياسة أقل مايقال عنها : أنها سياسة توسعية صرف. فهم الخصوصية المذهبية و معرفة مافيها من سمات و خصائص إيجابية و سلبية . و هي مسألة قل أن تخلو منها دولة من دول المنطقة و تداخلاتها المقلقة، و التي تتطلب حلا سريعا و منصفا. معرفة الدور الإيراني و ما عليه الإيرانيون من حقد و كراهية للعرب من ناحية، ومن محاولة جادة و طموحة لإحياء امبراطوريتهم الفارسية القديمة، و مد مناطق نفوذهم إلى ماهو أبعد و على حساب جيرانهم جمعيا و على حد سواء. معرفة الدول الأجنبية التي ترسم سياساتها من واقع مصالحها و تحالفاتها و أهدافها السرية و المعلنة و منها روسية التي تمارس الدور الأخطر و الأكبر على الساحة الدولية. معرفة طبيعة العلاقات الدولية التي قامت على أساس من كل تلك الخصائص و الأهداف و منهم نقاط الالتقاء و الافتراق بينها، و عدم الاكتفا بالمعلن من تلك العلاقات، و هي إعلانات قد تكون مضللة و غير صادقة.
و هذه الرؤية تقودنا إلى أمرين متناقضين تماما.
الأمر الأول: يتعلق بقبول الدعوة إلى المفاوضات. و هو قبول من شأنه أن يؤذي الشعب السوري، و يؤذي ثورته كذلك. و نقطة الإيذاء فيه، أنه مخادع و كاذب و الهدف من ورائه تمرير الوقت من أجل إطالة معاناة الشعب السوري و تدمير القدر الأكبر من بناه التحتية، و قتل و تشريد العدد الأكبر من السوريين. و الأهم من ذلك الوصول بالسوريين إلى حد اليأس و فقد الثقة. وذلك بالربط بين الائتمار و التآمر و هو ما يكاد يلحظ في أوساط العامة و الخاصة. و منهم الثوار الذين يرون في تلك المفاوضات أكذوبة يجب ألا تصدق . أو على حد تعبير بعضهم " الحصى الذي يطبخ على نار هادئة"!!!
الأمر الثاني: يتعلق برفض الدعوة إلى المفاوضات و هو رفض من شأنه أن يؤدي إلى إيذاء السوريين و إلى إضعافهم و إلى خذلانهم كذلك من قبل أشقائهم و أصدقائهم و المتعاطفين معهم من دول العالم كافة. فالقضايا العادلة، تتطلب مواقف مشرفة، و هذه المواقف لا تكون بالرفض المطلق، و إنما بالحوار الهادف و البناء، الذي يتفهم أبعاد المسألة و يعرف كيف يتعامل معها، بعيدا عن الانجرار التقليدي الذي كما قلنا آنفا يؤذي و يضر و حسب ادعاء النظام و حلفائه الذين يعدون الفصائل المقاتلة على الأرض السورية جمعيها إرهابية. فقد باتت المسألة تتطلب منا فهما جديدا للرفض و الحضور معا. يستوي في ذلك من يحمل السلاح في الداخل و من يعارك في أروقة المؤتمرات في الخارج، فالمسألة نضالية بامتياز. و هي لاتقف عند حدود المعرفة حسب بل تتعدى ذلك إلى التآمر المقنن و المدروس و الذي يعد مسبقا بعيدا عن مصالح الشعوب و عن حقوقها المشروعة في الحياة الحرة الكريمة التي تبرر كفاحها ضد عدوها.
و القادم المتلفع بمخرجات المفاوضات قد يسقط ورقة التوت عن سوءة أولئك الذين يظنون أنهم يعملون بعيدا عن الأعين، و في خفاء، حيث سيؤدي ذلك إلى المواقف الصحيحة و الجادة بل و التحشد الحقيقي ضد ما هو أكبر و أخطر حتى من بشار، ومن نظام بشار." وَلَتَعلَمُنَّ نبأه بعد حين"
_________________
أ.د. عبد العزيز الحاج مصطفى: مستشار في مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
وسوم: العدد 652