الوطن المزعوم والوطن المنشود

-     ولدنا ونشأنا وترعرعنا في بقعة من الأرض, قيل لنا عندما كبرنا بأنها "الوطن"

-     علمونا من نعومة أظافرنا بأنه لا شيء يعلو فوق "الوطن"... فالوطن مقدس وقداسته تكمن في حاكمه!...   

-     كنا نردد في المدارس الشعار الصباحي "أمة عربية واحدة" ولم ندر وقتها هل الوطن المعني هو جزء من الأمة المنشودة أم وطننا الأم هو الأمة المنشودة...

-     كثيراً ما كنا نطرب لدعاية الإنتساب الى الكلية الحربية مع موسيقاها العنفوانية وكلماتها العميقة ونتفاعل معها حتى كان الواحد منا ينوي بأنه عندما يأتي الغد سيبادر للإنتساب الى الكلية الحربية, كيف لا وأنت تبذل أغلى ما تملك دفاعاً عن "الوطن المزعوم" ولتبقى سماؤه أبية على قوات التحالف الجوية وأرضه عصية على الحرس الثوري الإيراني وماؤه بركان على غواصات القطب الروسي!…

-     في تلك البقعة من الأرض, الإنتساب لحزب "الوطن" هو الطريق الوحيد لبلوغ المناصب القيادية الكبرى... فكيف للوزير أن يصبح وزيراً والمدير مديراً وأن يخدم "الوطن المزعوم" من دون أن يؤمن بمبادئ الحزب الأوحد!...

-     الشعب هناك منقسم الى قسمين: عسكري ومدني, فالعسكري له كل الإمتيازات التي تتخيلها والتي تبدأ من نافذة خاصة للعساكر لشراء الخبز, وتنتهي بإستلامه مناصب قيادية عليا كرئيس حكومة أو وزير دفاع أو محافظ مدينة (بعد تقاعده العسكري) أو دبلوماسي مخبر في إحدى الدول الغربية, وبصراحة "معون حق" فهذا العسكري الذي نذر نفسه لخدمة "الوطن" ...من حقه أن يحصل في نهاية خدمته على فتات من هذا "الوطن". وفي الطرف المقابل, الإنسان المدني لا يستحق كل هذا التكريم, لأنه رضي لنفسه أن يكون من الخوالف وخلد الى الأرض ورضي بالحياة الدنيا واثاقل عن الدفاع عن "الوطن المزعوم"...

-     علمونا بأن المواطن المحب لوطنه هو من يطأطأ رأسه لجميع القرارات الحكومية, وسياسات البلد الداخلية والإقليمية والدولية هي سياسات منزلة لا تقبل النقاش وسياسيوا  "الوطن" منزهين عن الأخطاء... والمواطن الصالح هو الذي يصدق وينشر كل ما يرى ويسمع عبر وسائل الإعلام الرسمية, فإذاعة "الوطن" لا تنطق إلا بالحق, وتلفاز "الوطن" لا يجسد إلا القيم التي تخلد حاكمه...

-     بالكاد كنا نرى آبائنا لأنهم كانوا يعملون صباح مساء... فلا يعودون إلا ونحن نيام على أمل بناء هذا "الوطن"...

-     فهمونا بأن "وطننا" في مصافي الدول المتطورة وأنه بألف خير طالما تجد فيه العنب الدوماني والتفاح البلوداني والفستق الحلبي والتمر الديراني والراحة الدرعاوية, فإذا توافرت جميعها فهذا دليل على سهر المسؤولين المعنيين لتأمينها خدمة للمواطن ورفعاً لإسم "الوطن"...

-     لا يتكلم "مسؤولينا" الحكوميين إلا من وراء حجاب, ولا يمكن الوصول إليهم إلا بعد اتخاذ الأسباب وحمايتهم البسيطة المؤلفة من موكب رسمي أمامي وخلفي لابد منه, لأن اختيار المسؤول عندنا هي عملية معقدة للغاية... فلا يصبح المسؤول مسؤولاً في "وطننا" الحبيب إلا بعد أن يفني حياته بالعلم ويحصل على أعلى الشهادات الأكاديمية ويكتسب أرقى الخبرات العملية...   

-     في كل أصقاع الأرض يشرع القانون لتسيير وتيسيير أمور المواطنيين إلا في تلك البقعة من الأرض, فتشرع القوانيين للإستفادة من ثغراتها, حيث يسن لكل قانون ثغرة ويوضع على كل ثغرة مسؤول يسهر على إبقائها مفتوحة خدمة للمواطن "والوطن"...

-     تتجلى روح الوطنية هناك في أغنية "خبطة آدم تكون عالأرض هدارة" لفيروز, ومن يجرأ ألا يردد بصوت عالٍ "رعاك الله يا أسد... سلمت ويسلم البلد" لأصالة؟!

-     بدعوى الوطنية تستطيع أن تقتل وتدمر وتغتصب... بل وتمنح أيضاً وسام شرف, فالوطنية هناك كالخرقة البالية تستطيع أن تمحو بها جميع الذنوب وتمسح  بها جميع الخطايا... وبإسم "الوطن" تستطيع أن تُخوِن وتسحق أي قامة تخالفك الرأي...

-     أفهمونا بأن هواءنا المستنشق هو هواء منقى من قبل مصافي المسؤولين "الوطنيين", وماؤنا مفلتر بفلاتر المحبين "للوطن", وطعامنا نتاج خبرات المهندسيين الزراعيين وسياسة الإكتفاء الذاتي "الوطنية", وبالتالي كنتيجة طبيعية لإنسان يستنشق هواء الوطن الذي ينقون, ويشرب مائه الذي يفلترون, ويأكل طعامه الذي ينتجون, أن يهضم كل ذلك وبعد ساعتين سوف .... "وطن"!

-     وعندما أزفت الآزفة وحانت ساعة البرهان على قدسية "الوطن" والمواطن ...دمر "الوطن"... وتبخر نصف المواطنين قتلاً وتهجيراً ليركع النصف الآخر عبداً للوثن لا "للوطن"...

-     انتقلنا الى بقعة اخرى من الأرض, رأينا فيها كل خدمات الوطن المنشود ولكن لم نسمع يوماً قط اسطوانة "من أجل الوطن او المواطن" ولم نعلم بمسؤولين يمررون الصفقات ويتذرعون بعدها بأنها لحماية المواطن والوطن, و لم يردد مدراء المدارس الذين يخرجون الى الشارع لتنظيم دخول التلاميذ صباحاً وخروجهم ظهراً بأنهم يفعلون ذلك خدمة لآباء الطلاب والوطن, ولم يسوق رئيس أعلى سلطة سياسية في البلاد نفسه بأن كلامه مُنزل وأقواله هي مراسيم جمهورية وأفكاره مصدر إلهام وبأنه هو الواحد الأوحد الذي يستطيع أن يحمي المواطنين والوطن, ولم نسمع من وزارة الصحة التي تقدم خدمات علاجية مجانية لجميع المواطنين بأنها قالت للمواطنين يوماً بأن الخدمة المجانية منحت لكم لأنكم مواطنون صالحون تهتفون للحزب الحاكم وبالتالي هذه خدمة للمواطن والوطن, ولم يقل لي رئيس أكبر جامعة في الولاية التي أعيش فيها والذي كان مستلقٍ تحت سيارته الخاصة القديمة ليصلح عطلها عندما كانت درجة الحرارة 10 تحت الصفر بأنه يفعل ذلك فدى للطلاب و والوطن, ولم نر تفرقة بين الأبيض والأسود أو الناطق بالضاد و"بالقاف" أو المدني والعسكري أو الوزير و الرذيل أو الرئيس و المرؤوس, فكلهم سواء أمام القضاء... ولا يعلو صوت فوق صوت القانون...

-     عندما يتعلم أولادنا من قبل أساتذتهم حب العطاء للفقراء في غانا ومساعدة كبار السن في "السوبر ستور" وتقديم يد العون للمعاقين في الطرقات, لم يعللوا ذلك بحب الوطن ويتمسحو بجنباته, بل أقل ما كان يقال بأنه واجب إنساني وأخلاقي...

-     عندما يدرّس دكاترة الجامعة طلابهم آخر التطورات العلمية والتكنولوجية وأحدث الإبتكارات الهندسية وبعد أشهر قليلة تجدها مطبقة في حياتنا العملية وفي مشافينا ومدارسنا وطرقاتنا وأماكن عملنا, لم يكن ليخرج أحد ويتبجح ويمن علينا بأنهم يفعلون ذلك حباً للمواطن والوطن...

-     عندما تقف أنت ورئيس دولتك نداً للند أمام القانون, وعندما ترى بأن جميع المواطنين يحصلون على جميع الحقوق دون استثناء... تشعر وقتها بأن حب هذا الوطن يسري في عروقك شئت أم أبيت من غير أن يذكرك أحد بسمفونية "من أجل المواطن والوطن"... فحب الوطن هنا نبض متجدد دائم أما حب الوطن هناك ينتهي بعد تمام عملية الهضم...

-     عندما ترى بأن حقك في الحياة الكريمة مضمون, والتعليم الأساسي إجباري, والجامعي متاح للجميع, والضمان الصحي مجاني, والعمل مكفول والعاطل عن العمل مغطى مادياً حتى يعمل, والمساواة والنقد وحرية التعبيروالصحافة مكفوليين بحكم القانون, وقتها تعلم معنى الوطن المنشود...

-     هنيئاً لمن يدافع ويعتبر البقعة الأولى من الأرض هي "وطن"... وطن قائم على الولاءات والشعارات... وهنيئاً لمن حظي بوطن قائم على الحقوق والواجبات...

-     اعذريني سوريتي فلن أنس يوماً أنني ولدت على أرضك وتنفست هوائك وأكلت من خيراتك وسيبقى الحنين إليك أبداً, لكن ذلك كله لا يترجم بكلمة "وطن" بل لا يعدو كونه إنتماء مكاني وإعتياد ثقافي...أما الوطن المنشود فكرامة إنسانية وعدالة إجتماعية... 

وسوم: العدد 653